"تأثير الحرباء".. لماذا يبدو الأزواج بعد فترة من الزمن وكأنهم يشبهون بعضهم بعضا؟!

يبدأ الأمر بتعرُّفك إلى شخص تنسجم معه كثيرا، تقضيان وقتا طويلا معا، ويصبح من أصدقائك المقربين، تلاحظ أو يُعلِّق مَن حولك كيف أصبحت تردد بعض الكلمات التي يكررها في حديثه، وكيف تنسخ أحيانا ابتسامته وربما طريقته في التحدث، هل لاحظت في بداية تعارفكما كيف يكرر كثيرا كلمة "كليا"، واليوم تلاحظ أنك ترددها في حديثك أيضا؟

لست وحدك هنا، فدائما ما يظهر التشابه بين الأصدقاء أو الأزواج، حتى إن هناك مثلا شعبيا يدور حول العالم بصيغ مختلفة يقول إن الزوج والزوجة يصبحان، بعد فترة، متشابهين، حتى في الملامح الشكلية، لكن ذلك ليس حقيقيا، فوجهك لن يتعدل تشريحيا مع الزمن، لكن هناك شيء آخر مهم يعطي هذا الانطباع.

هنا بدأ التقليد

كانت المحاكاة والتقليد هي الطريقة التي تعلَّمنا بها الحركة والكلام منذ الطفولة، دائما ما كان علينا ملاحظة أفعال الآخرين وتعبيراتهم لنعرف ما السلوك المقبول اجتماعيا، وكانت هذه هي طريقة الجنس البشري للبقاء والتطور؛ ملاحظة الأفراد الأقوى والأكثر ذكاء في المجتمع ومَن يتمتعون بمكانة اجتماعية أعلى ومن ثم محاكاتهم.(1)

هكذا أسهم التقليد في تطور المجتمعات البشرية ومساعدة الناس على ارتباط بعضهم ببعض، وصارت لدينا تلك الحاجة إلى أن نتبع -بشكل ما- المعايير التي يفرضها علينا الأشخاص من حولنا، لمطابقة أفعالنا مع أفعالهم بصورة تلقائية، إنها بداية تعلُّمنا لكل شيء؛ المشي والكلام واللغة والموسيقى، لكن ماذا عن تلك الأفعال الصغيرة والكلمات التي تدخل في قاموس تعبيراتنا دون أي قصد؟ (2)

(شترستوك)

قبل نحو عقدين نشر عالم الاجتماع "جون أ بارغ"، بالاشتراك مع عالمة النفس الاجتماعي تانيا شارتراند، ورقة علمية في مجلة "جورنال أوف برسوناليتي آند سوشيال سايكولوجي" (Journal of Personality and Social Psychology)، حول ما يُعرف بـ"تأثير الحرباء" أو الميل اللا واعي إلى تقليد سلوك الآخرين، بالشكل الذي يغير سلوك الفرد دون قصد ليتناسب مع سلوك المحيطين به في البيئة الاجتماعية.

إعلان

أجرى الباحثان ثلاث تجارب لمراقبة الآلية التي يعمل بها تأثير الحرباء، في التجربة الأولى، وصف المشاركون انطباعهم عن بعض الصور، بينما كان الباحث يقوم ببعض الحركات عن عمد لمراقبة تأثيرها على المشاركين في التجربة، فكان يبتسم أحيانا أو يهز قدميه أو يفرك وجهه، وكان أغلب المشاركين يميلون إلى تقليده دون وعي، حتى إنهم لم يلحظوا الأمر عندما سُئلوا عن ذلك.

في التجربة الثانية أراد الباحثان التعرف على تأثير تقليد الآخرين لنا، انقسم المشاركون إلى مجموعتين ودخل مع كل مجموعة عدد من الممثلين، قلَّد الممثلون في المجموعة الأولى حركات وإيماءات المشاركين، والتزم الممثلون في المجموعة الثانية بسلوكيات محايدة، وتبين أن المشاركين الذين قلَّدهم الممثلون أكثر ميلا إلى القول إن التفاعل كان أكثر سلاسة، وكانت لديهم مشاعر ودية تجاه المتفاعلين معهم، بخلاف المجموعة الأخرى التي التزم فيها الممثلون بالحياد. الحقيقة التي يكشفها لنا ذلك أننا نميل بشكل لا إرادي ربما نحو أولئك الذين يشبهوننا أو يقلدوننا.

ومع ذلك يبقى السؤال الأهم: لماذا نميل إلى تقليد أناس معينين دون غيرهم؟ في التجربة الثالثة حدد الفريق مسبقا درجة التعاطف بين الأفراد، ليتبيَّن أن زيادة درجة التعاطف كانت تزيد احتمال تقليدهم لسلوكيات الشركاء، هكذا يظهر تأثير الحرباء أكثر بين مَن يثيرون تعاطفنا، إذ نوليهم مزيدا من الاهتمام، ونلاحظ كل سلوكياتهم، وتتشكل بيننا روابط أعمق، ما يجعلنا أكثر عُرضة لأن نقلدهم. يشير الباحثان أيضا إلى أن مجرد إدراك سلوك شخص آخر يزيد تلقائيا من احتمالية انخراط الفرد في هذا السلوك، لذا يظهر هذا التأثير عندما نتعايش ونتفاعل مع مجموعة من الأفراد لفترة كافية.

ما هو إيجابي في تأثير الحرباء

1688058088 (شترستوك)

يُضفي "تأثير الحرباء" تأثيرا إيجابيا على التفاعلات الاجتماعية البشرية، فيساعدنا على الترابط مع مَن نحبهم حتى دون وعي منا، يبدو مثل سحر خفي يُغلِّف كل تفاعلاتنا بالمتعة والسلاسة ويزيد من الإعجاب بين شركاء التفاعل، وكما كشفت الورقة التي نشرتها مجلة "جورنال أوف برسوناليتي آند سوشيال سايكولوجي"، يشمل "تأثير الحرباء" الإيماءات وتعبيرات الوجه وحركات اليدين واهتزاز القدم والتثاؤب وأنماط الكلام وبعض السلوكيات.(3)

إعلان

ويظهر "تأثير الحرباء" في جوانب كثيرة من سلوكياتنا، حيث تنقلب إحدى الجلسات بمجرد أن ينظر أحدهم إلى هاتفه، فيبدأ نصف الجالسين حوله تقريبا في تلمس هواتفهم. في دراسة نشرتها "مجلة جورنال أوف إيثولوجي" (Journal of Ethology) عام 2021، تابع الباحثون نحو مئتي رجل وامرأة في مواقف مختلفة في الحدائق والمطاعم ووسائل النقل العام وغرف الانتظار وحفلات العشاء، ودرسوا مدى تأثرهم بوجود أحد الأفراد ينظر في هاتفه، ليجد الباحثون أن نحو 50% من الأشخاص نظروا إلى هواتفهم في غضون 30 ثانية من إمساك أحد منهم بهاتفه.

كان سلوك المحاكاة -كما أوضح الباحثون- سريعا وتلقائيا ولا شعوريا، وكانت الاستجابة متقاربة على اختلاف الفئات التي أُجريت عليها التجربة، ولم يكن الأمر متعلقا بإدمان الهاتف كما قد يبدو، إذ غالبا لا يطيل هؤلاء النظر إلى الهاتف، إنهم لا يطالعون شيئا على وجه التحديد، إنه فقط "تأثير الحرباء". (4)

تكشف الأبحاث إذن أن التقليد هو جزء من رغبتنا في زيادة الانتماء والتواصل مع الآخرين، لكن هناك تفسير آخر لا يقل أهمية هو أننا حين نلازم أناسا بعينهم لوقت طويل، فإننا نبدأ في التأثر لا إراديا بأفعالهم وكلماتهم، بحيث ترِد تعبيراتهم إلى أذهاننا ونجدها الأقرب عند البحث عن معنى مشابه، فنردد الكلمات التي طالما سمعناها منهم، وعموما فإن هذا الانعكاس (Mirroring) لأفعال الآخرين يعني أن المتحاورين يستمتعون بتواصلهم، وأن هناك مستوى معينا من الاتفاق بينهم. (5)

هل تتشابه الوجوه أيضا؟

(شترستوك)

التعبيرات والكلمات تجعلنا نبدو متشابهين أكثر مما نتوقع، حتى إن الأمر امتد للحديث عن تشابه ملامح الأزواج أحيانا بعد فترة طويلة من الزواج، ما أثار اهتمام علماء النفس لسنوات. في عام 1987، نشرت مجلة "موتيفيشن آند إيموشن" (Motivation and Emotion) دراسة تبحث فيما إذا كان الأزواج يتشابهون جسديا في ملامح وجوههم بعد فترة طويلة من الزواج، ومن خلال مقارنة صور مجموعة من الأزواج في بداية زواجهم ثم بعد مرور 25 عاما، كشفت النتائج أن هناك بالفعل زيادة في التشابه بدت بعد سنوات من التعايش، الأكثر من هذا أن زيادة التشابه بين الزوجين ارتبطت بزيادة معدلات السعادة الزوجية وفق تأكيدات هؤلاء الأزواج.

إعلان

لكن بعض تفسيرات هذه الظاهرة التي أشارت إليها الدراسة هي نظرية التأثير العاطفي، التي تفيد بأن التعبيرات العاطفية المتشابهة، والاستخدام المتكرر لعضلات الوجه بالشكل ذاته، قد يؤثر دائما على الملامح، وهكذا حين يعيش شخصان معا لفترة طويلة من الوقت، ونظرا لتعرُّضهما للتجارب ذاتها وتشاركهما أغلب المشاعر تتشابه ملامح وجهيهما نسبيا، فقط بمجرد الاتصال الاجتماعي طويل الأمد. تُرجع الدراسة هذا التشابه جزئيا أيضا إلى حقيقة تعايش الأزواج لفترات طويلة، وأنهم يتبعون في الغالب النظام الغذائي نفسه ويشتركون في العادات نفسها ونمط الحياة وكل أحداثها.(6)

(شترستوك)

لكن هذه النتائج لم تخلُ من شكوك. بعد عقود، استخدم باحثون في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة التكنولوجيا للبحث في الأمر، فجمعوا نحو خمسمئة صورة لأزواج في بداية زواجهم، في عقد العشرينيات، ثم جمعوا صورا لهم في الستينيات لتحليل مدى التشابه، عرض الباحثون صورة أحد الأشخاص وفي المقابل صورة للزوج مع عدة صور أخرى، وطُلب من متطوعين تحديد أكثر الوجوه شبها بهذا الشخص، كما أُجريت التجربة لاحقا باستخدام أحدث برامج التعرف على الوجه.

كانت النتائج مختلفة، إذ أشارت الدراسة التي نشرتها مجلة "ساينتيفيك ريبورتس" (Scientific Reports) عام 2020 إلى أنه ليس هناك دليل علمي على كون الأزواج يتشابهون مع الوقت، هناك كثيرون منهم متشابهون بالفعل، لكن أحد مبررات ذلك أن هؤلاء الأفراد اختاروا من البداية أكثر الأشخاص شبها بهم (7)، وربما كان تشابه التعبيرات والإيماءات وبعض ردود الأفعال هو ما يوحي بوجود ذلك التشابه.

أساس بيولوجي

(شترستوك)

تُشير بعض الأبحاث إلى سبب بيولوجي يجعلنا نميل إلى تقليد مَن حولنا. لدينا نوع من الخلايا العصبية يُطلق عليه "الخلايا العصبية المرآتية" تستجيب بشكل متساوٍ عندما نقوم بعمل ما وعندما نرى آخرين يقومون بالفعل نفسه، وتُفسِّر هذه الخلايا العصبية شعورنا بالتعاطف مع الآخرين، مما يدفعنا إلى تقليدهم، كما تسمح لنا بالتعلم من خلال التقليد. من خلالها، نكتشف اللغات والآلات الموسيقية والمهارات والحركات الأخرى فقط بمجرد مراقبة الآخرين، وتتعمق درجة تعاطفنا مع الآخرين، وهذا التعاطف هو ما يلهمنا لا شعوريا بتقليد مَن حولنا.(8)

إعلان

بقي لدى اللغويين تفسير آخر لما يحدث، يُطلق عليه "التقارب اللغوي"، وهو ما يحدث حين تتابع مسلسلا ناطقا بلهجة ما غير لهجتك فتجد نفسك تميل إلى تقليدها وإدخال بعض ألفاظها في حديثك بمرور الوقت. الحقيقة هي أننا عادة ما نميل إلى التحدث باللهجة التي نعايشها مدة من الوقت، فنستخدم بعض الكلمات أو تراكيب الجمل أو نقلد طريقة النطق، وهو ما يحدث أيضا حين تتحدث مع أحد الأطفال فتحاول تقليد طريقته في الكلام.

إننا نتأثر بمَن نتحدث إليهم بحيث نُعيد غالبا استخدام المصطلحات التي يستخدمونها، يجعلنا ذلك نبذل جهدا أقل في البحث عن الكلمة المناسبة، فلقد سمعناها للتو، كما أن استخدام المصطلحات نفسها يلعب دورا في التواصل الجيد مع محاورينا. (9) يبدو طبيعيا إذن كيف أنك تتغير بشكل لا شعوري لتصبح أكثر شبها بأحد أصدقائك أو أفراد عائلتك المقربين، لا داعي هنا للقلق بشأن تميز شخصيتك، ما زلت مميزا، وتقليدك لبعض إيماءات وتعبيرات الآخرين لا يمحو السمات التي تجعلك فريدا أيضا، إنها فقط أحد انعكاسات التعاطف الاجتماعي مع محيطك.

___________________________________________

المصادر:

  1. The Surprising Truth About Why We Tend To Imitate Others
  2. Glancing at your phone quickly prompts other people to do the same
  3. The chameleon effect: The perception–behavior link and social interaction.
  4. Navigating from live to virtual social interactions: looking at but not manipulating smartphones provokes a spontaneous mimicry response in the observers
  5. Why We Copy People Around Us Without Even Realizing It
  6. Convergence in the physical appearance of spouses
  7. Spouses’ faces are similar but do not become more similar with time
  8. Why We Copy People Around Us Without Even Realizing It
  9. What makes us subconsciously mimic the accents of others in conversation
المصدر : الجزيرة

إعلان