من شركات النفط إلى عمالقة التكنولوجيا.. لماذا تتهرب الشركات من مسؤوليتها عن التغير المناخي؟

"الناس هم مَن بدؤوا التلوث، وهم مَن يستطيعون إيقافه"، كانت هذه هي الفكرة التي روَّج لها الإعلان التجاري الشهير "الهندي الباكي" (Crying Indian) الذي عُرض في السبعينيات. خلال الإعلان أدى ممثل دور مواطن محطم بسبب مشهد التلوث المتفشي، بينما يدين الصوت الخلفي في الإعلان الأشخاص الذين ساهموا في حدوث التلوث ويُصوِّر بعضهم وهم يُلقون المخلفات من نوافذ السيارات، بينما تقترب الكاميرا من دمعة تنحدر من عين الرجل المتألم بسبب التلوث.
نظريا كان الهدف المُعلن من الإعلان هو توعية الأشخاص بدورهم في حدوث التلوث ودورهم في الحدّ منه. لكن واقعيا، لم يكن الإعلان إلا دعاية بارعة من شركات صناعات المشروبات والحاويات، مُصمَّمة لإلقاء المسؤولية عن مشكلة القمامة على المستهلكين وليس الشركات المُصنعة.(1)
كان هذا النهج جيدا لدرجة أن صناعة الوقود الأحفوري تتبنى، الآن، الإستراتيجية نفسها لتُخبر الأشخاص أنهم مسؤولون عن أزمة تغير المناخ بسبب بصمتهم الكربونية. تُعَدُّ انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن استخراج الوقود الأحفوري وحرقه من العوامل الرئيسية المساهمة في كلٍّ من تغير المناخ وتلوث الهواء. بشكل فعلي، تتحمل شركات الوقود الأحفوري الكبرى أو الشركات التي تستهلك الكثير من هذا الوقود للقيام بأعمالها المسؤولية الأكبر عن هذه الكارثة، لكن ما يحدث الآن أن بعض هذه الشركات تحاول التنصل من مسؤوليتها عن أزمة التغير المناخي وتُحمِّلها للأفراد، أو على الأقل تحاول هذه الشركات جعل الأفراد شركاء أساسيين في أزمة التغير المناخي، ما يعني أن عليهم دورا كبيرا في حلّها!
قنبلة تُهدد البشرية
قبل نحو 14 عاما من الآن، تحديدا في عام 2008، صدر التقييم الوطني الرابع للمناخ الذي أصدره الكونغرس الأميركي، الذي حذَّر تحذيرا شديدا من تداعيات التغيرات المناخية وتأثيرها على المجتمعات. (2) في وقت لاحق، وجد تقرير لـ13 وكالة فيدرالية أميركية أن تغير المناخ أصبح محسوسا الآن في المجتمعات في جميع أنحاء البلاد، وتوقع أن يشهد العالم دمارا واسع النطاق ومتزايدا مع ارتفاع درجات الحرارة ومستويات سطح البحر، بالإضافة إلى تفاقم حرائق الغابات وتزايد العواصف الشديدة التي تؤدي إلى آثار ضارة متتالية على البنية التحتية.(3)
وفقا لمنظمة الصحة العالمية، يؤثر تغير المناخ كذلك على حياة الإنسان وصحته بطرق متنوعة، حيث يهدد المكونات الأساسية للصحة الجيدة، وعلى رأسها الهواء النظيف، ومياه الشرب الآمنة، والإمدادات الغذائية، والمأوى الآمن.(4) إذا استمر الاتجاه الحالي في استخراج الوقود الأحفوري على مدار الأعوام القادمة كما حدث خلال الأعوام الماضية، فمن المحتمل أن يرتفع متوسط درجات الحرارة العالمية بمقدار 4 درجات مئوية بحلول نهاية القرن، ومن المحتمل أن يؤدي هذا إلى انقراض بعض الأنواع وندرة كبيرة في الغذاء في جميع أنحاء العالم.
وفقا لمنظمة الصحة العالمية أيضا، من المتوقع بين عامَيْ 2030-2050 أن يتسبب تغير المناخ في حدوث ما يقرب من 250 ألف حالة وفاة إضافية كل عام بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري وحده. تُقدَّر تكاليف الأضرار المباشرة على الصحة بما يتراوح بين 2-4 مليارات دولار أميركي سنويا بحلول عام 2030، مع توقُّع أن تكون البلدان النامية هي الأقل قدرة على التأقلم، ويجب أن تحصل على المساعدة لتتمكَّن من الاستعداد والمواجهة.(4)
الشركات لها نصيب الأسد

تُشير العديد من التقارير إلى أن التغير المناخي وآثاره السلبية، السابق ذكرها، تقع مسؤوليته بدرجة كبيرة على الشركات أكثر من الأفراد أو المستهلكين. تُشير دراسة مُفصَّلة إلى أن هناك تحديدا نحو 90 شركة فقط هي المسؤولة عن حدوث معظم تغيرات المناخ. أجرى الدراسة الباحث ريتشارد هيد الذي قضى معظم حياته في كولورادو وحصل على درجتَيْ البكالوريوس والماجستير في الجغرافيا من جامعة كولورادو. جمع هيد قاعدة بيانات ضخمة تُحدِّد كميًّا المسؤولين عن إخراج الكربون من الأرض وإيصاله إلى الغلاف الجوي، حيث أظهرت النتائج أن ما يقرب من ثلثي انبعاثات الكربون البشرية المنشأ تسببت فيها 90 شركة ومصنعا، هذه المجموعة من الشركات هي مصدر 635 مليار طن من غازات الدفيئة المنبعثة منذ عام 1988، وهو العام الذي اعتُرِف فيه رسميا بتغير المناخ بفعل الإنسان.(5)
تُشير الدراسة إلى أن هذه الشركات الـ90 إما أطلقت الكربون بنفسها أو وفرت الكربون الذي أطلقه المستهلكون في النهاية. أثارت هذه الدراسة الجدل عندما نُشرت في عام 2013، واشتكى البعض من أنها حمَّلت صناعة الوقود الأحفوري بشكل غير عادل مسؤولية خيارات الحياة التي يتخذها مليارات المستهلكين. بينما رأى آخرون أن الدراسة كانت نقطة تحوُّل في النقاش حول توزيع المسؤولية عن تغير المناخ. يقول كارول موفيت، الرئيس والمدير التنفيذي لمركز القانون البيئي الدولي في واشنطن العاصمة: "لعقود من الزمان، كانت هناك "أسطورة" مستمرة التداول مفادها أن الجميع مسؤولون، وإذا كان الجميع مسؤولا، فلن يكون هناك، في الواقع، أحد مسؤول".(6) هذا يجعل التوزيع العادل الحقيقي والواقعي للمسؤولية جزءا أساسيا ومباشرا في حلّها. (5)
فشل الشركات في تحقيق تعهداتها
نتيجة لكل ما سبق، تتعرض الشركات لضغوط عديدة لتقليص تأثيرها البيئي، حيث يرغب المزيد من المستهلكين في التحول نحو المنتجات الخضراء. ويعد "تصفير" انبعاثات الكربون هو الهدف الذي يقول العلماء إن العالم يجب أن يصل إليه بحلول عام 2050 للحدّ من ارتفاع درجات الحرارة العالمية. تنجم الانبعاثات عن الكثير من الأشياء، بدءا من نقل البضائع إلى الطاقة المستخدمة في المصانع أو المحلات، كما أن البصمة الكربونية لزراعة المحاصيل أو قطع الأشجار لها دور في زيادة الغازات الدفيئة.
على سبيل المثال، يُعَدُّ قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مصدرا أساسيا لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وذلك نظرا لارتفاع طلب هذا القطاع على الطاقة، حيث تساهم مراكز البيانات المستخدمة لتشغيل الخدمات الرقمية الآن بنحو 2% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية، مما يجعل قطاع تكنولوجيا المعلومات يقف على قدم المساواة مع قطاع الطيران. وفقا لمبادرة الاستدامة الإلكترونية العالمية (GeSI)، فإن قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لديه القدرة على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية بنسبة 20% بحلول عام 2030، وذلك من خلال مساعدة الشركات والمستهلكين على استخدام الطاقة وتوفيرها بشكل أكثر ذكاء.
وفيما يبدو، حاولت بعض شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بذل المزيد من الجهد للحدّ من تأثيرها السلبي على المناخ والحدّ من تغير المناخ، تحاول هذه الشركات الاستفادة بشكل متزايد من الطاقة المتجددة، خاصة طاقة الرياح والطاقة الشمسية. على سبيل المثال، في عام 2016، حددت شركة فيسبوك هدفا يتمثَّل في تشغيل نصف عملياتها باستخدام الطاقة النظيفة بحلول نهاية عام 2018. كذلك تعهَّدت شركة "أدوبي" بتشغيل جميع عملياتها بالكامل باستخدام كهرباء متجددة بنسبة 100% بحلول عام 2035.(7)
لكن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه بسلاسة، فوفقا لتحليل صادر عن معهد المناخ الجديد (NewClimate) بالتعاون مع مراقبة سوق الكربون (Carbon Market Watch)، نُشر في شهر فبراير/شباط من العام الجاري، فإن الشركات الكبرى تفشل إلى حدٍّ كبير في تعهداتها المناخية. خلص التحليل إلى أن الإستراتيجيات المطبقة من الشركات عموما، في حال تنفيذها، ستُقلِّل الانبعاثات بنسبة 40% على الأكثر، وليس بنسبة 100% كما هو مُستهدف.
قام التقرير بتقييم 25 شركة كبرى، تعمل في مختلف القطاعات والمناطق الجغرافية، لتحديد شفافية ونزاهة تعهداتها الرئيسية المتعلقة بالمناخ. قُيِّم تعهد المناخ الصفري "أي سياسة تصفير الانبعاثات" لشركة واحدة فقط بأنه يتمتع بـ"نزاهة معقولة"، في حين أن هناك ثلاث شركات قُيِّمت بتعهداتها بدرجة "معتدل"، بينما قُيِّمت تعهدات 10 شركات أخرى بأنها "منخفضة" النزاهة، وصُنِّفت الـ12 شركة المتبقية على أن تعهداتها تتمتع بنزاهة "منخفضة للغاية". يقول التقرير إن الشركات التي حُللت بياناتها مسؤولة عن 5% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، مما يعني أن لديها بصمة كربونية ضخمة، الأمر الذي يجعل لهذه الشركات إمكانات ومسؤولية هائلة للقيادة في الجهود المبذولة للحدّ من تغير المناخ.
وفقا للتقرير، فقد احتلَّت شركة "ميرسك" (Maersk)، وهي شركة دنماركية دولية للشحن الصدارة بنزاهة معقولة، تلتها شركات "أبل" (Apple) و"سوني" (Sony) و"فودافون" (Vodafone) بنزاهة معتدلة. في حين وجد التحليل أن التعهدات الرئيسية لشركات مثل "أمازون" (Amazon) و"غوغل" (Google) و"كارفور" (Carrefour) و"نستله" (Nestlé)، و"ول مارت" (Walmart) كانت ذات نزاهة منخفضة. (8)، (9)
"الهندي الباكي".. مَن بدأ المأساة يُنهيها!
نعود لإعلان "الهندي الباكي" الذي دفعت تكاليفه مجموعة "حافظ على أميركا جميلة" (Keep America Beautiful)، وهي مجموعة أسَّسها في الخمسينيات مجموعة من قادة شركات المشروبات وشخصيات عامة أخرى. أعلنت حملة "حافظ على أميركا جميلة" أنها ضد إلقاء القمامة، لكنها من ناحية أخرى عرقلت التشريعات التي كانت تطالب أن تكون العبوات التي تُنتجها الشركات قابلة للإرجاع أو قابلة لإعادة التدوير. وبدلا من معالجة السبب الجذري لمشكلة القمامة في أميركا، وهو وجود المزيد من العبوات التي تُلقى في القمامة، ركزت الحملات الإعلانية على السلوك السيئ لبعض المستهلكين. وحسب فينيس دونواي، أستاذ التاريخ البيئي الأميركي بجامعة ترينت في كندا: "كانت الشركات تتلاعب بالصور والمشاعر لإلقاء اللوم وتحميل عبء التلوث على الأفراد".(10)
ما حدث في السبعينيات تحاول صناعة الوقود الأحفوري تبنيه وتكراره الآن، فتُخبر الأشخاص أنهم مسؤولون عن أزمة تغير المناخ بسبب بصمتهم الكربونية. البصمة الكربونية هي الكمية الإجمالية للغازات الدفيئة، بما في ذلك ثاني أكسيد الكربون والميثان، الناتجة عن أفعالنا. يبلغ متوسط البصمة الكربونية للشخص في الولايات المتحدة 16 طنا، وهو أحد أعلى المعدلات في العالم. لتجنُّب ارتفاع درجات الحرارة العالمية بمقدار درجتين ونصف، يجب أن ينخفض متوسط البصمة الكربونية العالمية سنويا بحيث إلى أقل من 2 طن للفرد بحلول عام 2050.
يتطلب تحقيق هذا الهدف إجراء العديد من التغييرات على أفعالنا، مثل تناول كميات أقل من اللحوم، وتسيير عدد أقل من رحلات الطيران. هذا الأمر صحيح بالطبع، لكن الشركات أبرزته بشكل خاص لتتنصَّل، ولو جزئيا، من مسؤوليتها عن حدوث التغير المناخي، أو لكي تجعل على الأقل المسؤولية مناصفة بين الشركات والأفراد.(11)

وفقا لتقرير نشرته "نيويورك تايمز"، ففي عام 2004، استأجرت شركة "بريتيش بتروليوم" (BP)، وهي ثاني أكبر شركة نفط غير حكومية في العالم، شركة العلاقات العامة "Ogilvy & Mather" لتحسين صورتها جزئيا من خلال نقل رسالة مفادها أن مستهلكي النفط والغاز الطبيعي يتحملون المسؤولية عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وليس المنتجون. هنا روَّجت شركة "بريتيش بتروليوم" لأول مرة لمصطلح "البصمة الكربونية"، وسرعان ما نجحت في تعميمه. أطلقت الشركة "حاسبة البصمة الكربونية" الخاصة بها في عام 2004، التي تُمكِّن المرء من أن يُقيِّم كيف أن حياته اليومية العادية، التي تشمل أنشطة مثل الذهاب إلى العمل وشراء الطعام والسفر، هي المسؤولة إلى حدٍّ كبير عن رفع درجة حرارة الكرة الأرضية. (12)
بعد ذلك في عام 2005، أُذيع إعلان تلفزيوني من شركة "بريتيش بتروليوم"، يُظهر أفرادا من الجمهور وهم يقفون في الشارع ويسألون عن "بصمتهم الكربونية"، ويبدو معظمهم في حيرة من أمرهم. توضِّح "BP" أن البصمة الكربونية هي "كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة بسبب أنشطتك اليومية، بدءا من غسل حمولة سلة ملابسك المتسخة ووصولا إلى قيادة سيارة محملة بالأطفال إلى المدرسة.(10)
لم تكن شركة "بريتيش بتروليوم" وحدها من بين شركات النفط الكبرى التي تعمدت نقل وإبراز هذه الرسالة. فقد وجدت دراسة أجرتها كل من نعومي أوريسكس وجيفري سوبران بجامعة هارفارد نُشرت في مجلة "One Earth" أنه منذ عام 1972، استخدمت شركة "إكسون موبيل" (ExxonMobil)، وهي شركة نفط وغاز أميركية، باستمرار خطابا يهدُف إلى التنصل من المسؤولية عن تغير المناخ وإلقاء اللوم على المستهلكين، فقط لأنهم يريدون الاستحمام بالمياه الساخنة ويريدون الجلوس في المنازل الدافئة، وهي الأشياء التي يُحققها لهم الفحم والنفط والغاز. (5)
لكن أفعال التوفير والامتناع الفردية في البصمة الكربونية لن تمنحنا المسافة الهائلة التي نحتاج إلى قطعها في هذا العقد دون مشاركة جادة من الحكومات والشركات. في الحقيقة، نحن بحاجة إلى الخروج من عصر الوقود الأحفوري، وإعادة ترتيب مشهد الطاقة لدينا، والإجراءات الفردية الخاصة وحدها لا يمكنها التأثير على المشكلة في الوقت المناسب.(12) مع عدم إعفاء المستهلكين الأفراد من المسؤولية، من الواضح أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الشركات التي ينبغي أن تقود التحول العالمي بعيدا عن الكربون، وباتجاه مصادر الطاقة المتجددة. (13)
__________________________________________________
المصادر:
- Keep America Beautiful: The Crying Indian (1970)
- FOURTH NATIONAL CLIMATE ASSESSMENT
- climate-change-assessment
- Climate change
- New report shows just 100 companies are source of over 70% of emissions
- Just 90 companies are to blame for most climate change
- ICT Sector Helping to Tackle Climate Change
- Major companies largely fail net zero climate pledge test
- Climate change: Top companies exaggerating their progress – study
- How companies blame you for climate change
- Calculate Your Carbon Footprint
- Big oil coined ‘carbon footprints’ to blame us for their greed. Keep them on the hook
- Worrying About Your Carbon Footprint Is Exactly What Big Oil Wants You to Do