شعار قسم ميدان

مافيا التسول الإلكتروني.. هل نقل المتسولون أنشطتهم إلى الإنترنت؟

هناك ظاهرة شائعة بين مرتادي منصات التواصل الاجتماعي أنهم يحبون دائما قراءة التعليقات، سواء على المنشورات أو الصور، وبالأخص على فيديوهات يوتيوب. إذا كنت أحد عشاق قراءة التعليقات ربما صادفك ذات مرة تعليق مثل: "أرملة يمنية فقدت زوجها في الحرب ولدي سبعة أطفال يُرجى مساعدتي على رقم…"، أو قابلت مَن يحاول إثارة تعاطفك أكثر بذكر سوء حل به كأن يقول مثلا إنه "سوري فقد ابنه في الحرب ولا يريد فقد أطفاله المتبقين، كما أنه طُرد من عمله لأن مديره التركي يكره العرب". تعليقات تبث في قلبك الغضب تجاه العالم والطريقة التي يُدار بها، كما أنها تثير الغرائز الإنسانية خصوصا لو كان الفرد من ضحايا الحروب.

الأمر الذي قد يثير غضبك على العالم أكثر هو أن معظم هؤلاء الأشخاص -تحديدا أولئك المجهولين الذين يبثون هذا النوع من التعليقات على مواقع التواصل- محتالون وموهوبون في احتيالهم. على سبيل المثال ضُبِط شخص بحساب وهمي عبر إنستغرام منتحلا هوية إحدى الشخصيات الشهيرة، ويطلب مبلغا لمساعدة أسرة فقيرة، زاعما أنه يمكث حاليا خارج البلاد، وعند عودته سيُرجع المال مع مكافأة مالية كبيرة. هذا الاحتيال أصبح فنا يمارسه ويطبقه مَن يريد التسلق نحو الثراء بدون تعب، حتى إنه أصبح مهنة ينقصها فقط التسجيل في بطاقة الهوية.

تجارة التسول

(شترستوك)

يُطلَق على هذه الظاهرة اسم "التسول الإلكتروني"، وهي لا تختلف عن التسول التقليدي، فهي قائمة بالأساس على الخداع والتحايل للحصول على المال بطريقة غير قانونية. الجدير بالذكر أن هذا النوع من التسول ليس مقصورا على مواقع التواصل العربية، لكنه بات ظاهرة عالمية تفاقمت على وجه التحديد بعد جائحة كورونا، وشأنها شأن التسول التقليدي، بدأت في زعزعة الحد الفاصل بين المتسولين والمحتاجين الحقيقيين.

مع وجود المئات من مواقع التسول عبر الإنترنت، أصبح من الشائع للمتسولين الرقميين التسجيل وامتلاك اسم المجال الخاص (الدومين) الخاص بهم على شبكة الإنترنت. نعم، الأمر أشبه بتدشين مشروع ما، وباستخدام خدمات الاستضافة المجانية أو غير المكلفة والمواقع المتخصصة مثل "GoFundMe"، في العادة يطلب المتسولون عبر الإنترنت من الجمهور المساعدة في العديد من الاحتياجات، بما في ذلك جراحة تكبير الثديين، والعلاج من أبسط الأمراض إلى أخطرها، لكنهم في العادة يعرضون أخطرها لجلب الاستعطاف أكثر مثل علاجات السرطان، كما لا يخجل بعضهم من التسول لشراء سيارة جديدة على سبيل المثال لا الحصر. (1)

يروج موقع "Begslist" على سبيل المثال بديلا إلكترونيا للتسول في الشوارع، وبالتالي "القضاء على العار والإحراج أو التقليل منهما". في بعض الحالات، تنشر النساء صورا مفعمة بالحيوية مع رسائل يائسة تطلب المال، وفي بعض الأحيان تُنشر هذه الرسائل بالأسماء الكاملة.

على صفحات الموقع، سوف تصادف رسالة لفتاة أسترالية تبلغ من العمر 18 عاما مع صورة شبه عارية ورسالة تُفيد أن إيجارها ارتفع وأنها في وضع سيئ ولا تجد مَن يساعدها، لذلك قررت خوض هذه التجربة، فيما لم تتحرج أخرى من طلب المال من أجل إجراء عملية تجميل للثدي. وقبل أسبوعين، طلبت طالبة في ملبورن مبلغ 3000-4000 دولار للرسوم الجامعية، قائلة إنها "عاطلة عن العمل حاليا، مما يجعل كسب هذه الأموال أمرا صعبا ومرهقا للغاية بالنسبة لها". لم يدفع أحد المال لأولئك النسوة، ربما لم يُعبِّروا عن مآسيهم بشكل صحيح، مَن يدري، لكن هناك رجل تفوق عليهم واستطاع الحصول على المال، حتى إن أحدهم قال بوضوح إنه يذهب للعمل فقط لدفع الإيجار، ليس إيجاره، بل إيجار هذا المتسول الرقمي.

نحن نتحدث هنا عن يوفان هيل، وهو "شحاذ رقمي" بالمعنى الحرفي للكلمة. هيل رجل عاطل عن العمل في بروكلين، يقضي أيامه في طلب تبرعات من الغرباء على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الآن غارق في عطايا الآخرين. قالت تغريدة أُرسلت في وقت سابق من هذا العام من موظف مصرفي يبلغ من العمر 23 عاما في أوكلاهوما سيتي: "السبب الوحيد الذي جعلني أستيقظ وأذهب إلى العمل كل يوم هو حتى أتمكَّن من تقديم أموال ليوفان كي يدفع الإيجار". (2)

يمتلك هيل موهبة كبيرة، وهو يمارس الاحتيال بفن يجعلك تتعجب من طريقته. لا يقدم يوفان لـ"معجبيه" أي شيء سوى فرصة مشاهدته، ومع ذلك، فإنهم يصبون عليه المال صبا. لدى يوفان أكثر من 200,000 متابع على وسائل التواصل الاجتماعي موزعين على منصات مثل بريسكوب ويوتيوب وإنستغرام وتويتر، وهو يوجِّههم مثل قائد سيمفونية. ولكن ليس كل المتسولين محظوظين مثل هيل ولديهم معجبون بآلامهم المعاصرة، والأغلب منهم يتبع قائدا أو وسيطا ما، ويأتي في آخر اليوم ويدفع له جباية الحماية.

جباية المافيا

الآن، بِتنا مدركين أن التسول الإلكتروني مثله مثل التسول في الشوارع هو وسيلة لكسب المال بسهولة، ولا علاقة له في كثير من الأحيان بالحاجة المادية أو الظروف الاقتصادية. وكما تحوَّل التسول على الأرض إلى شبكات أشبه بـ"المافيا" تُنظِّم عمل المتسولين في الشوارع والأزقة، بات الأمر ذاته ينطبق على الإنترنت.

هذه الوكالات هي جزء من إستراتيجية "تيكتوك" العالمية لتجنيد البث المباشر وتشجيع المستخدمين على قضاء المزيد من الوقت على التطبيق وفقا لتحقيق أجرته شبكة "بي بي سي".

في مخيمات اللاجئين السوريين على سبيل المثال، يفتح الأطفال المحتاجون البث المباشر على تطبيق التواصل الاجتماعي "تيكتوك" لساعات، ويطالبون بهدايا رقمية ذات قيمة نقدية، ويحصلون على تدفقات تصل إلى 1000 دولار في الساعة، لكنهم في النهاية لا يتلقون فعليا إلا جزءا ضئيلا من هذه الأموال التي تذهب فعليا إلى الوسطاء في مافيا التسول.

يقوم هؤلاء الوسطاء بتزويد العائلات بالهواتف والمعدات اللازمة لبدء البث المباشر، ويعملون مع وكالات تابعة لـ"تيكتوك" في الصين والشرق الأوسط منحت العائلات الوصول إلى حسابات على المنصة. هذه الوكالات هي جزء من إستراتيجية "تيكتوك" العالمية لتجنيد البث المباشر وتشجيع المستخدمين على قضاء المزيد من الوقت على التطبيق وفقا لتحقيق أجرته شبكة "بي بي سي". (3)

العصر الحديث يتطلب حلولا حديثة، ونظرا لأن خوارزميات "تيكتوك" تقترح المحتوى بناء على الأصل الجغرافي لرقم هاتف المستخدم، فإن الوسطاء يُفضِّلون استخدام بطاقات "SIM" بريطانية. لِمَ بالتحديد؟ يقولون إن الأشخاص من المملكة المتحدة هم الأكرم من حيث الهدايا.

ورغم أن الهدايا التي تُمنح هي هدايا افتراضية، فإنها تمتلك قيمة مادية حقيقية، فهي تُكلِّف المشاهدين أموالا يمكن سحبها من التطبيق نقدا. يرسل مشاهدو البث المباشر الهدايا، بدءا من الورود الرقمية، التي تُكلِّف بضعة سنتات، إلى الأسود الافتراضية التي تُكلِّف نحو 500 دولار، لمكافأة مقدِّم المحتوى.

المخيب للآمال كما ذكرنا أن العائلات في المخيمات صرَّحوا بأنهم لم يحصلوا إلا على جزء ضئيل من هذه المبالغ، تماما كما يفعل المسؤولون عن عصابات التسول على أرض الواقع، يُسرِّحون الناس ويعطونهم الفتات. رفضت منصة "تيكتوك" الإفصاح عن مقدار ما يُحصَل عليه من الهدايا، في حين أجرت "بي بي سي" تجربة لتتبع أين تذهب أموال الدعم من المشاهدين، فاتصل مراسل في سوريا بإحدى الوكالات التابعة للتطبيق قائلا إنه يعيش في المخيمات. حصل على حساب وبدأ البث المباشر، بينما أرسل موظفو "بي بي سي" في لندن هدايا بقيمة 106 دولارات من حساب آخر، فوجئوا في نهاية البث المباشر أن الرصيد في حساب المراسل السوري 33 دولارا، بما يعني أن "تيكتوك" ووسطاءها استحوذوا على 69% من قيمة الهدايا.

مهنة أم معضلة اجتماعية؟

منذ فترة ليست ببعيدة، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لشخص يتفاخر بامتهانه التسول، متباهيا أنه يدخن أفخم أنواع السجائر ويكسب ما يزيد على الخمسين ألف جنيه مصري شهريا من سؤاله المارة في الشوارع. انتشر الفيديو كالنار في الهشيم وشاركه المئات من المشاهدين، فألقت أجهزة الأمن القبض عليه في مدينة طلخا بمحافظة الدقهلية المصرية، وتبيَّن أنه سبق اتهامه بقضايا تسول في محافظات عدة. (4)

لكن امتهان التسول ليس شائعا في مصر فقط، فقد ضبطت السلطات الأردنية خلال السنوات الأخيرة آلاف المتسولين، بعدما تفشَّت هذه الظاهرة الاجتماعية لتصبح أسرع طريقة للثراء، وأضحت على قائمة المهن المنشودة، التي تمتلك مناطقها وقوانينها وأعرافها، بل إن الأمر تطور لاحقا إلى توسيع المتسولين أنشطتهم -كما يوسع التاجر سلسلة محلاته التجارية- والتسول خارج الأردن، ودخول دول أجنبية بتأشيرة سياحية لهذا الغرض، مما يؤكد أن التسول بات مهنة تقوم بها تنظيمات كاملة.

ووفق ما أكدته وزارة الخارجية وشؤون المغتربين، فقد رصدت السفارة الأردنية في نيروبي توقيف 40 سائحا أردنيا بتهمة التسول في شوارع المدينة. ولا يبدو أن قانون العقوبات الأردني الذي يعاقب المتسولين بالحبس والغرامة أصاب هدفه، إذ إن الظاهرة لم تُحجَّم، بدليل قيام نحو 80% من المتسولين الذين يُقبَض عليهم بالعودة إلى التسول مرة أخرى. (5)

(شترستوك)

وفيما يبدو، فإن الجائحة نقلت أنشطة شبكات المتسولين إلى الإنترنت الذي أثبت مزايا لا يُستهان بها. الميزة الأساسية التي يوفرها التسول عبر المنصات الإلكترونية هي القدرة على التنصل من قبضة السلطات. غاب المتسولون عن الشوارع، وابتعدوا عن أعين الهيئات المعنية بمحاربة التسول التي تلاحقهم، وتقنَّعوا خلف شاشات هواتفهم ليمارسوا مهنتهم بكل ذكاء وحرفية، مُلوِّحين تارة بتقارير طبية مزورة استجداء للعواطف، وتارة أخرى بفواتير ومطالبات مالية متراكمة أو رسوم جامعية لم تُدفع، حتى إن أحدهم نشر مرة أن الدواء الذي يتعاطاه غالٍ جدا وأنه يحتاج إلى المساعدة، وكان هذا الدواء هو مجرد مكمل غذائي لتحسين مظهر الشعر والأظافر.

الآن، بما أنك أصبحت واعيا بالأنماط التي يستدر المتسولون عطفك من خلالها، يجب عليك الحيطة من الوقوع في الفخ. من جانبها، عمدت الحكومات إلى وضع قوانين لمكافحة التسول الإلكتروني، وملاحقة جامعي التبرعات غير المرخصة وفق النظام والقانون عبر وسائل التواصل الاجتماعي. غير أن هناك مَن يرى أنه لا بد من النظر بعين الشفقة والعاطفة إلى بعض مَن هم بحاجة حقا إلى مساعدة، ومد يد العون لهم لانتشالهم من مخاطر الوقوع في دائرة العنف أو السرقة. والحل الأسلم هنا دوما هو التبرع للجمعيات المشهرة بأرقام والمرخصة، أو لأشخاص معروفين وموثوقين في محيطك الشخصي، حتى لا تقع فريسة للتردد بين التبرع للمحتالين، وبين الشعور بالذنب لرفضك مساعدة المحتاجين.

_________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة