ليست للأطفال فقط.. لماذا علينا أن نجرب القراءة بصوت عالٍ؟

القراءة

في الطفولة بدأنا تعلُّم القراءة بصوت مرتفع، قبل أن نُجيدها أكثر وتصبح القراءة في صمت -مثل الكبار- هي القاعدة، حيث نكاد اليوم لا نقرأ بصوت مسموع إلا للأطفال، أو في حالات استثنائية عندما تواجهنا كلمة لا نعرفها أو نص يصعب فهمه. ورغم ذلك، فإن لتلك الممارسة فوائد عديدة للبالغين أيضا وليس للأطفال فقط كما نعتقد، فما الذي يحدث داخل عقولنا حين نسمع النصوص بأصواتنا؟

 

ذاكرة أفضل وروابط عاطفية أقوى

تُقدِّم لنا القراءة بصوت عالٍ فوائد متعددة، فهي تساعد في تحسين الذاكرة، وهي ملاذنا لفهم النصوص المعقدة، إلى جانب أنها تقوي الروابط العاطفية بيننا حين نتشارك القراءة. ذلك الاتصال بين عقلك وصوتك يؤدي إلى التركيز الشديد، ويساعدك على تسخير طاقتك بأكملها لمهمة القراءة وتجنُّب إغراء المشتتات، وتقوية مهاراتك العقلية واللفظية. في الحقيقة، نحن نتعلَّم بطرق مختلفة، للبعض منا ذاكرة بصرية أقوى، بينما يعتمد آخرون على الذاكرة السمعية أو اللمسية، إذا كنت تعتمد أكثر على الذاكرة السمعية فسيكون للقراءة بصوت عالٍ تأثير كبير في قدرتك على استرجاع المعلومات. (1)

 

في دراسة أُجريت في أستراليا ونشرتها مجلة "تشايلد ديفلوبمنت" (Child Development) عام 2020، قرأ مجموعة من الأطفال بين سن 7-10 سنوات قائمة من الكلمات، بعضهم قرأها بصمت والآخرون قرأوها بصوت عالٍ، وعندما سُئلوا عن الكلمات مرة أخرى كان الذين قرأوها بصوت عالٍ يتذكَّرون 87% من القائمة، بينما كان الذين قرأوها بصمت يتذكَّرون نحو 70% فقط. (2)

القراءة

لا تقتصر فوائد القراءة بصوت عالٍ على الأطفال فحسب، إنما تمتد للكبار أيضا، ففي دراسة أخرى على مجموعة من البالغين تتراوح أعمارهم بين 67-88 عاما، طُلب منهم قراءة سلسلة من الكلمات بصوت عالٍ عليهم تذكُّرها لاحقا وكتابتها على الورق. في النهاية، نجح المشاركون في تذكُّر 27% من الكلمات التي قرأوها بصوت عالٍ، بينما تذكَّروا 10% فقط من الكلمات التي قرأوها بصمت. (3)

 

أخيرا، في دراسة أجراها باحثون من جامعة بيروجيا في إيطاليا عام 2016، قرأ مجموعة من الطلاب لعدد من كبار السن المصابين بالزهايمر لمدة 60 ساعة. في نهاية الدراسة، لاحظ الباحثون أن أداء المستمعين في اختبارات الذاكرة أصبح أفضل، وأن القصص التي استمعوا إليها جعلتهم يعتمدون على ذكرياتهم وخيالهم، واستطاعوا معالجة معلومات أكثر كثافة وعمقا، كما لاحظ الباحثون نشاطا للعديد من المناطق في القشرة الدماغية أثناء القراءة بصوت عالٍ. (4)

 

تُثري القراءة بصوت عالٍ حصيلتك اللغوية، فهي لا تسمح بالقفز على كلمة لا تعرف نطقها مثلا، كما في القراءة الصامتة، أنت هنا تنطق كل الكلمات فتتعرَّف إلى الكلمات غير المألوفة لك، وتعتادها فتصبح جزءا من مفرداتك وتؤثر على استخدامك للغة، إنها تُتيح لك اكتشاف وقع الكلمات التي لم تنطقها من قبل، خاصة عندما تقرأ كتابا في مجال مختلف عما اعتدت قراءته أو لكاتب يمتلك أسلوبا مميزا.

 

كما أن القراءة بتلك الطريقة تدخل بك إلى عالم الأداء، فتشارك في صنع النص بصوتك، فتشعر بتقدير أكبر للدور الذي تلعبه كل كلمة ومكانها في السياق، هناك أخطاء كثيرة في الكتابة كان من الممكن تجنُّبها فقط إذا كان كاتبها قد قرأها بصوت عالٍ، عندها يسهل التقاط الأخطاء. (5)

 

إننا نفعلها

القراءة

في زمن بعيد، لم تكن القراءة فعلا صامتا كما هي اليوم، إذ تُشير الكتابات على الألواح الطينية القديمة في العراق وسوريا، التي تعود إلى نحو 4000 عام، إلى أن القراءة كانت تعادل "الاستماع". كان كاتب الرسائل يطلب من مستقبلها أن "يتسمع إلى اللوح"، وذُكرت طريقة أخرى -في رسائل أقل عددا- تطلب من مستقبلها "النظر في اللوح" في إشارة إلى القراءة في صمت. (6)

 

ربما نكون قد تخلَّينا عن القراءة بصوت عالٍ لأنها سلوك بطيء في الواقع، بينما القراءة بصمت تمنحنا قدرا أكبر من الإنجاز، لكننا لا نعتمد عليها اعتمادا مطلقا كما نظن. في دراسة قام بها باحثون من كلية لندن الجامعية (UCL) للتعرُّف إلى عادات القراءة بين البالغين في لندن، سُجِّلت ممارسات القراءة بصوت عالٍ لمئات من البالغين في جميع أنحاء اسكتلندا وإنجلترا وويلز، لأشخاص من جميع الأعمار والأعراق والخلفيات الثقافية والتعليمية واللغوية لفهم دور القراءة في حياة المجتمع.

 

بدأ المشاركون بالقول إنهم لا يقرؤون بصوت عالٍ، لكنهم ببعض التركيز أدركوا أنهم يفعلون ذلك بالفعل؛ تعليمات تشغيل الأجهزة مثلا أو تركيب الأثاث، الصلوات والأدعية، بعض الرسائل، حتى إن بعض الكُتَّاب والمترجمين أكَّدوا أنهم يقرؤون مسودات أعمالهم بصوت عالٍ لسماع إيقاع النص واختبار مدى طلاقته، لأسباب مختلفة إذن نعود لتلك العادة التي نعتقد أنها طفولية، فنقرأ بصوت عالٍ، فما الذي يدفعنا إلى ذلك في الحقيقة؟ (7)

 

لصوتنا بصمة لا تُنسى

القراءة

تُشير أبحاث كولين ماكليود، عالمة النفس بجامعة واترلو الكندية، إلى تأثير القراءة بصوت عالٍ على الذاكرة، فنحن نتذكَّر النصوص والكلمات بشكل أفضل عند قراءتها بصوت عالٍ أكثر مما يحدث حين نقرؤها في صمت، وهو تأثير أطلقت عليه ماكليود "تأثير الإنتاج"، ويعني أن ما نقوم به لـ "إنتاج" تلك الكلمات المكتوبة في شكل صوت، عند قراءتها بصوت عالٍ، يُدخل الشخص في مشاركة نشطة، ويُمهِّد الطريق أمام تلك الكلمات لتحتل مكانها في الذاكرة. (8)

 

وفق دراسة نشرتها مجلة "ميموري" (Memory)، فإن قراءة النص بصوت عالٍ طريقة أكثر فاعلية في تذكُّر المعلومات من القراءة الصامتة، وتُفسِّر الدراسة الأمر بأن هناك تأثيرا مزدوجا لكلٍّ من التحدُّث والسمع يساعد في ترميز الذاكرة بقوة أكبر، وهذا هو نفسه "تأثير الإنتاج" الذي أشارت إليه ماكليود.

 

قامت الدراسة بأمر مختلف هذه المرة لبحث مدى عمق هذا التأثير، حيث جرَّبت على نحو 100 طالب قراءة نصوص بطرق مختلفة؛ فمرة قرأوها بأنفسهم بصوت عالٍ، ومرة ثانية استمعوا إليها بأصوات الآخرين، وفي المرة الثالثة استمعوا إليها مُسجلة بأصواتهم. وقد توصَّلت النتائج إلى أن سماع صوتك مُسجَّلا يُحدِث أثرا أكبر ويبقى مُميزا في الذاكرة مقارنة بأي صوت آخر، ويعني ذلك أن "الإنتاج" الشفوي الذي نفعله عند القراءة بصوت عالٍ يبقى الأكثر تأثيرا، إذ يتحد فيه فعلان مؤثران: فعل حركي (هو الكلام)، وفعل سمعي مميز.

 

وحتى إذا لم تُصدر صوتا مسموعا عند القراءة، فإن مجرد تحريك الشفتين عند القراءة يساعدك أكثر على التذكُّر. إنه "تأثير الإنتاج" مرة أخرى، فالكلمات تصبح مميزة في الذاكرة حين ترتبط بفعل حركي آخر، بينما تقتصر القراءة بصمت على فعل واحد وتعتمد على الذاكرة البصرية وحدها. (9)

 

اقرأ لطفلك ولمَن تحبهم

القراءة

القراءة للأطفال إذن لا تُحسِّن فقط قدرتهم على القراءة، لكنها تُنمي شخصياتهم أيضا، فمن خلال الصوت العالي الذي نقرأ لهم به القصص يتعلمون كيفية التعبير عن المشاعر، ويتعلمون فن الاستماع، وتنمو قدرتهم على التركيز والانتباه، ويتحفز خيالهم، ويرتبطون بذلك الصوت وتنشأ لديهم روابط عاطفية بالكبار. وحتى حين يصبح الطفل أكثر استقلالية، بحيث يمكنه القراءة بنفسه واختيار كتبه، تظل لتلك العادة فوائدها في تحسين النطق لديه، ويُنصح عندها بتبادل القراءة بين الكبير والصغير. (10)

 

ومع الكبار أيضا تكون مشاركة مَن نحبهم قراءة قصيدة أو خبر أو بعض صفحات من كتاب ما وقتا ممتعا يوطِّد العلاقات، حين تقرأ لأحدهم بصوت عالٍ، سواء كان طفلا أم بالغا، فإنك تحرص على أن يكتسب النص روحا ومعنى، وتجد نفسك مضطرا أحيانا للتعبير بوجهك لكي يصبح صوتك أكثر جاذبية وحيوية، وهو ما يدعم قوة التركيز، وستندهش مما يمكن لنبرة صوتك حين تعلو وتنخفض أن تصنعه بالنص، خاصة حين تُفكِّر أن هناك شخصا ما يستمتع بسردك للكلمات.

 

القراءة بصوت عالٍ وقت نقضيه في تأمل الجمال، موسيقى نعزفها بأنفسنا من خلال إيقاع الكلمات وسرعتها، تُشعرنا بجمال النص، وهو أمر نفقده غالبا عندما نقرأ لأنفسنا بسرعة وبصمت، سوف تتذكَّر أكثر ما قرأته وتفهمه، والأهم أنك ستستمتع به أكثر أيضا. (11)

—————————————————————

المصادر

  1. Ways Reading Out Loud Improves and Enriches Your Life
  2. The Production Effect Improves Memory in 7- to 10-Year-Old Children
  3. Los beneficios desconocidos para la mente de leer en voz alta
  4. Neuropsychological benefits of a narrative cognitive training program for people living with dementia: A pilot study
  5. Ways Reading Out Loud Improves and Enriches Your Life
  6. En qué momento dejamos de leer en voz alta (y los enormes beneficios que tiene hacerlo a viva voz)
  7. Reading Aloud in Britain Today
  8. En qué momento dejamos de leer en voz alta (y los enormes beneficios que tiene hacerlo a viva voz)
  9. This time it’s personal: the memory benefit of hearing oneself
  10. Los seis beneficios de leer en voz alta
  11. Ways Reading Out Loud Improves and Enriches Your Life
المصدر : الجزيرة

إعلان