شعار قسم ميدان

حين نتعرض للمآسي.. لماذا تعد نصيحة "كن إيجابيا" الأسوأ على الإطلاق؟

مقدمة الترجمة

حينما تحيط المآسي بك، وتصبح المشكلات أشبه بجدار مرتفع يحجب عنك كل شيء، فإن نصيحة "كن ايجابيا" عادة ما تكون الأسخف على الإطلاق، ليس فقط بالنسبة إليك، لكن أيضا بالنسبة إلى سكوت كوفمان، المتخصص في نطاقَي العلوم الإدراكية وعلم النفس الإنساني، الذي يرى أن الحل في أوقات كهذه هو "التفاؤل المأساوي"، وهو قدرة المرء على البحث عن معنى لحياته بين المآسي الحتمية للوجود البشري، وهو الشيء الأكثر عملية وواقعية الذي يمكن للمرء أن يمارسه خلال هذه الأوقات العصيبة.

 

مادة الترجمة

ناقشَتْ كتب لا حصر لها فكرة القوة التي نحصل عليها جرّاء شعورنا بالامتنان وتقديرنا لأهمية إحصاء النعم، لكن في الأوقات العصيبة مثل جائحة كورونا قد يبدو هذا الشعور مواساة لا تُخفِف المصاب، وهذا لأننا نرى النعم التي تحيط بنا في أغلب الأوقات شحيحة للغاية، كما أن رفضنا للجانب المظلم من الحياة، والهروب من التجارب المؤلمة وغير المريحة يمكن أن يُضِرّ بصحتنا النفسية، وهذا يؤدي إلى ما يُسمى "الإيجابية السامة"، التي تعني إنكار الواقع. .وفي الوقت نفسه، فإنك إذا حاولت تشجيع أحدهم "ليحافظ على إيجابيته" في خضم أزمة عالمية، فأنت بذلك تُفقِده الفرصة لكي ينمو وينضج خلال هذه الأزمة، ناهيك باحتمال حدوث ردة فعل عكسية تتسبب في زيادة شعوره بالسوء.

 

لتفسير ذلك، كتب روبرت إيمونز، أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا دايفيس، وأحد أبرز العلماء في مجال الشكر والامتنان، قائلا: "إنكار حقيقة أن الحياة تملك نصيبها من خيبات الأمل والإحباطات والخسائر والأذى والانتكاسات والحزن أمر غير واقعي أو مقبول. علينا جميعا تقبل أن الحياة رحلة طويلة مليئة بالمعاناة، ولا يمكن لأي عمليات تفكير إيجابي مهما تكررت أن تغيّر هذه الحقيقة".

Handsome sad young businessman with problems during session with counselor

في الحقيقة، فإن الدواء المناسب للإيجابية السامة التي ترفض الجوانب المظلمة في الحياة هو "التفاؤل المأساوي (tragic optimism)"، مصطلح أطلقه عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل، وهو أحد الناجين من الهولوكوست (المحرقة الجماعية لليهود على يد هتلر). يشير مصطلح التفاؤل المأساوي إلى قدرة المرء على البحث عن المعنى وسط المآسي الحتمية للوجود البشري، وهو الشيء الأكثر عملية وواقعية الذي يمكن للمرء أن يمارسه خلال هذه الأوقات العصيبة.

 

نمو ما بعد الصدمة

اكتشف الباحثون الذين يدرسون الظاهرة المعروفة باسم "نمو ما بعد الصدمة" أن الناس بعد تعرضهم لمواقف صعبة يمرون بتغيير نفسي إيجابي، فينضجون بعدة طرق، منها: تعمق تقديرهم للحياة وللعلاقات، وزيادة شعورهم بالتعاطف والإيثار، والتساؤل عن الغرض من الحياة، والاستفادة من مواطن القوة الشخصية والنمو الروحي، وبالطبع زيادة الحس الإبداعي.

‏قد يختلط عليك الأمر فتعتقد أن الحدث الصادم نفسه هو الذي يؤدي إلى النمو، ولكن هذا خطأ شائع، لأنك لن تجد أحدا ممتنا لكوفيد-19، لكن ما يؤدي إلى النمو الحقيقي هو كيفية معالجة الحدث، والتغييرات التي تطرأ على نظرة العالم بعد كل ما حدث، والبحث المستمر الذي يمارسه الناس خلال الأوقات الصعبة وبعدها.

 

في السنوات الأخيرة، أدرك العلماء أن الامتنان يمكن أن يكون الدافع الرئيس لظاهرة "نمو ما بعد الصدمة"، كما يمكن أيضا أن يكون قوة شفائية، لأنه اتضح أن ممارسة الامتنان بانتظامٍ مرتبطٌ بعددٍ من نتائج الصحة النفسية الإيجابية، منها تقليل مخاطر الإصابة بالاكتئاب والقلق وإدمان المخدرات.

The secret to a great photo is in its ability to move people to impress and to express. I love this photo shows so much emotion. It is almost like you can feel it just by looking at it. Amazing day. I wish you all an amazing rest of the year with our minds prepared for the next best year of our life. Peace!

على الرغم من أن القدرة البشرية على المرونة والتكيف مذهلة واستثنائية للغاية، فإنها لا تحظى بالتقدير الكافي. في هذا السياق، توصلت دراسة حديثة أُجريت على أكثر من 500 شخص في فترة الجائحة، ما بين مارس/آذار إلى مايو/أيار 2020، إلى أنه حتى خلال تلك الأشهر الأولى المرعبة للوباء، أفاد أكثر من 56% من الناس بشعورهم بالامتنان، الذي كان أعلى بنسبة 17% من أي عاطفة إيجابية أخرى، وأفادوا أيضا بأنهم أكثر سعادة. العجيب في الأمر أن عددا أكبر من المشاركين وصل إلى نسبة 69% أقرّوا بأنهم يتوقعون استمرار شعورهم بالامتنان في المستقبل لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر إضافية.

 

قد يؤدي التعرض لظروف صعبة إلى فقدان حس الامتنان أو التغاضي عنه، فغالبا ما نأخذ العديد من المزايا الأساسية التي نتمتع بها في الحياة على أنها أمر مُسَلّم به، فالطبيعة البشرية تميل إلى التكيّف والاعتياد على المواقف المستقرة نسبيا، لكن بمجرد أن يُدرك الأفراد أن مزاياهم في الحياة ليست مضمونة، سرعان ما يعتريهم شعور أعمق بتقديرها، وهو ما تعبر عنه مقولة الفيلسوف والكاتب الإنجليزي "غلبرت كيث تشيسترتون": "لا يمكننا إدراك قيمة الأشياء حقا إلا إذا وضعنا احتمالية فقدانها غدا".

 

تذكُّر معاناة الماضي يزيد من امتناننا لأوقاتنا الحالية

توصلت العديد من الدراسات إلى أن الأشخاص الذين واجهوا ظروفا صعبة أفادوا بأن تقديرهم وامتنانهم للحياة ازداد، والمثير للانتباه أن بعض هؤلاء الأشخاص قد مرّوا بأصعب التجارب على الإطلاق. إحدى هذه التجارب خاضتها "كريستي نيلسون"، المديرة التنفيذية لمنظمة تُسمَّى "شبكة من أجل العيش بشكرٍ دائم"، وهي منظمة مُكرَّسة لترسيخ الامتنان باعتباره تأثيرا تحوليا في حياة الأفراد. واجهت "نيلسون" الموت وهي بعمر الثالثة والثلاثين بعدما شخصها الأطباء بمرض السرطان واضطرت إلى الخضوع للعديد من العمليات الجراحية والعلاج الكيماوي والإشعاع. ورغم كل ما مرّت به، ظلت تبحث باستمرار عن فرص لكي تزيد شعور الامتنان بداخلها، فكتبت تقول:

"كنت في المشفى، بعيدة عن جميع أصدقائي وعائلتي، محاطة بجميع أنواع الحقن الوريدية، لا أشعر سوى بالألم يجتاحني في كل مكان، لكن الجانب المشرق في الحكاية أن العديد من الأشخاص تناوبوا على خدمتي يوميا، منهم ممرضات وأخصائيون تقنيون وأطباء وعمال نظافة. ظللت حينها أفكّر ماذا لو هذا هو عالمي كله الآن؟ ماذا لو أن هذا هو كل ما أملك؟ حينها شعرت بحبٍّ خالصٍ تجاه هؤلاء الأشخاص الذين تناوبوا على رعايتي".

gratitude

طريقة التفكير هذه ساعدت "نيلسون" للتمييز بين الامتنان باعتباره عاطفة مؤقتة، أو بصفته نهجا عاما في الحياة لا يتوقف على شيء معين يحدث، بل على الطريقة التي نسعى من خلالها للاستمتاع بالحياة ورؤية جوانبها المشرقة. يُحتِّم علينا جزء من تركيبتنا البشرية نسيان معاناة الماضي، والبدء من جديد في التعامل مع حياتنا الحالية على أنها أمر مُسَلّم به، لكن "كريستي نيلسون" ترى أن "تذكُّر معاناة الماضي أهم بكثير من نسيانها، لنظل ممتنين لما توصلنا إليه الآن".

 

لتعزيز الفكرة ذاتها، ابتكرت "ليليان جانز بيكين"، الباحثة في مجال الامتنان، بالتعاون مع "بول وونغ"، عالم النفس الإيجابي الوجودي، "مقياس الامتنان الوجودي" لقياس مدى امتنان الناس تجاه الوجود الإنساني كله، وليس فقط تجاه الجوانب الإيجابية من الحياة. يتضمن هذا المقياس عناصر عديدة، منها: الامتنان للحياة حتى في أوقات الشدة والمعاناة، الامتنان لأن قوانا الداخلية ازدادت نتيجةً للتغلب على المِحَن، الشعور بالعرفان تجاه جميع الأشخاص الموجودين في حياتنا، حتى أولئك الذين سببوا لنا الكثير من الآلام، الإحساس بأن نفوسنا ممتلئة بالامتنان لأن لدينا ما نعيش لأجله، رغم أن الحياة قد تبدو أحيانا صعبة للغاية، والامتنان لكل أزمة كانت فرصة للتعلم والنضج، وفي النهاية تعلم أهمية الامتنان الذي يولد من رحم المعاناة.

 

سرعان ما اكتشف الباحثون أن الامتنان الوجودي مرتبط أيضا بتحسين "سلامة المرء الروحية" (أي إدراك جودة الحياة التي يعيشها الفرد بالقيم الروحية)، حيث أدى الامتنان والقيم الروحية دورا مهما في التصدي للقلق والاكتئاب. لكن الجوهر الروحي للامتنان لا يتحقق كاملا إلا حين يصبح الامتنان أبعد من كونه مجرد أداة لتهذيب الذات النرجسية، متخطيا ذلك إلى إسعاد الآخرين والعمل على راحتهم. وهذا يوضح سوء الفهم الشائع الذي يرى أن الامتنان يعبِّر عن المصلحة الذاتية، ويركز على كل ما يتعلق بتقدير الحياة وإحصاء النعم بغض النظر عن معاناة الآخرين.

happy

يرى أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا "روبرت إيمونز"، ومعه المحللة النفسية والمديرة المساعدة لمركز ييل للذكاء العاطفي "روبن ستيرن" أن "الامتنان الحقيقي هو ما يصل للآخرين فيُسعدهم، ويكون هدفه الأساسي أن يعكس المرء الخير الذي تلقاه من خلال بحثه بإبداع فرص للعطاء". اكتشف الباحثون الذين أجروا دراسة في مجال الامتنان والشكر خلال فترة الوباء أنه كلما زاد شعور الامتنان لدى الناس، ازدادت رغبتهم في مساعدة الآخرين.

 

إذا نظرت للامتنان باعتباره عاطفة عابرة فستدرك أنه عاطفة غير مستقرة قد تأتي وتذهب، لكن إذا نظرت إليه باعتباره "امتنانا وجوديا" لكل الأشياء حولنا فسيغمر هذا الشعور حياتك بأكملها ويعينك على تقلباتها، فالامتنان لا يطلب شيئا سوى البحث عن المنافع الخفية وراء كل شيء، واقتناص الفرصة للنمو والنضج حتى أثناء فترة الوباء العالمي. يقول "إيمونز" معلقا على هذا الموضوع: "الامتنان ليس مجرد شعور يجتاحك بمجرد أن تصبح الأمور على ما يرام، لكنه أيضا الضوء في نهاية النفق".

—————————————————————-

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : الجزيرة