شعار قسم ميدان

التأثير العجيب لخيط الصوف.. هل تحافظ الحِرَف اليدوية على سلامتنا العقلية؟

التأثير العجيب لخيط الصوف... هل تحافظ الحرف اليدوية على سلامتنا العقلية؟

لفت توم دالي، السباح الأولمبي البريطاني، أنظار العالم في أولمبياد طوكيو 2020 بجلوسه في المدرجات وحيدا مع الإبر والخيوط ليحوك بالتريكو حافظة ميداليته الذهبية التي ربحها في سباق الغطس 10 أمتار للرجال، مُصرِّحا عبر حسابه على إنستغرام: "الحياكة أصبحت طريقتي للعثور على الهدوء والتيقُّظ وتخفيف الإجهاد العصبي".

لا يقتصر الأمر على دالي وحده على ما يبدو، بوجود مجموعات تضم ما يفوق نصف مليون مشترك من الناطقين بالعربية على فيسبوك لتعليم الحياكة، التريكو والكروشيه تحديدا، أصبح هناك اتجاه عام نحو الأشغال اليدوية والحياكة خاصة، ليس من حيث هي وسيلة لتمضية الوقت أو تعلُّم مهارة جديدة فحسب، بل بوصفها طريقة للتغلُّب على الضغوط والتأثيرات السلبية النفسية للحياة اليومية.

 

هنا بدأ كل شيء

بات ما يفعله دالي وغيره جزءا من ممارسة أوسع تُعرف اليوم باسم "التيقُّظ" (Mindfulness). وقد نشأ التيقُّظ في مكان ما في جنوب شرق آسيا، بين صقيع جبال التبت، وسط الرهبان البوذيين الصامتين المتأملين، أو فى أقصى الشرق قليلا بين طائفة الزن البوذية باليابان وإن لم تتخذ شكلها الحالي إلا عبر عدة قرون من التطوُّر والاختلاط بالمجتمعات المُتمدِّنة والبدء في الاعتراف بها في الوسط العلمي، في تلك الحالة كان التيقُّظ قد انفصل عن جذوره في أهدافه وتقنياته المستخدمة علاجيا.

 

انتقل التيقُّظ بعد ذلك بوصفه ممارسة من جنوب شرق آسيا إلى الغرب في ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأ جون كابات، الأستاذ الفخري بكلية طب جامعة ماساتشوستس، في دراسة التيقُّظ بوصفه أسلوبا علاجيا مع مرضى الأمراض المزمنة الميؤوس منهم، وأسَّس بعد ذلك علاج الضغط النفسي القائم على التيقُّظ (Mindfulness based stress reduction)، الذي طبَّقه ما يقارب 25 ألف شخص منذ بدايته وحتى الآن (1).

نشأ التيقُّظ في مكان ما في جنوب شرق آسيا، بين صقيع جبال التبت، وسط الرهبان البوذيين الصامتين المتأملين، أو فى أقصى الشرق قليلا بين طائفة الزن البوذية باليابان

يقول غاس كاستيانوس (Gus Castellanos)، طبيب الأعصاب المتقاعد والممارس المعتمد لعلاج الضغط النفسي القائم على التيقُّظ (MBSR)، في حديث لـ "ميدان" إن تعريف التيقُّظ يشمل: "الوعي لحظة بلحظة بما نختبره الآن، بما يشمل الأفكار والمشاعر والأحاسيس الجسدية والبيئة المحيطة". هنالك العديد من التعريفات للتيقُّظ، لكنه يهتم بصفة أساسية بجعلك تعيش في اللحظة الآنية، بلا تفكير في المستقبل المجهول أو اجترار للماضي الذاهب، وعن كيفية تحقيق ذلك يُضيف كاستيانوس: "نحن نصقل هذا الوعي عن طريق السلوك الإيجابي واللطف وعدم الحكم على الآخرين والفضول".

 

ضُمِّنت ممارسات التيقُّظ القديمة في العديد من أساليب العلاج النفسي الحديثة، كالعلاج الجدلي السلوكي المُصمَّم خصيصا لمرضى اضطراب الشخصية الحدية، والعلاج المعرفي القائم على التيقُّظ (MBCT)، وأخيرا علاج الضغط النفسي القائم على التيقُّظ (MBSR) الذي ابتكره جون كابات. يستخدم الأسلوب الأخير "التأمل اليَقِظ ومراقبة الجسد وتمارين الجلوس وتركيز الانتباه واليوغا بوصفها وسائل لتدريب الناس على النظر إلى الضغط النفسي نظرة مختلفة"، وبحسب تصريح كاستيانوس لـ "ميدان": "هذا البرنامج والبرامج الأخرى القائمة على التيقُّظ تمتلك فعالية لتحسين الحالات الجسدية والعقلية المختلفة، وتحسين العلاقات بين الأفراد، والقدرات العقلية".

 

تتضمَّن ممارسات التيقُّظ تمارين التنفس والتأمل، ولكن لا ينجح الجميع في الوصول إلى حالة التيقُّظ أو الهدوء بهذه الطريقة، إذ تستمر الأفكار العشوائية في مهاجمة العقل وتجعله عاجزا عن التركيز في اللحظة الراهنة، هنا يمكن للحركات المتكررة المنتظمة، كتلك التي تفعلها عند حياكة غطاء رأس بالتريكو على سبيل المثال، أن تأخذ العقل في حالة من النشوة (Trance)، لتُحقِّق الهدف الأساسي للتيقُّظ والتأمل ولكن بطريقة مختلفة ينتج عنها ليس فقط الهدوء والراحة النفسية، بل وكذلك قبعة لطيفة تدفئك في الشتاء.

 

العلاج بالحياكة

العلاج بالحياكة

نشأت فنون الحياكة في الشرق الأوسط في القرن الخامس الميلادي، ورغم صعوبة تحديد المكان الدقيق لنشأتها، فإن أقدم قطعة ثياب حيكت وُجدت في مصر، ويُعتقد أن الحياكة استُلهِمت أصلا من صناعة الشِّبَاك التي مارسها الصيادون قديما (2). انتقل هذا الفن إلى أوروبا مع سفن تجارة الصوف، وأصبح اليوم نشاطا عالميا يُمارَس في كل بقاع الأرض ويتطوَّر باستمرار. ويبدو أن استمراره كل هذه القرون لا يرجع فقط لكونه حِرفة منتجة، ولكن ربما يكون لتأثيراته النفسية علاقة بالأمر.

 

في هذا السياق، أُجري استطلاع عبر الإنترنت شارك فيه أكثر من 3500 من ممارسي التريكو حول العالم، بهدف دراسة وجود علاقة بين ممارسة التريكو بوصفه حِرفة يدوية وبين الصحة العقلية للمشاركين مُتضمِّنة المزاج والمشاعر والأفكار وأيضا الأنشطة الاجتماعية والمهارات المكتسبة (3). نُشرت نتائج الدراسة في "بريتش جورنال أوف أوكيوبيشونال ثيرابي" (British journal of occupational therapy) عام 2013، ووجدت أن نحو نصف المشاركين أجابوا بأن التريكو ساعدهم بشكل ما في التفكير في مشكلاتهم أو نسيانها أو ترتيب أفكارهم المبعثرة، بل وساعدهم على تحسين الذاكرة وزيادة التركيز.

 

وعند تقييمهم للحالة المزاجية أثناء الحياكة، أجاب 81% من المشاركين بأن الحياكة منحتهم شعورا بالسعادة لم يكن موجودا لدى أكثرهم قبل اتخاذهم هذه الهواية. ورغم أن الحياكة تُعَدُّ هواية فردية بامتياز ولا تتطلَّب إلا وجود شخص واحد لممارستها، فإن العديد من المشاركين المعتادين على ممارسة التريكو وسط مجموعة أقرّوا بأن ذلك يمنحهم شعورا بأنهم مفيدون وأكثر هدوءا وسعادة. وبالنسبة لغالبية المشاركين كانت الحياكة طريقة ممتازة للتخفيف من ضغوطات الحياة، ووسيلة سهلة للإحساس بالإنجاز وتحسين الثقة بالنفس.

العلاج بالحياكة

في تلك النقطة ربما يجدر بنا أن نتحدَّث عن العلاج الوظيفي (Occupational therapy)، الذي ظهر بوصفه مجالا منفصلا في نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث كان العلاج بالفن والحِرَف اليدوية جزءا محوريا من برامج إعادة تأهيل الجنود العائدين من الحرب بعد أن عانى كثير منهم من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). ساعتها، كانت الحياكة ونسج السلال والنجارة وغيرها من الحِرَف وسائل علاجية ثنائية المفعول، فمن ناحية كانت إلهاءً للجنود عن الذكريات والأفكار الأليمة، ومن ناحية أخرى كانت وسيلة لاكتساب مهارة يستطيع بها الجندي الانضمام للمجتمع من جديد وكسب قُوْته من خلالها (4). ورغم أنه لا يستخدم الحِرَف اليدوية بوصفها أداة علاجية في عمله، فإن كاستيانوس عقَّب قائلا لمحررة "ميدان": "أعتقد أن الحياكة والحِرَف اليدوية وسيلة جيدة للغاية لصقل اليقظة".

 

على صعيد آخر، يعاني مرضى فقدان الشهية العصبي من أفكار مُتطفِّلة وهوس بالتحكُّم في طعامهم وقوامهم، مما يجعل علاج هذا المرض أمرا أكثر صعوبة، لكن بدراسة تأثير ممارسة الحياكة لدى عينة من السيدات المصابات بالمرض، بعد تعليمهن الحياكة وتوفير الموارد اللازمة، وُجد أن 74% من الحالات ذكروا أن الحياكة ساعدتهم على تصفية الذهن والابتعاد عن الأفكار المُلِحَّة حول المرض والطعام والوزن، كما أنها زوَّدتهم بالشعور بالإنجاز والرضا والفخر بأنفسهن. في دراسة صغيرة كهذه قد لا تكون النتائج حاسمة وبحاجة إلى التكرار على نطاق أوسع، ولكنها تُعطي بارقة أمل للمستقبل (5).

 

المزيد من الفنون

حسنا، لا يقتصر تأثير ممارسة الحِرَف والفنون على ما تُسبِّبه من هدوء وسعادة وتيقُّظ، بل إنها تُسهِّل التعبير عن الذات واكتساب التعاطف والوعي العاطفي، وتساعد على الوصول إلى ذات أكثر اتساقا. في دراسة منشورة في دورية "ذا آرتس إن سيكوثيرابي" (The arts in psychotherapy) عام 2000، التي أُجريت على عينة صغيرة من 39 امرأة يُعانين من اكتئاب مزمن أو عَرَضي، وجميعهن يمارسن أشكال الحياكة المختلفة من تطريز وترقيع وحياكة اللحف بانتظام (6)، ذكرت معظم المشاركات في الدراسة أن الحياكة ساعدتهن على استعادة الإحساس بالتحكُّم في حياتهن، والقدرة على الاسترخاء جسديا ونفسيا، بل وأيضا استعادة نشاطهن الجسدي والتفكير الإيجابي.

التطريز اليدوي

توافقت نتائج هذه الدراسة مع دراسة سابقة منشورة في دورية "بريتش جورنال أوف أوكيوبيشونال ثيرابي" (British journal of occupational therapy)، أُجريت على 35 امرأة عانين من عجز أو مرض مزمن جعلهن يلجأن للحياكة بوصفها وسيلة لاستعادة الإحساس بالذات والقدرة على إنتاج شيء ما، حيث أكَّدت المشاركات أن الحياكة ساعدتهن على التحكُّم في الألم وتنظيم الوقت والتأقلم مع أمراضهن المزمنة (7).

 

قليل من الشك

ورغم وجود العديد من الدراسات التي تدعم التأمل والتيقُّظ بوصفه علاجا لبعض الأمراض النفسية كالتوتر والاكتئاب، فإن مجموعة من علماء النفس البارزين أبدوا حذرهم من نتائج هذه الدراسات، قائلين إن عددا منها كانت سيئة التصميم، وتستخدم تعريفات مُتعدِّدة غير موحَّدة للتيقُّظ، ولا تحتوى على مجموعة تحكُّم لاستبعاد التأثير الوهمي. وأشار الباحثون في تقريرهم المنشور في دورية "بريسبكتفز إن سايكولوجيكال ساينس" (Perspectives on psychological science) إلى وجود دراسة تحليلية تحتوي بالفعل على مجموعة تحكُّم لكنها جاءت بنتائج غير مُرضية (8).

 

يخشى نيكولاس فان دام، عالم النفس الإكلينيكي والزميل الباحث في العلوم النفسية بجامعة ملبورن، أن التربُّح من وراء ممارسات التيقُّظ قد يطغى على الفائدة الحقيقية من ورائه، إذ أصبح تجارة تبلغ قيمتها مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها. وفي مراجعة لـ 47 تجربة عن التأمل، تضمَّنت ما مجموعه 3500 مشارك لدراسة تأثير التأمل على تحسين الانتباه، ومقاومة الإدمان، والتخلُّص من الأرق، والتحكُّم في الوزن، لم يُعثَر على دليل على قدرة التأمل على تحقيق أيٍّ من هذه الأشياء (9).

ممارسة التيقُّظ والتأمل يعمل على إبطاء تآكل قشرة المخ الذي يحدث طبيعيا مع التقدُّم في السن

لكن هذا لا يمنع وجود دراسات رصينة بهذا الصدد، منها الدراسة المنشورة في دورية "نيورو-ريبوت" (NeuroReport) التي وجدت أن سُمك قشرة المخ في منطقة القشرة الجبهية (Prefrontal cortex) لدى عينات الدراسة في العقد الرابع من العمر ممن يمارسون التأمل بانتظام كانت متساوية مع عينات الدراسة في العقد الثالث من العمر سواء كانوا ممارسين للتأمل أم لا (10). لفهم أهمية القشرة الجبهية يكفي أن تعلم أنها المسؤولة عن تصرُّفنا بنضج (11)، حيث تساعدنا على اتخاذ القرارات العقلانية بالإضافة إلى تنظيم الذاكرة العاملة (Working memory). تستنتج الدراسة أن ممارسة التيقُّظ والتأمل يعمل على إبطاء تآكل قشرة المخ الذي يحدث طبيعيا مع التقدُّم في السن.

 

يُكمل كاستيانوس في تصريحاته لـ "ميدان": "بصفة عامة، أجزاء الدماغ التي تكبر وتتحسَّن بفضل التيقُّظ هي تلك المسؤولة عن الوظائف التنفيذية العليا (الانتباه، التحكُّم في الاندفاع، التفكير النقدي والتخطيط)"، مؤكِّدا: "يعمل التيقُّظ على تصغير مناطق الدماغ المسؤولة عن الاستجابة للضغط العصبي (اللوزة)، وشرود الذهن والتفكير النقدي الذاتي". اللوزة (Amygdala) هي تجمُّع صغير من الخلايا تقع في قاعدة المخ وتشبه في شكلها اللوز، وهي مسؤولة بصفة أساسية عن التكيُّف مع الخوف، بالإضافة إلى أنها تلعب دورا مهما في تنظيم المشاعر وتعلُّم المحفزات الإيجابية (12). يعني هذا أن التيقُّظ، وما يتضمَّنه من ممارسة التأمل والاسترخاء، يمكنه حقا أن يُغيِّر من تشريح المخ.

صورة بعنوان: اللوزة (Amygdala)
اللوزة (Amygdala)

تُعتبر ممارسات التيقُّظ والتأمل، منذ انفصالها عن جذورها التاريخية الطقوسية، من النطاقات البحثية الوليدة في عصرنا هذا، ولا تزال بحاجة إلى الكثير من الدراسات الدقيقة المتعمِّقة لفهم آلية تأثيرها على الدماغ وحقيقة قدرتها على الوصول بالبشر للتحكُّم في أمزجتهم وحالتهم النفسية، لكنها بالفعل تُستخدم الآن في برامج علاجية مُعترَف بها، ويمكن لك أن تستفيد بممارسة القليل من تمارين التنفس لتهدئة أعصابك في حالات التوتر، أو أن تلتقط الإبر والخيط وتصنع لصغيرك معطفا صوفيا بينما تُصفِّي ذهنك وتسترخي على الأريكة.

—————————————————————————————

المصادر

  1. The Science of Mindfulness
  2. The Amazing History of Knitting — Top 87 Facts & Infographic
  3. The Benefits of Knitting for Personal and Social Wellbeing in Adulthood: Findings from an International Survey – Jill Riley, Betsan Corkhill, Clare Morris, 2013
  4. The Bluebirds: World War I Soldiers’ Experiences of Occupational Therapy | American Journal of Occupational Therapy
  5. Managing anxiety in eating disorders with knitting
  6. (PDF) Managing depression through needlecraft creative activities: A qualitative study
  7.  Coping with Chronic Illness and Disability through Creative Needlecraft – Frances Reynolds, 1997
  8. Mind the Hype: A Critical Evaluation and Prescriptive Agenda for Research on Mindfulness and Meditation
  9. Where’s the Proof That Mindfulness Meditation Works?
  10. ” Meditation experience is associated with increased cortical thickness” (2005)
  11. Prefrontal Cortex – an overview
  12. The amygdala: vigilance and emotion
المصدر : الجزيرة