زمان الإنسان المنحني.. هل أصبحت آلام الظهر وباء العصر الحديث؟
تخيَّل أنك مضطر للعمل في وظيفة مكتبية، تقضي 8 ساعات من يومك جالسا إلى مكتب مستطيل الشكل، على كرسي ذي عجلات صغيرة، تُطالع شاشة الحاسوب الباردة وأصابعك تضرب لوحة المفاتيح بلا كلل. يمضي الوقت، وتبدأ آلام ظهرك المعتادة في الإعلان عن نفسها، تتصلَّب رقبتك ويؤلمك رسغاك ويبدأ الصداع، حسنا، هذا ليس خيالا، بل مجرد يوم آخر بالنسبة لكل مَن يعملون بالفعل في وظائف مكتبية ويقضون أكثر وقتهم في وضع الجلوس الذي لا يكون جلوسا مريحا بالضرورة، فأين تكمن المشكلة بالضبط؟
جسد مرن ومتوازن
لا يوجد ما يُسمى بوضع الجسد المثالي، ولكن هناك وضع الجسد الجيد، الذي يضمن وجود العضلات والعمود الفقري وما بينهما من أربطة ومفاصل في وضع متعادل لا يُسبِّب ضغطا زائدا على أيٍّ منهم (1).
وبما أننا نعيش على كوكب ذي جاذبية تدفعنا لأسفل، فلا بد من قوة مضادة تعاكس تأثير الجاذبية وتُبقينا على أقدامنا، وتتمثَّل هذه القوة في انقباض عضلات الساقين والجذع والرقبة بالإضافة إلى تمدُّد الأربطة وتراص العظام فوق بعضها (2)، لهذا السبب يجب عند الوقوف، على سبيل المثال، أن نتخذ وضعا مستقيما بحيث تصبح الأُذن والكتف والورك والركبة والكعب على خط واحد.
اجلس بثقة
ليس من الصعب أن يعتاد جسدك على وضعية خاطئة، نظرك للهاتف المحمول لفترات طويلة أو حمل حقيبة الظهر بشكل غير سليم أو حتى ارتداء حذاء غير مناسب قد يتسبَّب في انحراف وضعية جسدك دون أن تنتبه (3). ولا تقتصر مشكلات وضع الجسد غير المتجانس على حدوث آلام الظهر أو الصداع، بل إن اختلال توازن جسدك يجعلك أكثر عُرضة للسقطات والإصابات، بالإضافة إلى بعض التأثيرات الأخرى.
في تجربة (4) أُجريت في جامعة أوهايو (Ohio University) على 71 طالبا، أُخبِر المشاركون أنهم يخضعون لدراستين في الوقت نفسه، إحداهما تخص كلية إدارة الأعمال، والأخرى تخص كلية الفنون، بحيث تقيس الأولى الرضا عن العمل والأداء الوظيفي، وتقيس الثانية القدرات التمثيلية للمشاركين. اقتضت التعليمات أن يجلس بعض المشاركين منتصبي الظهر ويدفعوا صدورهم للأمام، في حين يجلس البعض الآخر منحني الظهر، ووجوههم تنظر لأسفل، وأثناء اتخاذ هذه الوضعيات، على كلٍّ منهم كتابة 3 صفات إيجابية و3 صفات سلبية في شخصياتهم.
لم تنتهِ التجربة هنا، الخطوة التالية كانت إجراء الطلاب استبانة صنَّفوا فيها أنفسهم بناء على مدى جودة أدائهم الوظيفي بوصفهم محترفين في المستقبل. جاءت نتائج الاستبانة لتُشير إلى أن مَن كانوا جالسين منتصبي الظهر كانوا أكثر ثقة في أفكارهم من المجموعة الأخرى، حيث جاءت إجاباتهم متناسقة مع ما كتبوا من سمات في بداية الاختبار، سواء كانت سمات إيجابية أو سلبية، على عكس المجموعة التي جلست منحنية الظهر، فقد جاءت إجاباتهم غير متسقة مع ما كتبوه من سمات سابقا. يمكننا أن نقول ببعض الثقة إن وضعية جسدك لها تأثير مباشر على مدى ثقتك بنفسك، ولكن هذا ليس كل شيء.
ففي دراسة أخرى نُشرت لاحقا (5)، في دورية تابعة للجمعية الأميركية لعلم النفس (APA)، كُرِّرت التجربة ولكن مع بعض التغييرات، حيث اتخذ بعض المشاركين وضع جلوس منتصب والبعض الآخر وضعا منحنيا، ثم قُيِّمت عوامل المزاج، والقدرة على الحديث، والثقة بالنفس والإحساس بالتهديد. كانت النتائج مشابهة للدراسة السابقة إلى حدٍّ كبير، حيث أبدى المشاركون منتصبو الظهر ميلا أكثر للثقة بالنفس والمزاج الجيد وخوفا أقل، وميلا أكبر للحديث واستخدام كلمات إيجابية أكثر من المجموعة الثانية التي اتخذت وضعا منحني الظهر.
لا تنظر لأسفل
هناك احتمال لا بأس به وأنت تقرأ هذه الكلمات من خلال هاتفك المحمول أن رأسك يتخذ "وضعية الرأس الأمامي" (Forward head posture)، وهي الوضعية التي قد يكتسبها رأسك نتيجة ثني رقبتك للأمام باستمرار أثناء استخدام هاتفك المحمول أو حاسوبك، وأصبحت مشكلة عامة في السنوات الأخيرة بسبب انتشار الهواتف المحمولة وسيطرتها على الجزء الأعظم من حياتنا اليومية، والمشكلات الناتجة عن هذا لا تنتهي، ليس أقلها مشكلات التنفس، ناهيك بمشكلة خشونة فقرات الرقبة وغيرها.
في دراسة (6) أُجريت على مجموعة من المشاركين الأصحاء في جامعة بونكا جاكوين اليابانية، قيست كفاءة التنفس بالإضافة إلى تغيُّر شكل القفص الصدري لدى المشاركين بينما يتخذون وضعية الرأس الأمامي ووضعية الرأس الطبيعية بالتبادل. وجد الباحثون في الدراسة أن وضعية الرأس الأمامي تتسبب في حدوث خلل في التنفس، ناتج عن اتساع الجزء العلوي من القفص الصدري، وضيق الجزء السفلي منه، مما يحد من قدرته على الامتلاء بالهواء أثناء الشهيق، وطرد الهواء خارجا أثناء الزفير بالكفاءة المناسبة، مما يُجبِر الشخص على أخذ أنفاس قصيرة سطحية.
الأمر الآخر هو أن وضعية الرأس الأمامي تجعل الظهر تلقائيا ينحني للأمام، والصدر يقترب من الفخذ أكثر، مما يُشكِّل ضغطا زائدا داخل البطن، ويمنع الحجاب الحاجز، وهو العضلة الرئيسية في عملية التنفس، من العمل بالشكل الأمثل. لا يتوقَّف الأمر عند هذا الحد، فالضغط الزائد داخل البطن يعوق المسار الطبيعي للطعام داخل جهازك الهضمي، ويتسبَّب في حدوث ارتجاع المريء (7)، مُسبِّبا ألما حارقا في الصدر نتيجة صعود أحماض المعدة إلى أعلى. في المرة القادمة التي تمسك فيها هاتفك المحمول، تذكَّر أنه ربما لا يجعلك تتنفَّس بصورة طبيعية.
على الأرجح أنك قد أُصبت بآلام الظهر في فترة ما من حياتك، وبهذا تكون ضمن ثلثي عدد البالغين الذين يشاركونك الشكوى نفسها، وإن كان عملك يتضمن الجلوس على مكتب طوال اليوم، فقد تكون ضمن 30% ممن يعانون من آلام الظهر دائما نتيجة عملهم كل عام (8). ويبدو أن النساء والعاملين الأكبر سِنًّا ومَن يعملون لساعات طويلة أكثر عُرضة للإصابة بآلام الظهر من غيرهم (9). لا يقتصر السبب على الجلوس الخاطئ لفترة طويلة، بل أيضا استخدام كرسي بدون دعامة للظهر، وعدم ملاءمة مكان العمل لطبيعة الجسم واحتياجاته.
الهندسة البشرية
جاءت جائحة الكورونا بالكثير من المشكلات، على جميع الأصعدة، ولكن إحدى المشكلات الخفية التي خلَّفتها الجائحة هي العمل من المنزل، وفي حين أن بعض الدراسات تُشيد بالعمل من المنزل وتُعدِّد مزاياه، فإن الكثيرين يغفلون عن أهمية البيئة التي يعملون بها سواء في المكتب أو المنزل، هنا تأتي أهمية الهندسة البشرية (Ergonomics)، وهو العلم المختص بدراسة التفاعل بين الإنسان والبيئة المحيطة به والوصول بها للشكل الأمثل، وقد بات هذا العلم شديد الأهمية في السنوات الأخيرة مع سيطرة الحواسيب على الأعمال وزيادة عدد الساعات التي يقضيها الموظفون أمامها.
عموما، تهتم الهندسة البشرية بنطاقات متنوعة، فتجد إلى جانب وضعيات الجسم أشياء مثل الفيزياء البيئية، وتتضمَّن وضع الضوضاء والضوء والحرارة والبرودة، وصولا إلى علم النفس التطبيقي، تعلُّم مهارة جديدة، دراسة الأخطاء، الاختلافات بين الموظفين، لكن دعنا من كل هذا الآن، ولنركز مبدئيا على الكرسي الذي تجلس عليه.
في دراسة (10) صادرة عن جامعة سينسيناتي الأميركية، بقيادة كيرمت دايفيس، بروفيسور الصحة العامة والعلوم البيئية، وشارك بها 843 موظفا من الجامعة نفسها، ملأ الموظفون استبانة لتقييم البيئة التي يعملون بها من المنزل، المكاتب والكراسي وأجهزة الحاسوب وغيرها. على الرغم من أن 58% من المشاركين كانوا يستخدمون كراسي مخصصة للمكتب، فإنها لم تكن كلها ذات جودة عالية. لم تمتلك كل الكراسي مساند للأذرع، أو لم يستخدم المشاركون المساند الموجودة بالفعل، أو كانت المساند معدلة بشكل خاطئ، وهذا يُشكِّل عبئا على عضلات الظهر العلوية، وضغطا على عضلات الذراع.
رصدت الدراسة أيضا غياب الدعم للجزء السفلي من الظهر، فإما أن المشاركين لا يستعملون مسند الظهر إطلاقا، أو لا يستخدمون دعامة أسفل الظهر، مما يُعرِّض الجزء السفلي من الظهر لعبء إضافي. نوع الشاشة مهم أيضا، فمقارنة بشاشات الحاسوب الاعتيادية، فإن شاشات الحاسوب المحمول تكون في مستوى منخفض أكثر عن العين، مما يُجبر ثلاثة أرباع المشاركين على ثني الرقبة لأسفل، وفي 31% من الحالات، لم تكن الشاشة الأساسية أمام الشخص مباشرة، ما يُجبره على ليّ الرقبة أو الظهر لرؤيتها، هذه المشكلات وغيرها تؤثر جدا على العمود الفقري كاملا، متسببة في الخشونة والآلام المبرحة على المدى الطويل.
عليك أن تقف أكثر
قد يبدو الآن الجلوس لساعات طويلة أمام الحاسوب لإنهاء أعمالك أمرا غير محبب، لكن ماذا لو أنجزت أعمالك المكتبية وأنت واقف؟ شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا في مبيعات المكاتب الواقفة (Standing workstations)، وأصبحت أكثر رواجا بسبب بعض الدراسات التي تدَّعي أن الوقوف صحي أكثر من الجلوس، ويُقلِّل من مخاطر السمنة وأمراض القلب، ويحرق سعرات أكثر من الجلوس (11). قد لا يكون هذا دقيقا وبحاجة إلى المزيد من الدراسة، ولكن التناوب بين وضع الجلوس والوقوف قد يكون مناسبا ويدفعك للحركة باستمرار.
إذا قرَّرت اللجوء لهذا الحل، عليك أن تستخدمه استخداما صحيحا. شاشة الحاسوب لا بد أن تكون على مستوى عينيك نفسه، عليك أن تقف مستقيما وتنظر للأمام بحيث تصبح ذقنك موازية للأرض. ضع لوحة المفاتيح والفأرة على ارتفاع مناسب بحيث ينثني كوعك بزاوية 90 درجة. إذا لم تتمكَّن من شراء أحد هذه المكاتب، يمكنك تعديل مكتبك التقليدي عن طريق وضع صندوق أو مجموعة من الكتب لرفع الشاشة لمستوى عينيك، وأخيرا عليك أخذ استراحات متناوبة للجلوس أو المشي قليلا لتلافي أضرار الوقوف لفترة طويلة في وضع واحد.
صعوبة التنفس وفقدان الثقة بالنفس وتعكُّر المزاج وآلام الظهر والرقبة هي أمور تستحق أن تلتفت إليها، قد تظن أن جلوسك أمام الحاسوب بوضعية خاطئة أو وقوفك بوضعية غير مناسبة لا يؤثر كثيرا، لكنه يؤثر بقوة لا تتخيلها في عملك وحياتك، لذا يجب دائما أن تلتفت للوضعية التي تتخذها في جلوسك أو وقوفك، إنه استثمار جيد أن تفعل ذلك.
———————————————————————————
المصادر
- Types of Posture: How to Correct Bad Posture
- Human Postural Control | Neuroscience
- Types of Posture: How to Correct Bad Posture
- Body Posture Affects Confidence In Your Own Thoughts, Study Finds
- Do slumped and upright postures affect stress responses? A randomized trial
- Effect of Different Head-Neck Postures on the Respiratory Function in Healthy Males
- Your heartburn isn’t just from your food. It’s from your posture.
- Development of a risk score for low back pain in office workers – a cross-sectional study
- Work-Related Musculoskeletal Disorders among Office Workers in Higher Education Institutions: A Cross-Sectional Study
- The Home Office: Ergonomic Lessons From the “New Normal” – Kermit G. Davis, Susan E. Kotowski, Denise Daniel, Thomas Gerding, Jennifer Naylor, Megan Syck, 2020
- Standing Desks: How They Can Help You Beat Inactivity