أورثوركسيا.. هل يتسبب الهوس بالأطعمة الصحية في اضطراب نفسي؟

يبلغ "علي" من العمر ثلاثين عاما، وقد قدم إلى عيادة الطبيبة النفسية مع زوجته ليجد حلا لمشكلته، إنه يتمتع بصحة جيدة منذ الطفولة ويحرص على ممارسة الرياضة ويتبع نظاما غذائيا صحيا، لكنه في العامين الأخيرين أصبح قلِقا بشأن النظام الغذائي، فأخذ يتخلَّص تدريجيا من عديد من الأطعمة التي يراها غير صحية، وهو يشعر بـالفخر لنجاحه في ذلك، لكن القلق بقي مستمرا.

 

قالت زوجته إنه يقضي ما بين 3-5 ساعات يوميا في إعداد الطعام أو في التحدُّث إلى الأصدقاء والعائلة حول الأطعمة الصحية، وقالت إنها محبطة لأنه يرفض الذهاب بصحبتها إلى المطاعم، كما يرفض دعوات الأصدقاء لتناول العشاء في منازلهم ما لم يتمكَّن من إحضار طعامه معه، والأكثر من ذلك أنه يشعر بالضيق عندما يرى الآخرين يأكلون وجبات سريعة مثلا، إلى درجة أن القلق صار رفيقه الدائم. (1)

 

تشرح الطبيبة النفسية الأميركية جوناثان ر. سكارف هذه الحالة الافتراضية لمصاب بالأورثوركسيا أو الهوس بتناول الأطعمة الصحية، فتقول إن الضوء أُلقي على هذا الاضطراب العقلي لأول مرة في كتاب "مدمنو الأطعمة الصحية" الصادر عام 2000، وكلمة "أورثوركسيا" (orthorexia) مشتقة من الكلمة اليونانية "ortho" وتعني الخوف و"exía" وتعني الشهية، ويعني المصطلح إجمالا الهوس الزائد بالطعام الصحي إلى درجة مواجهة مشكلات جراء ذلك، وقد أثار المصطلح جدلا كبيرا حينها، لكن هذا الاضطراب أصبح أكثر وضوحا وحِدَّة مع مرور الوقت. (2)

 

مع تزايد عدد "المؤثرين" في الشبكات الاجتماعية الذين يتحدَّثون عن عادات الأكل الصحية، وانتشار أنظمة نباتية وأنظمة مثل الكيتو والباليو وغيرها، صار الناس أكثر وعيا من أي وقت مضى بأهمية اتباع نظام غذائي صحي يعتمد على الطعام الجيد والنشاط البدني المنتظم، لكنَّ عددا منهم في المقابل أصبح مهووسا بالطعام الصحي بشكل يدعو للقلق. (3)

إعلان

 

ما يحدث في البداية هو أن أحدهم يُقرِّر أن يعيش حياة صحية، هكذا تبدو أمام الأصدقاء والعائلة؛ تغيُّر إيجابي يمر دون أن يلاحظه أحد أو يشعر بخطورته، لكنه سرعان ما يتحوَّل إلى هاجس يتسبَّب في فقدان شديد للوزن، وأحيانا فقدان القدرة على تناول الطعام بشكل حدسي، فلا يستطيع الشخص أن يشعر إذا ما كان جائعا أم لا، ثم تظهر لاحقا مشكلات سلوكية ووساوس قهرية (سنتطرق إليها بعد قليل). (4)

 

يوضِّح ستيف براتمان، مؤلف كتاب "مدمنو الأطعمة الصحية"، أن اضطراب أورثوركسيا يعني علاقة مضطربة عاطفيا للفرد بطعامه، يقوده لأن يحصر خياراته في عالم من الأطعمة التي يعتبرها مقبولة، ويتقلَّص هذا العالم تدريجيا، فيستغني المصاب بهذا الاضطراب عن عديد من نواحي الحياة الأخرى بحيث يصبح التفكير في الغذاء الصحي هو الموضوع الرئيسي لكل لحظة في يومه، والمصدر الأساسي لتقدير الذات والقيمة والمعنى، وقد يؤدي إلى العُزلة الاجتماعية وربما الأذى الجسدي.

كتاب "مدمنو الأطعمة الصحية"

لكن الحماس للأكل الصحي لا يصبح "أورثوركسيا" إلا حين يتحوَّل إلى هوس، بحيث يصبح البحث عن الأكل الصحي غير صحي، ويشبه الأمر ما يفعله صديق لك يخشى السفر إلى إيطاليا لأنه يعتقد أن الإشعاع المتبقي من تشيرنوبيل سيقتله، بينما في الواقع قد يكون مقدار التعرُّض للإشعاع في رحلة الطائرة إلى إيطاليا أعلى بأضعاف ما يمكن التعرُّض له على أرض روما نفسها. (5)

 

ورغم أن منظمة الصحة العالمية لم تعترف رسميا بأوروثوركسيا بوصفه مرضا، كما لم تتضمَّنه التصنيفات النفسية الرسمية، ولم يعترف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-V) الذي تُصدره الجمعية الأميركية للأطباء النفسيين بهذا المصطلح بوصفه أحد اضطرابات الطعام حتى الآن، فإن الأطباء النفسيين وعلماء النفس يتعرَّفون على وجوده ويعالجونه في استشاراتهم، خاصة ما يرتبط منها باضطرابات الأكل، ويُطوِّر الباحثون باستمرار أدوات التعرُّف عليه. (6)

 

لا يزال تحديد الإصابة بـ "أوروثوركسيا" أمرا صعبا، كما لا يزال تعريفه الدقيق محل نقاش، لكن المؤكَّد أنه يختلف عن اضطرابات الطعام المعروفة على نطاق واسع مثل الشره المرضي أو فقدان الشهية العصبي، التي يمكن التعرُّف عليها بسهولة من خلال كمية الطعام المُستهلَكة وصورة الجسم، وأول ما يُطلب لتشخيص اضطراب أوروثوركسيا هو معرفة ما إذا كان السلوك الغذائي للفرد يعزله اجتماعيا أم لا.

إعلان

 

أهم الأعراض التي تُميِّز هذا الاضطراب هي القلق المفرط حول كل ما يأكله الشخص، وقضاء ساعات طويلة يوميا في التخطيط وإعداد وجبات الطعام، والصرامة التي تدفع المصابين به للشعور بالذنب حين لا يلتزمون، فيعاقبون أنفسهم بأنظمة غذائية قاسية وصيام أكثر صرامة.

 

يؤدي التفكير المستمر في الطعام إلى اضطراب عاطفي يظهر في طول الوقت الذي يقضيه الشخص في تخطيط الوجبات وإعداد الطعام وتناوله، وشيئا فشيئا، يُهمل الأشخاص المصابون واجباتهم اليومية الأساسية، وتفتر علاقاتهم بالأهل والأصدقاء، ويتجنَّبون الاجتماعات العائلية بسبب عدم الثقة في الأطعمة التي تُقدَّم فيها. وبخلاف اضطرابات الأكل الأخرى، يكون المصابون بالأورثوركسيا منفتحين جدا فيما يتعلَّق بنشر قواعد الأكل الخاصة بهم، إنهم يفتخرون بذلك أمام الآخرين، وفي المقابل فهم يزدرون أولئك الذين لا يتبعون القواعد الغذائية. (7)

 

كما أوضحنا، يتجنَّب الأشخاص المصابون بـ "أوروثوركسيا" بعض الأطعمة تماما، ويرفضون تناول أي شيء يعتبرونه "غير صحي" أو "غير نقي"، مثل السكر والدهون والملح ومنتجات الألبان أو المكونات الاصطناعية، وهذه القيود تؤدي أحيانا إلى إصابتهم بسوء التغذية. يميل المصابون أيضا إلى تصنيف الأطعمة بوضوح؛ إنها إما "جيدة" أي نظيفة ونقية وصحية، وإما "سيئة" أي غير صحية وسامّة أحيانا، هكذا بمعايير جودة صارمة.

 

وهكذا يواجهون إحساسا بالإنجاز عند تناول الأطعمة "الجيدة"، وشعورا كبيرا بالذنب حين يتناولون الأطعمة "السيئة"، وهذا التقلُّب بين المكافأة والعقاب يتسبَّب في تقلُّبات مزاجية بين مشاعر الخجل والشعور بالذنب وكراهية الذات أحيانا، مع قلق شديد وغير منطقي، وتغيُّرات مفاجئة في المشاعر. (8)

في المقابل، فإن المصابين بهذا الاضطراب لا يستبدلون أطعمة صحية بتلك التي يرفضون تناولها بحيث توفِّر لهم العناصر الغذائية نفسها، بل يهتمون فقط بأي طعام صحي متاح، وبالتالي تظهر لديهم مشكلات مثل فقر الدم أو نقص أحد الفيتامينات أو حتى نقص في الطاقة والقدرة على بذل الجهد. الحالات المُتقدِّمة من هذا الاضطراب تُمثِّل خطرا على الصحة، فهي تتسبَّب في نقص صوديوم الدم، والحماض الأيضي (ارتفاع في حموضة الدم والجسم، حيث لا تزيل الكلى ما يكفي من الحمض من الجسم)، وقلة الكريات الشاملة (نقص عدد كريات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية).

إعلان

 

أما عن الجوانب النفسية والاجتماعية، فإن مَن يعانون من هذه الحالة المرضية يتأثرون بالعُزلة الطويلة عن الأصدقاء والأهل، فتتولَّد لديهم مشاعر حزن وفراغ وعدم رضا. وبالتالي يتطلَّب علاج هذا الاضطراب تدخُّل عدة تخصصات؛ طبيب نفسي واختصاصي سلوكي وأخصائي تغذية، ويكون الهدف الأول أن يعود المريض إلى الحدس مرة أخرى: بمعنى أن يأكل عندما يشعر بالجوع، ويتوقَّف عن الأكل عندما يشعر بالشبع، وغالبا ما يُوصى بدمج جميع العناصر الغذائية التي استبعدها المريض تدريجيا، والاستمرار في اتباع نظام غذائي صحي يتضمَّن كميات كافية من جميع المجموعات الغذائية. (9)

 

دعونا نَعُد إلى نقطة مبكرة قليلا: لماذا يمكن أن يُصاب شخص ما بهذا الاضطراب في المقام الأول؟ للأسف، فإن العوامل التي تؤدي إلى الهوس بالأطعمة الصحية ليست واضحة تماما، ولكن الأعراض تميل للظهور غالبا لدى الأشخاص الذين يعانون من الميل نحو المثالية والسعي إلى الكمال، كما تنتشر بين مَن يمتلكون شخصية صارمة للغاية ونقدية للذات لدرجة الإفراط، وتزيد عوامل أخرى من خطر تطوُّر الأمر إلى اضطراب، مثل تدني احترام الذات، أو وجود خلل كيميائي في الدماغ، وصعوبة السيطرة على العواطف. (10)

 

ينتشر الأمر أكثر أيضا بين مَن يعانون من فقدان الشهية العصابي أو نهام عصبي أو بوليميا (يتمثَّل في شراهة عند تناول الطعام ويتبعها رغبة في التطهير أو تفريغ المعدة) أو اضطرابات الأكل الأخرى، كما يتفاقم الأمر بين مَن يستهلكون بشغف محتوى "المؤثرين" الملتزمين بالغذاء الصحي والمُتفاخرين بجسم مثالي. (11)

 

من المهم أيضا الإشارة إلى اختلاف أعراض الأوروثوركسيا عن اضطرابات أخرى قد تبدو قريبة منها، فالمصابون بفقدان الشهية مثلا يكونون غير راضين عن أجسامهم، بينما لا يكون الدافع وراء المصابين بهوس الطعام الصحي عدم الرضا الجسدي، فهم في الغالب يكونون سعداء جدا بمظهر أجسامهم. (12) وفيما تنتشر اضطرابات الأكل مثل فقدان الشهية والشره المرضي لدى النساء أكثر من الرجال، فإن الأوروثوركسيا تنتشر بين الرجال والنساء على السواء. (13)

إعلان

 

في المقابل، تؤكِّد إيفا بيريز، رئيسة الكلية المهنية لأخصائيي التغذية في لاريوخا بإسبانيا، أن هوس الطعام الصحي لا يُصيب في العادة الأشخاص في المجتمعات الفقيرة، لأنه يضطر المصابين به إلى البحث عن طعام أعلى سعرا وأصعب في العثور عليه، ومن ثم فهو اضطراب مُلِح في البلدان المُتقدِّمة أكثر منه في غيرها. كما ترى بيريز أن النساء والمراهقين الذين يمارسون رياضات مثل كمال الأجسام أو ألعاب القوى هم أكثر الفئات عُرضة للخطر لأن لديهم حساسية أكبر لقيمة الطعام وتأثيره على صورة الجسم. (14)

 

ربما كانت لديك رؤية واضحة لما يبدو عليه الطعام الصحي، نظام متوازن يتضمَّن الخضراوات والحبوب الكاملة وغيرها ويتجنَّب السكريات والدهون والملح، ولعلك تحرص على قراءة الملصقات قبل أن تضم أي منتج غذائي إلى عربة التسوق الخاصة بك لتتجنَّب الأطعمة المُصنَّعة التي تحتوي على إضافات كيميائية، وتبذل جهدا لتتخذ أفضل الخيارات بشأن طعامك، لكن هذا كله لا يعني أن يُلازمك القلق، المفترض أن التغذية السليمة تُعزِّز نوعية حياة أفضل. (15)

هناك خط رفيع بين الاهتمام بالطعام الصحي والهوس به، الذي يتسبَّب في ضرر جسدي واجتماعي وعاطفي، الأكل الصحي ضروري للتمتع بصحة جيدة، لكن ميل الشخص للكمال في كل ما يتعلَّق بالطعام هذا يعني وجود خطر مُحتمَل لحدوث الاضطراب، وإذا بدأ الأمر في التأثير على حياتك اليومية وأنشطتك الاجتماعية وعلاقاتك، فربما يكون الوقت قد حان للتراجع. (16)

 

يوضِّح براتمان ضرورة أن نحافظ على التناسب؛ لا بأس بأن تحرص على أغذية عضوية وخالية من المواد الحافظة والكيميائية، ولا مشكلة في أن تتجنَّب الأطعمة المُصنَّعة، لكن لا تفعل هذا طوال الوقت، محاولة أن تكون مثاليا ستقودك إلى الجنون، فكُن ألطف مع نفسك.

 

للشبكات الاجتماعية تأثير هائل اليوم، والطرق التي يُروَّج لها على أنها أمثل طريقة لتناول الطعام جعلتنا محاطين بثقافة تبدو وكأنها تسعى لتكشف أو ربما تفضح مخاطر الطعام، فتُربكنا كل حين باكتشاف جديد، لكن لا تنسَ أن المعلومات الكثيرة جدا التي نتلقَّاها من خلالها ليست دائما مؤكَّدة، وعلينا أن نُفرِّق بين الحرص على طعام جيد وصحي وبين أن نعتقد أن صناعة المواد الغذائية تُسمِّمنا وتقضي علينا.

إعلان

 

لذا لا تدع الأمر يصبح هاجسا يمنعك من الاستمتاع بالأطباق اللذيذة التي يمكن مشاركتها مع مَن نحبهم، إذ لطالما كان تناول الطعام نشاطا أساسيا في ثقافتنا، ومتعة كبيرة شكَّلت فن الطهي منذ سنوات. وكما يُذكِّرنا براتمان: "بينما تحاول تحسين حياتك وإطالة أمدها، إياك أن تنسى أن تعيشها". (17) – (18)

————————————————————————————

المصادر

  1. Orthorexia Nervosa: An Obsession With Healthy Eating
  2. La ortorexia: cuando la obsesión por la alimentación sana deriva en trastorno mental
  3. المصدر السابق
  4. Ortorexia
  5. The Authorized Bratman Orthorexia Self-Test
  6. La ortorexia: cuando la obsesión por la alimentación sana deriva en trastorno mental
  7. What Are The Five Warning Signs of Orthorexia?
  8. المصدر السابق
  9. Ortorexia
  10. What Are The Five Warning Signs of Orthorexia?
  11. Ortorexia
  12. The clinical basis of orthorexia nervosa: emerging perspectives
  13. What Are The Five Warning Signs of Orthorexia?
  14. La ortorexia: cuando la obsesión por la alimentación sana deriva en trastorno mental
  15. What Are The Five Warning Signs of Orthorexia?
  16. Ortorexia
  17. The Authorized Bratman Orthorexia Self-Test
  18. Is Your “Healthy” Life Creating Stress
  19. Is healthy eating doing us more harm than good?
  20. When does clean eating become an unhealthy obsession?
المصدر : الجزيرة

إعلان