شعار قسم ميدان

لأن شريحة البرجر اللذيذة على مائدتك تهدد مستقبل الحياة على الأرض

في مكان ما بمنطقة الوادي المتصدع غرب دولة كينيا، تقف مجموعة من الكائنات التي تُشبه البشر خلف صخرة كبيرة تحت أشعة الشمس الحارة، العرق يسيل على جباههم ويحرق أعينهم، بينما يراقبون بحذر إحدى القطط العملاقة ذات الأنياب السيفية الحادة وهي تُمزِّق جثة حمار وحشي وتأكلها في صبر.

يمر بعض الوقت حتى تشعر القطة الضخمة بالشبع وترحل، حينها فقط يخرج المختبئون خلف الصخرة وينقضّون على بقايا الجثة لالتهام ما يجدونه من لحمها. يحمل أحدهم صخرة صغيرة نُحتت لتُشبه سكينا حادة، ويستخدمها في فصل اللحم عن العظام وتقطيعه إلى قطع صغيرة، في حين يأخذ آخر جمجمة الحمار الوحشي ويعود بها إلى كهفه، يتناول مطرقة حجرية بدائية الصنع وينهال بها على الجمجمة ليكسرها، كاشفا عن المخ الوردي الطري الذي فشلت القطة في الوصول إليه، ويأكله في تلذذ، أما الثالث فيمسك بعظمة الفخذ الكبيرة ليكسرها ويستخلص منها النخاع الغني بالدهون والطاقة.

حدث ذلك قبل مليونَيْ عام من الآن، وكان أسلاف البشر الأوائل هؤلاء هم الذين تمكَّنوا من صناعة الأدوات، ولاحقا، خلال مئات الآلاف من السنين التالية، اكتشفوا النار. قد يبدو ما تصوَّرته منذ قليل مُقزِّزا، لكنك ما زلت تمارس النشاط نفسه بصورة أكثر أناقة وسهولة قد يحسدك عليها أسلافك الذين واجهوا صعوبات عديدة في الحصول على اللحم وتناوله دون طهي.

تخيَّل أنك تمضغ علكة كبيرة الحجم، كم حركة مضغ قد تحتاج إليها حتى تُحوِّلها إلى قطع صغيرة سهلة البلع؟ ربما تستمر بالعد للأبد. هذا بالضبط ما اضطر أسلافنا لفعله عندما تذوَّقوا اللحم للمرة الأولى، حين لم يكن للنار وجود، ولم تكن الأدوات الحجرية قد اكتُشفت بعد. دفع هذا كاتي زينك، وهي المؤلفة الأولى لدراسة نُشرت قبل سنوات قليلة في مجلة "نيتشر" المرموقة، وتعمل في قسم البيولوجيا التطورية بجامعة هارفارد، لاختبار قدرة المشاركين على مضغ اللحم النيء، بالإضافة إلى مجموعة من الخضراوات والجذور غير المطهية، أثناء تثبيت أداة على الفك لقياس الجهد المبذول في المضغ (1).

وفقا للدراسة، فإن تقطيع اللحوم إلى قطع صغيرة سهلة المضغ والهضم، عن طريق استخدام الأدوات الحجرية الأولى، وفَّر على أسلافنا 2.5 مليون حركة مضغ سنويا، الأمر الذي وفَّر الكثير من الجهد والطاقة بالتبعية، وأدَّى إلى التغيرات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، من شكل الفك والأسنان الأصغر حجما، وتضاعُف حجم المخ ليصل وزنه إلى 1300 غرام في المتوسط (2)، وبالتالي اكتسبنا القدرة على الحديث وتكوين الكلمات. يمكننا القول إن أحد الابتكارات التي جعلتنا بشرا هي قطع الطعام وهرسه.

أوضح دانيال ليبرمان، عالِم بيولوجيا الإنسان التطورية بالجامعة نفسها والمشارك في الدراسة، أن المضغ هو إحدى الخصائص الأساسية للثدييات -كالإنسان- على عكس الزواحف مثلا، التي تبتلع طعامها كاملا دون مضغ أو تقطيع، بالتالي فإن تطوُّر القدرة على مضغ الطعام إلى جزيئات صغيرة أعطى الثدييات دفعة إضافية من الطاقة، لأن الجزيئات الأصغر تُمكِّن إنزيمات الهضم من تفتيت الطعام بصورة أكثر كفاءة.

قبل 4 ملايين عام تقريبا، عاش أحد أقدم أسلاف البشر المعروف باسم "أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس" (Australopithecus afarensis) أو "القرد الجنوبي من عَفار" صاحب الحفرية الشهيرة باسم "لوسي". لوسي ثديي ذو جمجمة صغيرة ووجه طويل ذي فك كبير وأسنان ضخمة، كما أنه تميَّز بعضلات مضغ قوية، ما كان ضروريا له في ذلك الوقت حين كانت قائمة طعامه تقتصر بشكل شبه كامل على أوراق النباتات وجذور الأرض صعبة المضغ. لتُكوِّن فكرة عن الأمر، جرِّب أن تمضغ ثمرة بطاطس كاملة نيئة، وقِس كم من الوقت والجهد ستستغرق لإنهائها، وما القيمة الغذائية التي ستحصل عليها في المقابل.

نسخة طبق الأصل من جمجمة الحفرية لوسي (المصدر)

كانت لوسي ورفاقها يستغرقون نصف يومهم في مضغ طعامهم (3)، مثل الشمبانزي اليوم، ونظرا لتدني القيمة الغذائية في النظام الغذائي النباتي، كانت لوسي تمتلك أمعاء طويلة للغاية، لتتمكَّن من امتصاص أكبر قدر من العناصر الغذائية من وجبتها النباتية منخفضة الطاقة. كما ترى، كان تناول وجبة واحدة عملية عسيرة ومرهقة ولا تترك وقتا أو طاقة لفعل أي شيء آخر، ولكن هذا انتهى عندما انضمَّت اللحوم لقائمة العشاء.

كان يُعتقد سابقا أن الإنسان المنتصب "Homo erectus" كان له الأسبقية في التحوُّل إلى آكل لحوم منذ مليونَيْ سنة تقريبا، لكن عالم الحفريات الإثيوبي زيريسيناي المسجد (Zeresenay Alemseged)، عضو أكاديمية كاليفورنيا للعلوم، اكتشف عظام حيوان ما، بمقاطعة عفار شمال شرق إثيوبيا عام 2010، يُقدَّر عمرها بنحو 3.4 ملايين سنة، وبفحصها تبيَّن على سطحها آثار خدوش منتظمة ناتجة عن استخدام آلة حادة لفصل اللحم عن العظام، مما يرجِّح إلى حدٍّ كبير أن أوسترالوبيثيكوس لم يكتفِ بمضغ النباتات والجذور فحسب، بل بدأ أيضا في تناول اللحوم وإن كان بشكل غير منتظم (4).

أدوات حجرية وُجدت في إثيوبيا (المصدر)

لذا يظلّ الإنسان المنتصب هو أول مَن تناول اللحوم بصفة منتظمة وطوَّر الأدوات الحجرية التي يسَّرت له تقطيع اللحوم بشكل أفضل. منذ بدأ ذلك، حدثت الكثير من التغيرات التشريحية في شكل الوجه، حتى وصلنا إلى الشكل الحالي للهوموسيبيان (Homo sapien) "الإنسان العاقل"، الذي يمتلك فكا وأسنانا أصغر حجما من أسلافه، ولكنه في المقابل يمتلك مخا أكبر حجما بـ300 مرة عن أول أسلاف البشر المُكتَشَفين حتى الآن. أدَّى امتلاك هذا المخ الكبير والأكثر ذكاء إلى حدوث عدة تطورات محورية أدَّت إلى خلق الحضارة الإنسانية في وقت متأخر من عمر الإنسان العاقل.

رغم أن جنس الإنسان العاقل ظهر في أفريقيا قبل 300 ألف سنة، بحسب آخر الأبحاث في هذا النطاق، فإن التقدم الحضاري الكبير الذي أحرزه لم يحدث سوى مؤخرا بعد الثورة الزراعية الأولى (5)، أي منذ اثني عشر ألف عام فقط، وهي فترة قصيرة جدا في عمر كوكبنا.

في المقابل، لم يظهر التأثير الحقيقي للجنس البشري على مناخ الأرض إلا إبان الثورتين الصناعيتين منذ ثلاثة قرون (6). فمنذ اكتشاف الوقود الأحفوري، أدَّت الكثير من الابتكارات مثل المحرك البخاري وتكرير البترول إلى قفزة كبيرة في عالم الصناعة، وقفزة أكبر في انبعاثات الغازات الدفيئة، التي تُعَدُّ المُسبِّب المباشر للتغير المناخي في القرنين الأخيرين.

الغازات الدفيئة هي ببساطة الغازات القادرة على حبس الحرارة القادمة من الشمس داخل كوكب الأرض، ما يرفع بالتبعية متوسط درجات حرارة الكوكب، ويأتي في مقدمتها "ثاني أكسيد الكربون" الذي يخرج من الوقود الأحفوري. وبحسب وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA)، فإن غاز ثاني أكسيد الكربون وحده زاد في الغلاف الجوي بنسبة 46% خلال القرون الثلاثة الماضية فحسب (7)، أما بالنسبة لغاز الميثان، وهو غاز دفيء آخر يتسبَّب في المشكلة نفسها، فرغم أنه مرتبط ارتباطا وثيقا بإنتاج الغاز الطبيعي والبترول، فإن له مصدرا آخر غاية في الأهمية، وربما يكون غير متوقَّع بالمرة.

خلال 12 ألف عام ماضية، تصاعد عدد سكان العالم بوتيرة بطيئة نسبيا نتيجة حدوث الأوبئة والمجاعات وزيادة عدد الوفيات (8). لكن الوضع تغيَّر بحلول منتصف القرن الثامن عشر، حيث أدَّت التطورات في البنية التحتية والنظافة الشخصية إلى الارتقاء بمكافحة الأوبئة والحد من عدد الوفيات. نتيجة لذلك، تصاعد عدد سكان العالم تصاعدا متسارعا ليصل إلى البليون الأول في منتصف القرن التاسع العشر، قبل أن يتجاوز البليون السابع في القرن الحادي والعشرين (9). مع هذا التزايد الجنوني كان لا بد من تحويل تربية المواشي من المزارع الصغيرة إلى الحظائر العملاقة، لتلبية الطلب المتزايد على اللحوم وإطعام 7.9 بلايين إنسان.

مع وجود 1.5 بليون بقرة حول العالم، أي بقرة واحدة لكل 9 أشخاص، تسبَّب ذلك في مشكلة. فوفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن تربية المواشي على مستوى العالم مسؤولة عن نسبة غير قليلة من انبعاث الغازات الدفيئة، حيث تُمثِّل هذه الصناعة وحدها 14.5% من مجموع انبعاثات الغازات الدفيئة التي سبَّبها الإنسان. تحوز الأبقار -وهي المتهم الثاني في قضية غاز الميثان- على اهتمام خاص هنا، لأنها المصدر الأكبر للحوم الحمراء والغازات الدفيئة الصادرة عن صناعة تربية المواشي على حدٍّ سواء (10).

الأبقار حيوانات عاشبة، تمتلك جهازا هضميا معقَّدا يسمح لها بتخزين الطعام في معدة إضافية وهضمه ببطء عن طريق بلايين البكتيريا، في عملية تُعرف بـ "التخمر المعوي" وينتج عنها غاز الميثان، الذي يُطلق للهواء عن طريق التجشؤ بشكل أساسي (11). في تقرير حديث للمعهد الأميركي لعلوم الأرض، وُجد أن التخمر المعوي وحده مسؤول عن 25% من انبعاث غاز الميثان في الولايات المتحدة فقط (12).

لا يقتصر الأمر على ذلك. قد لا تقود الأبقار السيارات بنفسها، لكن عوادم وقود سيارات النقل في سلاسل توريد لحومها مسؤولة عن 20% من انبعاثات الغازات الخاصة بتربية المواشي (13)، بالإضافة إلى ذلك، يقضي البقر معظم ساعات استيقاظه في مضغ طعامه، لأن الغذاء النباتي منخفض السعرات الحرارية، لذا تحتاج البقرة الواحدة إلى 12 كيلوغراما من الأعلاف يوميا، هذا القدر من الطعام ينتج عنه قدر كبير من الغائط الذي يُعالَج لتصنيع السماد، العملية التي ينتج عنها كمية لا بأس بها من غاز الميثان، تُقدَّر بـ 9% من انبعاثات غاز الميثان في الولايات المتحدة.

دعنا نتعمَّق أكثر في مسألة غاز الميثان لندرك مدى الضرر الذي تُسبِّبه شطيرة البرجر البريئة التي تناولتها على الغداء. رغم أن غاز ثاني أكسيد الكربون يحتل المركز الأول بين الغازات الدفيئة بنسبة 65% (14)، فإن غاز الميثان له قوة احترار عالمي (Global warming potential) تساوي 28 مرة قوة غاز ثاني أكسيد الكربون، رغم أنه يُشكِّل 16% فقط من انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن النشاط البشري. إذن فتأثير الاحترار الذي يُسبِّبه جزيء واحد من الميثان يعادل ما يُسبِّبه 28 جزيئا من ثاني أكسيد الكربون (15).

لفهم علاقة الأبقار بمشكلة الاحترار العالمي فهما أوضح، دعنا نراقب ما يحدث داخل الصوبة الخضراء التي تُستخدم في زراعة بعض النباتات. الصوبة مصنوعة بالكامل من الزجاج، لذا في ساعات النهار، يسمح الزجاج بدخول أشعة الشمس الدافئة بغزارة، ولكنه لا يسمح لها أن تنعكس للخارج بالمعدل نفسه، ما يجعل الجو داخل الصوبة أكثر دفئا من خارجها، حتى بعد غياب الشمس (16)، هذا بالضبط ما تفعله الغازات الدفيئة بالأرض. ورغم أن هذه العملية ضرورية لاستمرار الحياة على سطح الأرض، فإن درجات الحرارة وصلت إلى معدلات غير مسبوقة قد يتعذَّر معها استمرار الحياة على كوكبنا.

تأثير الصوبة الزجاجية.. كيف ترفع الغازات الدفيئة من درجة حرارة الأرض؟

من الجليّ إذن أن تناول اللحوم بكثافة في عصرنا الحالي سلوك لا يخلو من المخاطر، ليس فقط المخاطر الصحية المباشرة في الإنسان، كأمراض القلب وتصلُّب الشرايين، بل تلك التي يتعرَّض لها الكوكب بأكمله. يمكننا أن نقول بثقة إن صناعة تربية المواشي سبب لا يمكن تجاهله لحدوث الاحتباس الحراري وتغيُّر المناخ الذي نعيش تبعاته اليوم، من موجات حارة عنيفة متزايدة، أو عواصف وموجات جفاف وحرائق غابات، وما يتبعها من عواقب على الكائنات الحية الأخرى التي تُشاركنا عالمنا، أو بالأحرى التي نشاركها عالمها.

قد لا تكون هذه البصمة الوحيدة التى سيتركها البشر في السجل الأحفوري، فالكائنات التي ستلحق بنا بعد آلاف السنين ستجد العديد من الكوارث الأخرى المدفونة تحت طبقات التربة حتى تُكتَشف. هنا يجب أن نتساءل؛ إذا كانت اللحوم -بشكل ما- سببا في تطوُّرنا إلى ما نحن عليه الآن خلال ملايين السنين، فهل يمكن للجنس البشري اليوم أن يتخلَّى عنها نهائيا ويتجه إلى بدائل أخرى للبروتين؟ وكيف قد يؤثر هذا على شكل الحياة على كوكب الأرض مستقبلا؟

_______________________________________________________

المصادر:

  1. The Benefits of Food Processing
  2. Brain Facts and Figures
  3. Meat-Eating Among the Earliest Humans
  4. المصدر السابق
  5. Neolithic Revolution – HISTORY
  6. Industrial Revolution: Definitions, Causes & Inventions – HISTORY
  7. Climate Change Indicators: Atmospheric Concentrations of Greenhouse Gases | US EPA
  8. The world population explosion: causes, backgrounds and projections for the future
  9. World Population Clock: 7.9 Billion People (2021)
  10. FAO – News Article: Key facts and findings
  11. Carnivore Digestive System vs. Herbivore Digestive System
  12. Methane Emissions in the Oil and Gas Industry
  13. FAO – News Article: Key facts and findings
  14. Global Greenhouse Gas Emissions Data | US EPA
  15. Guest post: A new way to assess ‘global warming potential’ of short-lived pollutants
  16. The Greenhouse Effect
المصدر : الجزيرة