شعار قسم ميدان

لا تخش الصمت.. الثرثرة ليست مقياس دفء العلاقات دائما

نعرف ذلك الشعور المُحرِج عندما تتوقَّف محادثة جماعية مُتدفِّقة بيننا فجأة وتبدأ لحظات من الصمت، غالبا ما نشعر بالتوتر، ونُفكِّر في أي كلمات تخلق حوارا جديدا. نعم، حين ينساب الحديث بيننا نشعر بالاطمئنان، بينما يُنبِّهنا توقُّفه، حتى ولو للحظات قليلة، إلى أن علاقتنا بالمحيطين ليست على ما يُرام، سواء كان ذلك بين زوجين أو بين مجموعة من الأصدقاء، لطالما كان الصمت مرادفا للفراغ والعدم، والموت أحيانا، فهل يعني الصمت دائما أن علاقاتنا تسير نحو الأسوأ؟ (1)

يبدو أن الأمر ليس كذلك دائما، بل إن الشاعر والفيلسوف الأميركي هنري ديفد ثورو يرى أن مأساة البشر لا تحدث حين نُسيء فهم الكلمات، لكنها تحدث عندما لا يُفهم الصمت، وتقول الدكتورة ديبورا تانين، أستاذة اللسانيات في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة: "بمجرد أن نحتاج إلى كلمات، يكون هناك بالفعل فشل في فهم بعضنا بعضا، لذا فأنت تعمل على أن تُعالج هذا الفشل باستخدام الكلمات". (2) (3)

تمنحنا الطلاقة في الحوار شعورا بالسيطرة على الاتصال، وتُشبع الحاجة إلى الانتماء والترابط بين المجموعة واحترام الذات، هذا ما تُشير إليه دراسة لباحثين من جامعة خرونينغن بهولندا حول تأثير الفترات الوجيزة من الصمت في الأحداث الاجتماعية، أظهرت الدراسة أن تدفُّق الحديث ارتبط بمشاعر الانتماء واحترام الذات، بينما كان الصمت للحظات يُهدِّد هذه المشاعر، ويرتبط بمشاعر سلبية وشعور بالرفض.

خلصت الدراسة إلى أن أربع ثوانٍ فقط من الصمت كافية لتعطيل تدفُّق المحادثة ونقل شعور بالضيق والخوف والرفض للموجودين. كشفت الدراسة أيضا أنه على الرغم من أن الناس لا يلاحظون بوعي فترات الصمت القصيرة، فإنهم يتأثرون بتوقُّف هذا التدفُّق في الحوار، فيزيد شعورهم بالرفض ويختبرون المزيد من المشاعر السلبية والإقصاء الاجتماعي. (4)

يعتقد أغلبنا أن وجود علاقات جيدة تُترجم في حديث مُتدفِّق يسمح لنا بأن نعرف باستمرار ما يُفكِّر فيه الآخر، لكن ماريا خوسيه كاتالينا، وهي أخصائية نفسية، تقول إن العلاقة الجيدة هي تلك التي توجد فيها مساحات من الصمت والملل دون أن يُشكِّك أطرافها في مدى قوتها، وهكذا يصبح الصمت مقياسا للثقة والأُلفة؛ بمعنى أن نكون مرتاحين بينما نستسلم للصمت بسرور. وعلى الرغم من غرابة هذه المتعة بالنسبة للكثيرين، فإن الصمت مؤشر إيجابي جدا على مقدرتك أن تكون مع مَن تحب، مُسترخيا دون الحاجة إلى قول أي شيء. (5)

في اللغة الإنجليزية تحديدا، لا توجد فجوات في الحديث، إنه يتوقَّف فقط لأجزاء من الثانية ويتواصل مرة أخرى، وما إن يطول الصمت لأربع ثوانٍ مثلا حتى يبدأ الشعور بعدم الارتياح، تختلف تصوُّراتنا عن لحظات الصمت عموما باختلاف ثقافاتنا، ما تعتبره ثقافة ما وقفة مُحيِّرة أو مُحرِجة يراه الناس في ثقافة أخرى لحظات ثمينة من التأمُّل وعلامة على احترام المُتحدِّث الأخير.

في المقابل، يتحمَّل اليابانيون مثلا أن يستمر الصمت في اجتماعاتهم لنحو 8 ثوانٍ بسعادة ورضا دون أي شعور بعدم الاستقرار، إنها الثقافة ذاتها التي تعتقد أن "الرجل الصامت هو أفضل مَن يُستمع إليه". يظهر الصمت حتى على الورق أحيانا كما في "الهايكو"، وهو أحد أنواع الكتابة الشعرية في اليابان، ويتكوَّن من ثلاثة أسطر فريدة يُمثَّل فيها الصمت بمساحات فارغة.

يعرف اليابانيون قوة الصمت أيضا في مفهوم "haragei"، وهو مفهوم ياباني للتواصل بين الأشخاص تعني ترجمته الحرفية "حديث المعدة"، ويُشير إلى التواصل بالعبارات اللطيفة والإشارات الغامضة وغير المباشرة والصمت المُطوَّل، ويُعتبر أفضل اتصال يجري بين الأفراد دون حديث بينهم على الإطلاق، الفنلنديون أيضا يجدون سعادة في الجلوس معا في لحظات من التفكير لا يقول فيها أحد أي شيء، فقط يُفكِّرون معا، ويعتبرونها جلسة مثالية. (6)

لكن ليست كل الثقافات تتقبَّل هذه اللحظات الثقيلة من الصمت. تُفسِّر أنخيليس ماركو فوراسولا، مؤلفة دراسة "أنثروبولوجيا الصمت: دراسة عن الصمت في النشاط البشري"، تلك الحاجة إلى الثرثرة المتواصلة، خاصة لدى مجتمعات البحر الأبيض المتوسط، بالجذور اليونانية اللاتينية في ثقافات هذه الشعوب​، حيث كان الخطاب مهما، وكانت الكلمة هي ما يُحدِّد مكانة الفرد في المجتمع، فكانت موهبة الخطابة تمنحه القوة، بينما في ثقافات وفلسفات أخرى مثل البوذية فإن الصمت هو ما يُضفي مهابة على الفرد، حتى إن القائد الحقيقي لا يكاد يُعرف بين الحاضرين.

في أحيان أخرى، تُفسَّر أهمية الثرثرة في الثقافة الغربية وفق الطريقة التي سار بها التاريخ الأميركي، حيث تسبَّبت الحقبات الاستعمارية في اختلاط العديد من الشعوب المختلفة، وكان من الصعب إنشاء فهم مشترك دون حديث، هكذا كان ينتابهم القلق إذا لم ينخرط الناس لفظيا، فقد كان الحديث يعني تأسيس حياة مشتركة.

بينما في المقابل، كان وجود التجانس بين أفراد الشعوب الأخرى -الشرقية تحديدا- يُسهِّل ظهور بعض أنواع الصمت، وهو أمر نلمسه نحن حين نجلس في صمت وراحة بين الأقارب والأصدقاء على سبيل المثال، بينما لا نشعر بتلك الراحة حين يعم الصمت جلسة تجمعنا بأشخاص لا نعرفهم جيدا.

إن ما يجعل الصمت مُحرِجا في ثقافات بعض الشعوب هو نفسه ما يجعله أداة قوية في التفاوض، يقول ماثيو ماكلاشلان، مدرب اللغة والمهارات الشخصية بشركة "Learnlight" بالمملكة المتحدة، إن تعلُّم كيفية مواجهة الصمت مهارة مهمة، خاصة عند العمل مع ثقافات مختلفة، ويقول إن المفاوضين الصينيين يستخدمون هذه الحيلة بمهارة، إذ يُدركون أن الأميركيين يحبون ملء الصمت، لذا يلجؤون في مواجهتهم فقط إلى لحظات من الصمت يشعر معها الأميركيون بعدم الراحة، فيُبادرون إلى تقديم تنازلات دون أن يضطر الصينيون إلى فعل أي شيء آخر. (7)

ولكن الصمت ليس أمرا جيدا في كل الأحوال كما هو واضح. في مقال لها تحكي الكاتبة ميكي ساكمان أنها حين ذهبت وأخبرت والدتها بوجود مشكلة مع زوجها السابق، حيث يقضيان وقتا طويلا دون حوار، بلغت مدته 45 دقيقة أثناء قيادته السيارة، وكيف كانت منزعجة وهي تُجهِد عقلها في محاولة معرفة الخطأ الذي حدث بينهما، فوجئت بوالدتها ترد: "أنا ووالدكِ نقود السيارة طوال الوقت دون أن نتحدَّث". تذكَّرت عندها ميكي كيف كان صوت الصمت في منزل الوالدين؛ كان مليئا بالغضب، وكانت هذه طريقتهما في التعبير عن هذا الشعور الغاضب، لم يكن أبدا صمتا مريحا يسمح لهم بسماع القلوب أو الشعور بالترابط أو الصفح أو القبول. (8)

رغم ما يعنيه الصمت حول العلاقات الصحية، وكونه مؤشرا جيدا على التفاهم في كثير من الأحيان، فإنه قد يصبح مؤشرا خطيرا على وجود مشكلات عميقة في طريقها للظهور. في بدايته، ربما يُعبِّر عن احتياج أطراف العلاقة إلى نقل الحديث لمستوى أعمق حتى لا يفقد أحدهم بريقه، وليظل التواصل قائما، وفي أحيان أخرى يُعبِّر عن غضب أو تجاهل أو عقاب يستخدمه أحد الأطراف -ربما لا إراديا- تجاه الآخر.

كذلك قد يكون الصمت شكلا من أشكال التجنُّب في العلاقة حين لا يُجيد أحد الأطراف إدارة الصراع أو التعبير عما يشعر به، فيبدو الصمت أكثر أمانا له لتجنُّب الخلاف، وفي هذه الحال يكون الصمت مرحلة انتقالية قبل تفاقم المشكلات، وليس فرصة للتجاوز والحل.

يرى ريتشارد بي جويلسون، وهو معالج نفسي، أن الصمت الذي يحدث في شراكة زوجية طويلة قد يكون مألوفا ومفهوما من الطرفين، بينما لا يكون كذلك في علاقة بدأت للتو مثلا، ومع ذلك يُنبِّه إلى ميل البعض لتفسير الصمت غير المرغوب شخصيا، كأن يعتقد أن الآخر لا يتحدَّث معه لأنه يراه أقل ذكاء أو لا يراه جذابا، ويؤكِّد أنه كثيرا ما يكتشف في جلسات العلاج النفسي حين يسأل عن الأمر أن هناك سببا مختلفا تماما للصمت، وقد لا يُمثِّل مشكلة في كل الأحوال. (9)

إننا نحتاج إلى تلك اللحظات من الهدوء على مدار اليوم، مع أي شخص نحبه، لكن يبقى المهم هو إدراكنا لصوت الصمت؛ وماذا نجد حين نتأمله؟ هل نشعر بالهدوء والسكينة كما في صمت العلاقة القوية، أم نشعر بالتوتر والقلق؟ الجواب عن هذا السؤال وحده سيُخبرنا إذا ما كان علينا أن نفعل شيئا حيال لحظات الصمت.

____________________________________________________________________

المصادر:

  1. “El parloteo lleva a la idiotización”, o cómo el silencio eleva el intelecto y gana muchas peleas
  2. Silence Can Be the Sign of a Strong Relationship
  3. The subtle power of uncomfortable silences
  4. Disrupting the flow: How brief silences in group conversations affect social needs
  5. “El parloteo lleva a la idiotización”, o cómo el silencio eleva el intelecto y gana muchas peleas
  6. The subtle power of uncomfortable silences
  7. The subtle power of uncomfortable silence
  8. Silence Can Be the Sign of a Strong Relationship
  9. Silence in a Relationship
المصدر : الجزيرة