شعار قسم ميدان

ضغوط الأقران.. كيف تؤثر في سلوك أبنائك؟ وكيف تساعدهم على التعامل معها؟

طبقا لأسطورة شهيرة، ابتُليت بلدة ألمانية تُدعى "هاملين" بالجرذان، وذات يوم مرَّ بهم "زمّار" عرض أن يُخلِّص أهل البلدة من الجرذان مقابل مبلغ من المال. وبالفعل أخرج الرجل مزمارا وطاف الشوارع يعزف، والجرذان تخرج من جحورها لتتبعه، فسحبها بنغماته حتى النهر وأغرقها وتخلَّصت البلدة من فئرانها للأبد. وعندما طالب الزمار بمكافأته تنصَّل أهل البلدة من وعدهم، مما جعل الزمار يُقرِّر الانتقام، وهذه المرة أخرج مزماره وعزف، ليتبع نغماته الأطفال طفلا وراء طفل، 130 طفلا ساروا وراءه حتى خرجوا من البلد، ولم يرهم بعدها أحد.

 

تنتشر الكثير من النظريات حول الأصل التاريخي لتلك الحكاية، لكن ما دفعنا لاستدعائها هنا هو تساؤل بسيط: هل من الممكن أن ينجذب 130 طفلا للنغمة نفسها؟ أم أن كل ما في الأمر أن طفلا أو اثنين أو حتى ثلاثة رقصوا، فتبعهم الباقون، ولم يرهم بعدها أحد؟

 

"سيجارة واحدة جرِّبها معنا، أم أنك ما زلت طفلا؟"، يحكي علي (اسم مستعار) عن أول سيجارة دخَّنها في عمر الثانية عشرة، تحت تأثير زملائه، عن شعوره بالرغبة في أن يذوب وسط مجموعة الأصدقاء، وخوفه من الاستبعاد من "الشلة" نتيجة الوصم بأنه ما زال طفلا أو جبانا لمجرد رفضه تجربة التدخين.

 

ضغط الأقران (peer pressure) هو التأثير الذي يمارسه الأشخاص داخل المجموعة الاجتماعية نفسها على الشخص ليتوافق معهم كي يحظى بالقبول في المجموعة. ليس شرطا أن يكون الأقران أصدقاء مقربين، فربما يكونون زملاء بعيدين في المدرسة أو النادي، أو حتى مؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي من العمر نفسه. (1)

 

في مرحلة الطفولة، يتحكَّم الوالدان بشكل أو بآخر في اختيار الأصدقاء لأبنائهم، عن طريق تدبير مواعيد اللعب مع أطفال معينين، وتطبيق رقابة شبه صارمة على المحيطات التي يتعامل فيها الطفل. وشيئا فشيئا، ينفلت هذا الحبل، ليصبح الأبناء أكثر استقلالية، يقضون مع زملائهم وأصدقائهم وقتا أطول مما يقضونه مع العائلة.

 

يتعرَّف الإنسان على نفسه بالنظر في مرآتها، وأيضا بالنظر إلى مرايا الآخرين. وطبقا لنظرية التعلُّم الاجتماعي، يُفترض أن عملية التعلُّم واكتساب السلوكيات الجديدة تتم من خلال مراقبة الآخرين وتقليدهم والتفاعل معهم. وغالبا تُعزِّز هذه التفاعلات الاجتماعية الإيجابية الثقة للأفراد، لكن الأمر يصبح مُعقَّدا عندما يكون السلوك المعزَّز سلوكا سلبيا.

 

وعلى الرغم من أن ضغط الأقران ليس شرطا أن يكون سلبيا، فإن مصطلح "الضغط" يُشير إلى أنه عملية تؤثِّر على الأشخاص لفعل أشياء يقاومون فعلها، أو يختارون فعلها بطريقة أخرى، وهو ما يجعل مصطلح "ضغط الأقران" يُستخدم عندما يتحدَّث الناس عن سلوكيات تُعتبر غير مقبولة اجتماعيا أو غير مرغوب فيها، مثل تجربة الكحول أو التدخين أو المخدرات.

 

طبقا لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، هناك على الصعيد العالمي مراهق واحد على الأقل يتعاطى التبغ من كل 10 مراهقين تتراوح أعمارهم بين 13-15 عاما. يتناول حاليا أكثر من ربع المراهقين المتراوحة أعمارهم بين 15-19 عاما الكحول بعدد إجمالي يناهز 155 مليون مراهق. وفي عام 2016، بلغ معدل انتشار الإفراط في شرب الكحول في صفوف هذه الفئة العمرية 13.6%.

 

إن الحاجة الأبدية إلى الاندماج في جماعة أو الشعور بالقبول أو تجنُّب الحرج، وأحيانا الجهل وعدم معرفة ما ينبغي فعله في موقف ما، قد تدفع بالإنسان للبحث في أفعال مَن حوله عن إرشادات حول ما هو مقبول وما هو غير مقبول.

 

ويبدو أن المراهقين هم الأكثر عُرضة للسقوط في فخ ضغوط الأقران، لوقوعهم في مرحلة عُمرية حرجة يكونون فيها أكثر ميلا للاستقلال عن تأثير والديهم، بينما لم يتمكَّنوا بعد من تثبيت قيمهم الخاصة، أو مفاهيمهم حول العلاقات الإنسانية. وفي سعيهم الحثيث نحو القبول الاجتماعي، يصبحون أكثر استعدادا للانخراط في سلوكيات مُخالفة لقيمهم، دون إدراك عواقبها. (2)

 

يدعم هذا الاستنتاج دراسة نُشرت مؤخرا في المجلة الرسمية للأكاديمية الأميركية لطب الأطفال، وقد توصَّلت إلى أن استجابة الشخص لضغوط الأقران تأخذ منحنى يشبه شكل حرف (U) في الإنجليزية، فتقل الاستجابة لضغط الأقران في سنوات الطفولة والمراهقة المبكرة، لكنها تزداد خلال مرحلة الدراسة المتوسطة، وتعاود الانخفاض في المرحلة الثانوية.

 

وطبقا للبروفيسور بريت لورسن، المدرس بقسم علم النفس في جامعة فلوريدا أتلانتيك وواحد من المشاركين في الدراسة سالفة الذكر، فإن أبحاث الدماغ تدعم هذه الفكرة على المستوى البيولوجي أيضا، إذ تشهد هذه المرحلة مزيجا معقَّدا من التغيرات الهرمونية. يؤكِّد الفكرة نفسها "ميتش برينشتاين" أحد الباحثين البارزين في علم النفس بجامعة "نورث كارولينا"، ومؤلف كتاب "مشهور" (Popular)، مَن يرى أن هناك تغيرات تحدث في الدوائر العصبية تحثها هرمونات البلوغ في فترة المراهقة، وهي التي تجعل المراهقين أكثر ميلا لإظهار سلوكيات مضطربة.

يتصرَّف المراهقون استجابة لدوافع مثل البروز الاجتماعي وإظهار السيطرة والقوة، وهي أمور تنشط مراكز المكافأة الاجتماعية في الدماغ. ويحصل المراهقون المشهورون على قوتهم -طبقا لبرينشتاين- من قدرتهم على تعزيز التوافق في المواقف والسلوكيات مع أولئك الذين يتطلَّعون إليهم.

 

ورغم ذلك، فإن هناك بعض الخصائص المشتركة التي تجعل بعض الأفراد أكثر عُرضة من غيرهم للاستجابة لضغط الأقران، ومن بينها: المخاوف بشأن مكانتهم الاجتماعية، وتدني احترام الذات، والعلاقات الأسرية المضطربة، وطبيعة الآباء المفرطين في التساهل أو السلطويين تسلُّطا متزايدا. وأخيرا، الانتقال إلى مدرسة أو مدينة جديدة، وما يضعه ذلك من عبء على المراهق للاندماج سريعا في بيئته.(3)

 

في بعض الحالات يصعب تحديد مصدر ضغط الأقران، فمن الممكن أن يأتي عبر إشارات خفية دون قول أي شيء، قد يشعر الفرد أحيانا بالضغط لفعل أمر ما لمجرد أن الآخرين يفعلونه، لكن عموما يمكن تصنيف ضغط الأقران تبعا لمدى علنيته ومباشرته، وتأثيره الإيجابي أو السلبي.

 

في بعض الأحيان يكون ضغط الأقران مُعلنا، عندما يُطلب من الشخص الانخراط في سلوك معين بوضوح، سواء من قِبَل فرد أو مجموعة، لكنه في غالب الأحيان يكون غير مُعلَن، حيث يتعرَّض الشخص لخيارات وتصرُّفات شخص ما أو أكثر من أقرانه، من أبرز الأمثلة على ذلك التأثُّر بخيارات الملابس، أو طريقة الحديث، أو رؤية العديد من الزملاء في العمر نفسه يدخنون خلسة.

يمكن أن يكون الضغط مباشرا أيضا أو خفيا وغير مباشر، وفي حين أن ضغوط الأقران غالبا ما ترتبط بالانخراط في سلوكيات سلبية مخالفة لقواعد المراهق الأخلاقية من أجل الفوز بالقبول الاجتماعي، فإن بعض السلوكيات الناتجة عن ضغط الأقران تكون إيجابية مثل ممارسة الرياضة، أو التفوق الدراسي، وهو أمر صحي ما لم يتحوَّل إلى هوس يستحوذ على حياة الأبناء، بحيث يصبح طريقة غير صحية للتأقلم مع الآخرين.(4)

 

قبل أن تبدأ في القلق على تأثير أصدقاء أبنائك، من المهم أن تُركِّز على توفير بيئة منزلية داعمة وإيجابية خالية من السلوكيات الإدمانية، وتقديم نموذج صحي لحل المشكلات بطريقة إيجابية وعدم الهرب من المشاعر غير المريحة، مع تأكيد أن يتعلَّم الأبناء تحقيق التوازن بين قيمهم الخاصة وبين رغبتهم في التوافق مع أقرانهم، وهناك بعض الخطوات التي تساعد في ذلك:

  • تعزيز احترام الذات والثقة بالنفس:

علِّم أبناءك كيف يتصرَّفون بثقة، وشجِّعهم على الانخراط في أنشطة جديدة تمنحهم فرصا للنجاح، وامتدح محاولاتهم الجادة والمتواصلة حتى لو لم يصلوا للنتائج المرجوة.

 

  • الحفاظ على التواصل مع أبنائك:

أقِم حوارا مفتوحا خاليا من الأحكام، واكتسب ثقتهم بحيث يصبحون مرتاحين في الحديث حول ما يواجهونه من مشكلات.

  • علِّمهم قول "لا":

بعض المراهقين يشعرون بالحرج من رفض اقتراحات زملائهم، علِّمهم قول "لا" واقترح عليهم بعض الأعذار التي يمكنهم استخدامها.

 

  • ساعِد أبناءك على الإدراك:

بدلا من انتقاد أصدقائه، تحدَّث لابنك عن السلوك الذي لا يعجبك وليس الأشخاص، وساعِده على إدراك تأثيره السلبي دون الحكم عليه.

 

  • اختر معاركك بحكمة:

ليس من الضروري أن توافق على اختيارات ملابسه دائما، أو الطريقة التي يُزين بها جدران غرفته، اسمح بمساحة واسعة من الحرية بحيث تستطيع التدخُّل في أوقات الخطر.

 

  • ساعِدهم على توسعة دائرة الأصدقاء:

يميل الأشخاص الذين لديهم عدد قليل من الأصدقاء إلى التوافق خوفا من فقدان الأصدقاء، وبمعنى آخر، إذا كان لدى ابنك العديد من خيارات الأصدقاء، فمن غير المرجَّح أن يتأثر بضغوط الآخرين.(5)

عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:

"المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل".

رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح

يُشكِّل الأصدقاء في مرحلة المراهقة دعما رائعا لا يمكن الاستغناء عنه، في استكشاف الأفكار والتجارب الجديدة واكتساب الخبرات المختلفة. ففي تلك المرحلة، يكتشف الفرد مَن هو، وأين مكانه في العالم، ومن المريح مواجهة هذه التحديات مع أصدقاء وأقران يجد بينهم القبول والدعم والتعاطف.

 

ولكن بغض النظر عن مدى حكمة اختياره لأصدقائه أو اعتقاده بأنه يعرفهم جيدا، سيكون على المراهق من وقت لآخر اتخاذ قرارات صعبة، قد لا تحظى بالشعبية بين أقرانه. هذه اللحظات والقرارات هي التي تمنحه الفرصة لتشكيل وعيه، ومعرفة مَن هو حقا. لا يوجد حل سحري لمواجهة هذه اللحظات، كل ما يحتاج إليه المرء هو جرعة من الشجاعة، والثقة في حدسه، وعائلة داعمة يمكنه العودة لها دائما.

————————————————————————-

المصادر

  1. Positive Peer Pressure: Definition, Facts & Examples
  2. How Peer Pressure Influences Addiction
  3. TYPES OF PEER PRESSURE
  4. What are the Six Types of Peer Pressure?
  5. How to Handle Peer Pressure
المصدر : الجزيرة