القضاء في زمان كورونا.. كيف تُغيِّر المحاكمات الافتراضية على "زووم" مجرى العدالة؟

أعدَّ الصحافي "إريك شيليانو" تقريرا نشرته مجلة "الأتلانتيك" الأميركية يبحث فيه تجارب انتقال بعض المحاكم الأميركية للعمل إلكترونيا جراء تفشي فيروس كورونا. على غرار كل مجالات العمل الأخرى، كان للتقاضي الإلكتروني مزاياه ومساوئه، فماذا حدث في تجربة "القضاء الافتراضي" الأميركية حتى الآن؟
في يوليو/تموز الماضي، غرَّدت "ميشيل ريك"، القاضية آنذاك بدائرة المحاكم في مقاطعتين بولاية ميشيغان، احتفاء بإتمامها قضية طلاق كانت تتولاها، وحضر أطرافها إلى المحكمة افتراضيا عبر هواتفهم النقالة. وقالت القاضية في تغريدتها: "كان الرجل على الطريق وصفَّ سيارته جانبا ليحضر الجلسة، وحضرت السيدة عن طريق مكالمة بالفيديو من الكافيتيريا في مقر عملها". ومن ثمَّ تمَّ الطلاق بعد ربع ساعة من بداية الجلسة، أسرع حتى من جلسات الطلاق الشهيرة في مدينة "رينو" (مدينة بولاية نيفادا تُعَدُّ منذ الثلاثينيات عاصمة الطلاق في الولايات المتحدة).
مع ارتفاع حالات العدوى بـ "كوفيد-19″، لجأت محاكم أميركية كثيرة إلى تقليص أعمالها. ومع تراكم القضايا تحوَّلت المحاكم لتُعقَد إلكترونيا بسرعة أذهلت القضاة والمدعين ومحامي الدفاع، وأثارت قلقهم أحيانا. عقدت المحاكم الأميركية أثناء العام الماضي، عن طريق برنامج "زووم" أو منصات التواصل المشابهة، ملايين جلسات الاستماع والشهادة، والاستدعاءات للمثول أمام المحكمة، وجلسات التسوية، وحتى جلسات المحاكمة، كلها تقريبا قضايا مدنية أو جرائم جنائية بسيطة. وبحلول فبراير/شباط الماضي، أتمَّت ولاية تكساس، الولاية التي تحوَّلت بقوة أكثر من غيرها إلى العمل عبر الإنترنت، ما يصل إلى 1.1 مليون إجراء قضائي إلكترونيا.
يُعتبر "القضاء الافتراضي" (اللفظ الأقرب وإن لم يلقَ قبولا بعد) استجابة طارئة لوضع قاسٍ. لكنه أيضا رؤية لطالما حاول المبتكرون في المجال القضائي تحقيقها. أخبرتني "بريدجِت ماري ماكورماك"، قاضية قضاة ميشيغان، وواحدة من أكبر الداعمين للاتجاه نحو "القضاء الافتراضي"، بأن هذا الاتجاه الجديد لن يجعل المحاكم أكثر أمانا فحسب، بل أيضا "أكثر شفافية، وأكثر إتاحة، وأكثر ملاءمة وراحة". فلن يحتاج الشهود والمحلَّفون وأطراف الدعاوى بعد الآن إلى استقطاع ساعات من دوام عملهم أو المعاناة في الازدحام المروري، كما سيُتيح الأمر للمحامين الموكلين بقضايا متعددة التنقل من واحدة إلى الأخرى بلمسات على شاشات هواتفهم.
في يوليو/تموز الماضي، أقرَّ كلٌّ من مؤتمر رؤساء المحاكم ومؤتمر مديري محاكم الولايات مجموعة مشتركة من "المبادئ التوجيهية لتكنولوجيا المحاكم ما بعد الجائحة"، مُوجِّهين رسالة مباشرة مفادها أنه يجب على النظام القضائي "نقل أكبر عدد ممكن من إجراءات المحاكم لتتم عبر الإنترنت"، والإبقاء على هذا النهج حتى بعد زوال خطر العدوى، وكتبوا: "لم تكن الجائحة اضطرابا رغبت فيه المحاكم، لكنه الاضطراب الذي كانت تحتاج إليه".
تحمل المحاكم الأميركية على عاتقها طبقات ثقيلة من التعقيدات والأعراف، بداية من زي المحكمة وهو المعاطف السوداء، ونداء الحاجب آمِرا الحضور: "قيام" (احتراما لحضور القاضي)، وحتى إجراءات المحاكمات الغامضة. أما وقد أجبرتهم جائحة "كوفيد-19" على الارتجال والتجربة، فإن مستقبل ما بعد الجائحة يلوح في الأفق الآن ويمنحنا فرصة للتفكير. كم من هذه التجارب ستبقى حتى بعد أن تضع الجائحة أوزارها؟ وكم منها يجب أن نُبقي عليه، مع الأخذ في الاعتبار كم المخاطر المرتبطة بمنظومة العدالة؟
هناك أسباب وجيهة للحذر من التحرُّك بسرعة. يعيش ما يُقدَّر بنحو 42 مليون أميركي بعيدا عن خدمات الإنترنت، كما أن المُسنين قد لا يكونون قادرين على (أو غير راغبين في) إتقان تكنولوجيا المحادثات الجماعية بالفيديو. ويرفض "دوغلاس هَيات"، محامي دفاع في مدينة سياتل، تجربة إجراء القضايا عن بُعد، إذ أخبرني قائلا: "يمكنهم اتهامي بازدراء المحكمة لو أرادوا. كثير من الموكلين لدي فقراء، ولا يستطيعون الوصول إلى خدمة الإنترنت، وكثير منهم أُمِّيون أو لا يتحدثون الإنجليزية ولا يستطيعون التعامل مع مثل هذه الأمور".
عالجت المحاكم هذه الفجوة الرقمية عن طريق وضع "أكشاك زووم"، ففي تكساس مثلا تُعار أجهزة "التابلت" للمحلَّفين. ويمكن للمدَّعَى عليهم تسجيل الدخول إلى جلسة "زووم" من المكتبات المحيطة بهم إذا كانت مفتوحة، أو عن طريق الهاتف. ولكن تخيَّل نفسك في خضم مرافعة أثناء عرض قضيتك أمام قاضٍ بينما يتقطع إرسال هاتفك أو يصرخ أطفالك في الخلفية أو يُحذِّرك أمين المكتبة من رفع صوتك.
تخيَّل أيضا أن تُعرَض محاكمتك في بث حي عبر "يوتيوب". تستوفي المحاكم الافتراضية الشرط الذي ينص عليه الدستور بأن تكون إجراءاتها علنية، إما عن طريق تصويرها في قاعة محكمة فارغة تقريبا، وإما عن طريق بثها الحي "أونلاين"، ويحدث ذلك روتينيا بالفعل في محاكم ميشيغان وأحيانا في تكساس. لقد شاهدت في مارس/آذار الماضي محاكمة أمام هيئة محلفين في سان أنطونيو، لقضية إجلاء عن منزل أحدهم تدور حول نزاعات صغيرة بين جيران. كان لهذه المشاهدة أثر متعة المتابعة المريبة التي تمنحها برامج تلفزيون الواقع، بيد أنني شعرت بالغثيان، إذ لم يكن من المفترض أن يشبه هذا البث مسلسلا تلفزيونيا. أخبرتني قاضية القضاة ماكورماك أنه بدون الرقابة اللازمة قد يكون لهذا البث الحي خطر مُتمثِّل في "إمكانية حفظ مثل هذه اللحظات شديدة الخصوصية والإحراج للأبد حتى يشاهدها أبناء هؤلاء الأشخاص، إذ يمكن لأي شخص تسجيلها واستخدامها ضدك لاحقا". ومن جانبها، تحاول الولايات منع حدوث ذلك عن طريق وضع علامات مائية مكتوبة على الفيديو تُفيد بأنه "ليس للنسخ"، وأيضا عن طريق توجيه القضاة بمسح محادثة الفيديو فورا بعد الانتهاء، لكن ذلك لا يحدث دوما.
نال البث الحي استحسانا غير متوقَّع، إذ جذبت محاكم ميشيغان العام الماضي نحو 60 ألف متابع جديد على يوتيوب. وكان ذلك قبل أن تُثير محاكمة افتراضية ضجة على الإنترنت ظهر فيها محامٍ من تكساس وهو يفشل في إلغاء قناع القطة (فلتر) من البرنامج على جهاز الحاسوب الذي يستخدمه، حتى إنه اضطر إلى التأكيد للقاضي قائلا: "أنا هنا في البث المباشر، إنني لست قطة".
يكمن تحدٍّ آخر في الإبقاء على المحلفين الحاضرين إلكترونيا منتبهين ويقظين، وهو تحدٍّ ربما يدركه جيدا المعلمون في المدارس. فقد شوهد بعض المحلفين وهم نائمون، ويؤدّون التمارين الرياضية، ويتحدَّثون مع أشخاص آخرين حولهم، ويغادرون شاشة الجهاز لتحضير الطعام. فقد شاهد "أبنِر بِرنيت"، كبير المحامين العامين في وكالة "تكساس ريو غراندي" للمساعدة القانونية (وكالة غير ربحية معنية بتمثيل الفقراء قانونيا أمام المحاكم مجانا)، جلسة افتراضية لاستجواب تمهيدي، حيث يقبل فيها المحامون المحلفين المحتملين أو يرفضونهم لعدم أهليتهم. أخبرني بِرنيت قائلا: "رد أحدهم على مكالمة هاتفية وسط الجلسة وغادر، ولم يتمكَّن آخر من ضبط الصورة على الشاشة لتكون مستقيمة. كم أكره أن يكون شخص كهذا محلفا يُقرِّر ما إذا كنت سأسجن أم لا".
هنالك أمر آخر يُثير قلقا أكبر، وهو تلقين أو إكراه المحلفين والشهود بواسطة أشخاص موجودين خلف الكاميرا. فقد عبَّر القاضي "ريك"، العضو بإحدى محاكم الاستئناف، عن قلقه بشأن ضحايا العنف المنزلي على وجه التحديد: "لا أعلم من أين سيحضرون الجلسة عبر الهاتف، وما إن كان هنالك شخص ما يضغط للتأثير عليهم". ولكن تبقى معظم عيوب المحاكم الافتراضية جوهرية مثلما هي تماما في المحاكم الواقعية. تقول "جِنيفر بايلي"، القاضية المدنية بالدائرة الإدارية في مقاطعة ميامي-ديد بولاية فلوريدا: "عليك أن تتذكَّر أن المقارنة هنا لا تكون بالوضع المثالي، فالمثالية ليست موجودة لدينا يوميا. السؤال هو هل يمكننا الحصول على عملية قضائية عادلة؟".

يُعتبر حق المتهمين في "أن يُواجَهوا بالشهود الذين شهدوا ضدهم" واحدة من ركائز منظومة العدالة الأميركية، ويكفله "بند المواجهة" من التعديل السادس بالدستور الأميركي. ويجب أن تكون "المواجهة" دائما وجها لوجه، مع الأخذ في الاعتبار بعض الاستثناءات العَرَضية مثل شهادة أطفال تعرَّضوا لصدمة نفسية أو شهادة ضحايا الاغتصاب التي يمكن أن تتم عن طريق الفيديو.
ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى تقييم المحلفين والقضاة لمصداقية المشتبه بهم والشهود من خلال سلوكهم ولغة جسدهم. كما أن المحامين يفرزون المحلفين المحتملين بالطريقة نفسها، فهُم يميلون على غرار لاعبي البوكر إلى تقدير الإشارات والكلمات غير المنطوقة. يقول هَيات، محامي الدفاع: "لا يمكنني اختيار محلف إلكترونيا. يجب أن أكون في مكان واحد مع هؤلاء الناس"، ويُضيف أن ضبابية الفيديو أثناء المحاكمة تُسهِّل على الشهود الإدلاء بشهادة زور.
يتفق محامو الدفاع والمدعون العامون، وهو نادرا ما يحدث، على أهمية الحضور الفعلي. وقد قالت لي "نانسي بار"، رئيسة الجمعية الوطنية لمحامي المقاطعات: "لا أفهم كيف يستطيع الناس تقييم المصداقية تقييما كاملا إن لم نكن جميعنا في مكان واحد". ويُشير "ألِكس بونين"، كبير المحامين العامين في مقاطعة هاريس بولاية تكساس، إلى أن العدالة الافتراضية تعترض المسافة العاطفية وكذلك الإدراكية مُحدِثة آثارا كارثية، فيقول: "حالما تُبعِد الناس عن بعضهم بعضا، تتناقص القدرة على التعاطف تناقصا كبيرا. فإذا شاهدت محاكمة على شاشة؛ فلن تتجاوب كما لو كنت حاضرا بنفسك".
هناك أدلة أولية تقول إن هذا التباعد يمكنه أن يؤثر حتى في القضاة، الذين من المفترض أنهم أعمدة الحيادية في المنظومة القضائية. لقد عقدت مقاطعة كوك بولاية إلينوي، لمدة تسع سنوات بداية من عام 1999، معظم جلسات الاستماع المتعلقة بالكفالة عن طريق الدوائر التلفزيونية المغلقة (استخدام كاميرات الفيديو لبث إشارة إلى مكان محدد، على عدد محدود من الشاشات). وارتفعت على الفور المبالغ المطلوبة للكفالة من أجل إخلاء سبيل المتهمين وظلَّت في زيادة مستمرة، بلغت في المتوسط 51%، بحسب ما خلصت إليه دراسة نشرتها دورية القانون الجنائي وعلم الجريمة. ولم ترتفع مبالغ الكفالات في القضايا التي ظلَّت جلسات الاستماع فيها تُعقَد بحضور فعلي للأشخاص. لربما لعبت التغييرات التي طرأت على المدرجين في سجلات الخدمة القضائية دورا في ذلك، لكن تبيَّن أن القضاة كانوا أكثر استعدادا للوثوق في المُدَّعى عليهم، ومن ثمَّ الحكم بكفالة أقل، عند رؤيتهم وجها لوجه.
رغم كل هذه الأسباب المُثيرة للقلق بشأن العدالة الافتراضية، فإن زيادة العمل بها قد يكون أمرا لا مفر منه، إذ تقول ماكورماك: "لا مجال للشك في أننا لن نعود لسابق عهدنا أبدا". إن القلق بشأن إمكانية الوصول إلى المحاكمات الافتراضية، وكفاءة هذا الوصول، قلق حقيقي، بيد أن الفجوة الرقمية تبيَّن أنها أضيق مما كنا نخشى، ويعود الفضل في ذلك بصورة كبيرة إلى انتشار الهواتف الذكية.
تقول البيانات إن الانتقال إلى المحاكمات الافتراضية مَكَّن عددا أكبر من الناس من المشاركة في العملية القضائية. فقد فشل كثيرون من المُدَّعى عليهم سابقا في الحضور إلى قاعة المحكمة، وتصل نسبتهم إلى 20% تقريبا في القضايا الجنائية بالمحاكم العليا بولاية نيو جيرسي بحسب المركز الوطني لمحاكم الولاية، و11% تقريبا من مجموع القضايا في ولاية ميشيغان. ولذلك الأمر عواقب وخيمة منها الغرامات، ومذكرات الاحتجاز، ودوامة من المشكلات بحق أشخاص متورطين في مشكلات بالفعل. ولكن بعد انتقال النظام القضائي في هذه الولايات إلى العمل إلكترونيا؛ وصلت نسبة حضور المُدَّعى عليهم جلسات محاكماتهم إلى 100% تقريبا.
أظهر المستأجرون المُهدَّدون بالإجلاء عن منازلهم في أريزونا، والآباء والأمهات المهدَّدون بخسارة أطفالهم في تكساس، التزاما أكبر بالحضور إلى مواعيد المحاكمات ما داموا سيفعلون ذلك إلكترونيا. وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين الذين استُدعوا لتأدية المهمات في هيئات المحلفين، فبحسب "ديفيد سلايتون"، مدير شؤون محكمة ولاية تكساس، حضر إلكترونيا ما بين 60-80% من هؤلاء الذين استُدعوا لتأدية مهمة في هيئة للمحلفين في الولاية، وهي نسبة تُمثِّل ضِعف النسبة التي حضرت سابقا حينما عُقِدَت المحاكمات على أرض الواقع. ويُعَدُّ هذا النمط الجديد مُبشِّرا لصالح تنوُّع هيئات المحلفين، التي لطالما جنحت لأن تكون من البيض والأثرياء.

رغم كل مكامن القلق التي أبداها المُدَّعون العامون ومحامو الدفاع حول عدم إمكانية قراءة تعابير الناس عبر "زووم"، فإن ذلك يُقلِّل في الحقيقة من تأثير السلوك ولغة الجسد على المحاكمات؛ ما قد يساعد فعليا في تقييد التحيُّزات العِرقية والثقافية التي تُؤثِّر في تصوُّراتنا. وتُرجِّح دراسة تلو الأخرى أن البشر فاشلون فشلا مُزريا في تمييز الكاذبين من الصادقين، وتجادل هُنا الباحثة القانونية "جوليا سَيمون-كِر" بأن ارتداء الكمامات في قاعة المحكمة يمكنه أن يساعد في إيجاد الحقيقة بتحرير الناس من عناء تفسير تعابير الآخرين.
في الوقت ذاته، يمكن لمحادثات الفيديو الجماعية أن تخلق فرصا جديدة للفهم والتعاطف. يتساءل "أندرو غوتريه فيرغسون"، أستاذ القانون في الجامعة الأميركية والمحامي العام السابق: "لماذا لا نستخدم التكنولوجيا لإدخال القاضي إلى عالم المُدَّعى عليهم؟". فلو استطاعت قاضية أن ترى أطفال المُدَّعى عليه أو ظروف معيشته المتواضعة قبل النطق بالحكم؛ لربما أمكنها تقدير عواقب حكمها تقديرا أفضل.
أخيرا، تطرح المحاكمات الافتراضية هذا السؤال: هل نحتاج فعلا إلى القضاة والمحامين لتسوية خلافاتنا كلها؟ بدأت ولاية ميشيغان العرض على المتقاضين مدنيا "منصة إلكترونية لحل المنازعات". ويعرض هذا الموقع على الأشخاص الخيارات المتاحة أمامهم، وإذا توصَّلوا إلى اتفاق فإنه يوفِّر لهم الوثائق الضرورية. ويقول فيرغسون إن البدائل الإلكترونية تساعد في الخروج من الدوران في فلك المحاكم، إذ "ترتكز المحاكم التقليدية كلها على مواعيد القضاة. فيما يدور الآخرون في فلكهم. إن "زووم" يُغيِّر من هذا الأمر".
يمنع القضاء الافتراضي المحامين المتنمرين أو أصحاب الكاريزما أيضا من التلاعب بالأطراف الأخرى كافة، إذ ترى القاضية بايلي نظام العدالة الافتراضي بمنزلة "مُعادِل" لتلاعبهم ذاك، فتقول إن المحامين يحضرون ندوات حول كيفية "السيطرة على قاعة المحكمة، وإن تلك السيطرة عبر زووم أصعب بكثير؛ حيث يتسنَّى لكل شخص التعبير عن رأيه"، وتُضيف قائلة: "ألغِ الأداء المسرحي (للمحامين)، ولعلنا حينها نتمكَّن من التركيز أكثر على القانون والحقائق".
بينما تتضح هذه المفاضلات أكثر فأكثر؛ ثمة إجماع مبدأي حول ما يجب على المحاكم الافتراضية أن تفعله وما لا يجب عليها فعله بعد أن تضع الجائحة أوزارها. إذ يتفق الجميع تقريبا، حتى المُتشكِّكون أمثال دوغلاس هَيات، على أن المحاكم الافتراضية يجب أن تواصل الأعمال الروتينية التي تشغل جُلَّ وقت المحكمة، مثل أعمال الجدولة، واجتماعات التسوية، والمخالفات المرورية المطعون عليها، وقضايا الطلاق التي لا نزاع فيها.
كما يتفق الجميع تقريبا على أن بند المواجهة ما زال يعني أنه لا يحق للولاية إجبار المتهم على الامتثال إلى محاكمة عن بُعد. أحد الاستثناءات هو "ناثان هيكت"، قاضي قضاة تكساس، الذي يُرجِّح بأن هذا البند يحتاج إلى إعادة نظر. أخبرني هيكت قائلا: "يعطي الدستور المتهم جنائيا الحق في مواجهة متهميه. وقد بدأنا في خوض نقاش فلسفي حول معنى ذلك. هل يعني هذا أن تحدث المواجهة وجها لوجه؟ ماذا لو أنك لا تستطيع ذلك؟ أي دور بالتحديد يلعبه التواصل الشخصي في المداولات والحكم الصادر والحيثيات؟ كل هذا سيصبح موضوعا للدراسة داخل كليات القانون لسنوات وسنوات".
بيد أن ولاية تكساس نفسها ستعقد إلكترونيا المحاكمات ذات هيئات المحلفين والمَعنية بالنظر في جرائم تتطلَّب حكما بالسجن؛ فقط في حالة تنازل المتهمين عن حقهم في محاكمة تجري واقعيا وجها لوجه، وحتى الآن لم يتنازل أحد عن هذا الحق، إذ تُجري بعض المحاكم حاليا "محاكمات هجينة"، فتختار المحلفين عن بُعد، ثم تعقد الجلسات في قاعات المحاكم مع ارتداء الكمامات والحفاظ على التباعد الشخصي. كما تقوم محاكم أخرى بمداولة أولية إلكترونيا ثم تجري جلسات الاستجواب واقعيا وجها لوجه.
من المُرجَّح استمرار هذه التجارب حتى بعد أن يُعيد اللقاح الأمان إلى قاعات المحاكم؛ ففي النظام القضائي، على غرار شتى مناحي الحياة، ما انتقل للعمل إلكترونيا سيبقى كذلك على الأرجح فيما بعد. تقول بايلي: "الكل يريد العودة إلى الوضع العادي المألوف سابقا، لكن علينا أن نتذكَّر مزايا ذلك الوضع العادي ومساوئه في آنٍ واحد".
____________________________________________________
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.