تصيبك الأخبار بالتوتر.. كيف تنجو من الحصار الذي تفرضه عليك وسائل الإعلام؟

في عام 2013، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية مقالا للكاتب رولف دوبلي بعنوان "الأخبار ضارة بك والتخلي عن قراءتها سيجعلك أكثر سعادة"، شبَّه خلاله الأخبار بالحلوى التي اكتشفنا أضرارها فقط في العقود القليلة الماضية، مُؤكِّدا أن الأخبار السريعة هي وجبات زاهية اللون تماما مثل السكاكر، فهي لا تُشبع عقولنا أبدا، لذا نُقبل على التهام المزيد منها، ومثلما لا نشعر بالشبع إلا حين نتناول وجبة صحية، فإن عقولنا لا تشعر بالشبع إلا بقراءة كتاب مثلا، مُؤكِّدا أن الأخبار تشبه الفقاعات التي تعلو سطح عالم أعمق، وأن لهاثنا وراء عناوين خبرية متفرقة يحرمنا من رؤية الصورة الحقيقية الكاملة.
متحديا القارئ؛ طلب دوبلي من كل شخص التفكير في خبر واحد بين نحو عشرة آلاف قصة خبرية قرأها كل فرد منا -في المتوسط- في العام الماضي أحدث فرقا في قرار كان عليه اتخاذه، وجزم أن هذا لم يحدث، بدليل أن الصحفيين، وهم الأكثر متابعة للأخبار، لم يحصِّلوا نجاحا اقتصاديا أعلى على سبيل المثال، ولم يصبحوا في قمة الهرم، ولهذا أكَّد أن الحل هو الانعزال تماما عن الأخبار، فهل يمكننا فعلا التوقف عن متابعة الأخبار تماما؟ (1).
إذا كنت من أولئك الأشخاص الذين يشعرون بالتعاطف سريعا مع كل ما يحيط بهم فربما راودك هذا الخاطر، أن تنعزل تماما، فكل صفحة أخبار تمر عليها وكل خبر تقرؤه يُحدِث ضررا بك، ووفقا لريموند مار طبيب علم النفس بجامعة نيويورك فإن قراءة قصة خيالية تُحدِث تأثيرا مماثلا لمعايشتها فعليا فيما يتعلق بنشاط الدماغ، وهذا هو السبب في أننا نعاني الإجهاد من مجرد متابعة الأخبار فقط (2).
كانت أليسون هولمان تعمل على دراسة للصحة العقلية في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين حدثت مأساة انفجار قنبلتين عند خط نهاية ماراثون بوسطن السنوي لحظة وصول مئات المتسابقين، قُتل ثلاثة أشخاص في ذلك الحادث بينهم صبي صغير، وفقد 16 شخصا أطرافهم وأُصيب المئات، وسارعت المؤسسات الإخبارية بالطبع لتقديم التغطية، تكرَّر بث لقطات للحظة الانفجار وما تلاه، وامتلأت الصحف بصور الضحايا والشوارع الملطخة بالدماء والمتفرجين المصدومين.
كان بين يدي هولمان وزملائها في جامعة كاليفورنيا بيانات حول الصحة العقلية لما يقرب من 5000 شخص قبل الحادث مباشرة، لذا فإنهم قرَّروا دراسة التغييرات التي وقعت في الأسابيع التالية، وكان بديهيا أن يُلاحظوا تغييرات كبيرة في الصحة النفسية للموجودين في الحادث، لكن المفاجأة أنهم اكتشفوا تعرُّض مجموعة أخرى من الناس لصدمة شديدة؛ أناس لم يروا الانفجار بأنفسهم لكنهم قضوا ست ساعات في متابعة التغطية الإخبارية اليومية لمدة أسبوع بعد الحادث.
اندهش الباحثون من التأثير الذي تُحدثه متابعة الأخبار، وكيف تتسلل إلى عقلنا الباطن لتتدخلَ في حياتنا؛ وتؤثر في تقديرنا للمخاطر، وتُشكِّل وجهات نظرنا عن الشعوب والدول، وتؤثر على اقتصادات بأكملها من خلال توجيه ما نتخذه من قرارات. أما على مستوى الصحة، تزيد الأخبار من خطر الإصابة بأعراض ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب، ويمتد تأثيرها إلى صحتنا الجسدية، فتزيد احتمالات الإصابة بالنوبات القلبية والمشكلات الصحية المزمنة حتى بعد سنوات (3).
كما نعرف جميعا، التفكير يتطلَّب التركيز، والتركيز يتطلَّب وقتا غير متقطع، وقد صُمِّمت المقالات الإخبارية خصيصا لمقاطعتك: إنها تسرق انتباهك، والأسوأ أنها تؤثر في الذاكرة، وهي تُثير الجهاز النطاقي (الجهاز الحوفي) المسؤول عن الوظائف الانفعالية في جسم الإنسان، فيبقى مُتحفِّزا ليمدك بشلالات من الكورتيزول ويمنع إفراز هرمون النمو، مُبقيا جسمك في حالة من التوتر المستمر من شأنها أن تؤدي إلى العصبية وضعف الهضم والقابلية للإصابة بالعدوى إلى جانب مضاعفات أخرى مثل الخوف أو العدوانية (4).
تتسع الذاكرة طويلة المدى لمعلومات لا نهاية لها، لكن الذاكرة قصيرة المدى محدودة بقدر ضئيل من البيانات فقط، والطريق من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى هو نقطة المرور، فأي شيء نريد استيعابه يجب أن يشق طريقه خلال هذا الممر. إذا تعطَّل هذا الممر فلن يمر شيء، والأخبار تُعطِّل التركيز وتُضعِف الفهم، ففي دراسة أُجريت عام 2001، أظهر باحثان كنديان أن الفهم ينخفض مع زيادة عدد الروابط التشعبية في النص، ففي كل مرة يصادفك رابط يكون على عقلك اتخاذ قرار -على الأقل- بعدم النقر، وهذا ما يُشتِّت الانتباه.
نحن نعلم اليوم حقيقة أن الروابط بين الخلايا العصبية في دماغنا تتجدَّد باستمرار، تتكوَّن طوال الوقت روابط وتنتهي أخرى حين لا نستخدمها. واليوم، يستخدم معظمنا الخلايا العصبية المخصصة للقراءة السريعة وتعدُّد المهام مع تجاهل تلك المستخدمة في القراءة بعمق والتفكير بتركيز، لذا فإن معظم مستهلكي الأخبار فقدوا القدرة على استيعاب المقالات أو الكتب الطويلة، فبعد أربع أو خمس صفحات، يبدأ الشعور بالتعب ويقل التركيز ويظهر القلق، ليس بسبب الانشغال أو تقدُّم السن، ولكن فقط لأن تركيب أدمغتهم قد تغيَّر (5).
تُشير أبحاث حديثة إلى أن الأخبار يمكن أن تُشكِّل تصوُّرنا للمخاطر وتخيُّلنا للأحلام. وفي هذا الصدد، يُرجِع الخبراء أحد الأسباب المحتملة لتأثير الأخبار علينا إلى ما يسمى بـ "التحيز السلبي"، وهو توجُّه نفسي مشهور يُشير إلى أننا نولي اهتماما كبيرا لأسوأ ما يحدث حولنا، وهو أمر طوَّرناه ليحمينا من الخطر، ويُفسِّر سبب ظهور عيوب الأشخاص أكثر من مزاياهم في الغالب، كما يُفسِّر أيضا لماذا تؤثر الخسائر علينا بشكل أكبر من المكاسب، ولماذا يُحفِّزنا الخوف أكثر مما تُحفِّزنا الفرص مثلا (6).
إن ما يجذب انتباهنا في الحقيقة هو ما يُشعرنا بالخطر، والأخبار صُمِّمت لكي تجذب انتباهنا، ولهذا فهي تُركِّز على الأخطار التي تحدق بنا، ونتيجة لذلك، فإنك تقرأ في العناوين دوما عن إساءة معاملة الأطفال والعنف المنزلي والإرهاب وتغير المناخ والظلم وانتهاكات حقوق الإنسان، فيصيبنا شعور -مهما كانت وجهة نظرك السياسية- بأن العالم ينهار، والمستقبل مخيف.
يقول كاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك إن صحف المدينة الفاضلة ستكون مملة جدا، وهي حقيقة أكَّدها موقع "City Reporter" الروسي حين قرَّر في أحد أيام عام 2014 تقديم أخبار جيدة فقط، والنتيجة أنه فقد ثلثي قرّاءه خلال ذلك اليوم (7) (8).
في مقابلة مع مجلة تايم، أشار جراهام ديفي، أستاذ علم النفس الفخري بجامعة ساسكس، إلى التغير الكبير في طريقة تقديم الأخبار وطريقة الوصول إليها في العقدين الأخيرين؛ حيث أصبحت الأخبار تحاصرنا في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الروابط التي يشاركها الأصدقاء والبودكاست وخدمات البث والراديو إلى جانب ما ترسله إلينا المواقع الإلكترونية من إشعارات على مدار اليوم، يغلي القدر من لحظة استيقاظنا في الصباح حتى اللحظة التي نغلق فيها أعيننا كل ليلة، ووفقا لريبيكا طومسون، عالمة نفس في جامعة إيرفين، فإن أحد ما يوقع بنا في فخ متابعة الأخبار الزائدة عن الحد هو شعورنا بالخطر من أمر ما، هنا سنتابع كل المعلومات المتوفرة في محاولة لفهم الخطر المحدق بنا (9).
إن الانغماس في معاناة سبعة مليارات من الغرباء ليس جيدا، خاصة لصحتنا العقلية، واليوم بعد أشهر من العناوين الرئيسية المتواصلة عن فيروس كورونا، هناك توقعات بأزمة وشيكة من القلق بسبب الوباء، وقد أبلغت الجمعيات الخيرية للصحة العقلية في جميع أنحاء العالم بالفعل عن معدلات غير مسبوقة من الطلب على خدماتها، وهناك العديد من الناس باتوا يحصلون على "إجازات" من وسائل التواصل الاجتماعي في محاولة لخفض معدل تعرضهم للأخبار (10).
أول ما ينصحك به رولف دوبلي أن تُحدِّد تأثير متابعة الأخبار عليك، فهي لا تؤثر فينا جميعا بالطريقة نفسها، أحيانا تتسبَّب في شعورنا فقط ببعض القلق، ويمتد تأثيرها أحيانا ليقتل الإبداع داخلنا، لذا ينصح ديفي بالانتباه إلى الطريقة التي تُغيِّر بها الأخبار مزاجك، أو تجعل أفكارك أكثر سلبية، ويرى أن أفضل طريقة للمعرفة هي متابعة ما يحدث لك بعد متابعة الأخبار.
إذا كانت الأخبار تُسبِّب لك القلق أو التوتر فيمكنك تقليل التعرُّض لها، وأن تعقبها بأنشطة تتصدى لهذا التوتر مثل تمارين الاسترخاء أو التأمل أو اليوغا، والاستماع إلى الموسيقى أو الاندماج مع رواية تحبها، تجنَّب تماما متابعة الأخبار قبل النوم بأي ثمن؛ إن ضررها يصبح مضاعفا، فأنت تُحفِّز عقلك في الليل، ومن المحتمل ألا تحصل على الراحة التامة وأن تجعل نفسك عُرضة للاضطرابات (11) (12).
أما هولمان فتُحذِّرنا من الأخبار التي تكون في الخلفية أثناء ممارسة أنشطة أخرى مثل الطهي أو الوجود في صالة الألعاب الرياضية مثلا، مؤكدة تأثيرها السلبي، فالتكرار يفعل فعله في التأثير في عقلنا الباطن، وهي تنصحك أن تتذكر في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك تتحقق من العناوين الرئيسية للمرة المئة في اليوم نفسه، أو تتصفح بقلق وسائل التواصل الاجتماعي أن هذه الأخبار تؤثر فيك أكثر مما تتخيل (13).
—————————————————————————-
المصادر
- News is bad for you – and giving up reading it will make you happie
- ¿Sufres estrés por ver noticias? Evítalo sin desinformarte en el camino
- How the news changes the way we think and behave
- News is bad for you – and giving up reading it will make you happier
- المصدر السابق
- How the news changes the way we think and behave
- HOW A NEWS FAST CAN RESCUE YOUR MOOD
- How the news changes the way we think and behave
- ¿Sufres estrés por ver noticias? Evítalo sin desinformarte en el camino
- How the news changes the way we think and behave
- News is bad for you – and giving up reading it will make you happier
- ¿Sufres estrés por ver noticias? Evítalo sin desinformarte en el camino
- How the news changes the way we think and behave