تكريم الرجل الأبيض.. ما لا تعرفه عن الوجه المظلم لجائزة نوبل

مقدمة الترجمة
في كل عام، نعمل في ميدان على تغطية معرفية احترافية لجوائز نوبل، وبشكل خاص جوائز العلوم، ببساطة لأنها أهم جائزة في العالم، ويستحق القارئ العربي أن يتعلم عنها بدرجة من التبسيط والتفصيل، لكن الجائزة ليست عظيمة في كل الأحوال، بل يعتقد بعض الباحثين أنها أساءت إلى العلم والمعرفة الإنسانية بشكل عام بدلا من خدمتهما، خاصة حينما عملت على تصدير فكرة كارثية لا أصل لها عن "العبقري الوحيد"، مهملة آلاف الباحثين الذين شاركوا في بناء المعرفة، على جانب آخر، فقد رصدت حالات عنصرية كاشفة في نتائج الجائزة على مدى عقود مضت. هذه المادة تعرض لك الوجه المظلم لجائزة نوبل؛ حتى تتزن الصورة لديك قدر الإمكان.
مادة الترجمة
في عام 2017، حاز علماء الفيزياء الثلاثة: راينر فايس، وكيب ثورن، وباري باريش، على جائزة نوبل في الفيزياء لاكتشافهم موجات الجاذبية، وهي تشوهات في نسيج المكان والزمان. تقاسم حينها العلماء الثلاثة الذين قادوا مشروع مراقبة الموجات الثقالية بالتداخل الليزري -المعروف اختصارا باسم "ليجو (LIGO)"- الذي سجل هذه الموجات، جائزة مقدارها تسعة ملايين كرونة سويدية، ولعل الأهم من اقتسام المبلغ بينهم أنهم سيحظون بلقب "الحائزين على جائزة نوبل" لبقية حياتهم.
كل ذلك جيد، ولكن ماذا عن العلماء الآخرين الذين أسهموا في هذا المشروع وأُدرِجت أسماؤهم في قائمة المؤلفين المكتوبة في 3 صفحات في ورقة البحث التي تصف الاكتشاف؟! تعليقا على ذلك، صرَّح عالم الفيزياء الفلكية البريطاني "مارتن ريس" لأخبار بي بي سي بقوله: "يعود الفضل في نجاح هذا المشروع إلى مئات الباحثين، ومع ذلك فإن رفض اللجنة القائمة على تسليم جوائز نوبل لعام 2017 منح جائزة جماعية تسبب في مزيد من المشكلات المتكررة، وأعطى انطباعا مضللا عن كيفية إنجاز الكثير من الأبحاث العلمية".
هذه الطريقة في الامتناع والتعنت ضد العلماء أصبحت مألوفة، فعند منح جوائز نوبل في كل عام لمجالات الفيزياء والكيمياء وعلم الفسيولوجي أو الطب، يلاحظ النقاد أنها طريقة عبثية وبالية للإشادة بالإنجازات التي قدمها هؤلاء العلماء، فبدلا من تكريم العلم، فإنهم بهذه الطريقة يشوهون طبيعته، ويعيدون كتابة تاريخه، ويتجاهلون أهم العلماء المساهمين فيه.
من المؤكد أن هذه الجوائز تحمل في جَعبتها الكثير من الجوانب الإيجابية، كما أنه يجب الاعتراف بالدور الحيوي الذي تلعبه الاكتشافات العلمية في المشروع البشري، أما موقع جائزة نوبل فهو كنز تعليمي دفين مليء بالتفاصيل التاريخية الثرية التي يختفي أكثرها بين الأوراق البحثية المنشورة. ومن الفظاظة الإفراط في السخرية من أي حدث يُضفي على العلم عاما بعد عام حالة من الترقب المثير المرتبط عادة بمرشحي جوائز أوسكار أو إيمي، لكنّ حقيقةَ أن جوائز نوبل العلمية قد أثارت الجدل منذ بدايتها تقريبا تشير إلى مشكلات عميقة الجذور.
مُنحتْ جائزة نوبل الأولى في الطب إلى الطبيب الألماني "إميل فون بيرينغ" عام 1901 لاكتشافه مضادات السموم، ومن المفارقات العجيبة أنها لم تُمنَح إلى مساعده "شيباسابورو كيتاساتو" الذي تعاون معه بشدة. تكرر الموضوع نفسه عام 1952 حينما مُنحت الجائزة في مجال الطب والفسيولوجيا لعالم الكيمياء الحيوية الأميركي "سلمان واكسمان" لاكتشافه المضاد الحيوي "الستربتومايسين"، في الوقت نفسه الذي لم يُعِر أحد انتباها لطالب الدراسات العليا في معهد واكسمان "ألبرت شاتز" المكتشف الحقيقي للمادة الكيميائية.
أما في عام 2008، مُنحت جائزة الكيمياء لثلاثة باحثين لاكتشافهم بروتين الفلورسنت الأخضر (GFP)، وهو جزيء يستخدمه العلماء لرؤية ما يجري داخل خلايانا، لكن المثير للسخرية أن "دوجلاس براشر" الذي يُعَدّ أول من استنسخ الجين الخاص ببروتين الفلورسنت الأخضر لم يكن ضمن الفائزين بالجائزة.

الوصية الغامضة
لم يستمر الجميع في هذا الصمت، فقد احتج بعض العلماء على تجاهلهم واستبعادهم، ففي عام 2003، نشر الطبيب الأميركي "راي داماديان" سلسلة من الإعلانات على صفحات كاملة في صحف نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس أنجلوس تايمز احتجاجا على حرمانه -ظلما وبدون وجه حق- من جائزة نوبل في الطب لدوره في اختراع الرنين المغناطيسي. في هذا الوقت، قررت لجنة نوبل الاعتراف فقط ببول لوتربر وبيتر مانسفيلد لهذا الإنجاز، وهو ما اعتبره داماديان إهمالا وإغفالا و"خطأً مخزيا لا بد من تصحيحه"، وتعقيبا على ذلك، صرَّح لصحيفة التايمز: "إن استيقاظي صباح الاثنين ورؤية أنني مُحيت من التاريخ لَهُو عذاب لا يمكنني تحمله ولا العيش معه".
المشكلة الكبرى التي تتخطى من ينبغي أن يحصل على الجائزة ومن لا ينبغي له ذلك، هي أن كل جوائز نوبل العلمية تُمنَح لثلاثة أفراد على الأكثر في أي سنة، وهذا ما دفع المؤلِّفَينِ العلميين، إيفان أورانسكي وآدم ماركوس، أن يكتبا عن ذلك قائلين إن العلم الحديث هو "أكثر الأعمال التي تحتاج إلى فرق جماعية". صحيح أن العلماء أحيانا يحققون طفرات فردية، إلا أنه نادرا ما يحدث ذلك، حتى المجموعة البحثية الواحدة ستجد أنها مكونة من مجموعة كبيرة من الحاصلين على الدكتوراه والطلاب والفنيين الذين يتشاركون جميعا في الاكتشاف الذي يُنسَب في النهاية إلى باحث واحد.
وفي أغلب الأحيان، تتعاون العديد من المجموعات لإنتاج مشروع واحد، فالورقة البحثية التي أعلن فيها فريق مشروع مراقبة الموجات التجاذبية "LIGO" عن اكتشافهم، تتضمن قائمة بأسماء المؤلفين مكتوبة في ثلاث صفحات، ناهيك بورقة بحث أخرى حديثة قدَّرت بدقةٍ كتلة بوزون هيغز (جسيم أولي مسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها) وصل عدد من شارك فيها حوالي 5154 مؤلفا.
يرى المدافعون عن الجائزة أن لجنة نوبل ملتزمة بالشروط المنصوص عليها في وصية ألفريد نوبل، وتُعَدّ هذه الوصية هي الوثيقة التي قامت على أساسها الجوائز. لكن الفكرة هنا أن الوصية تنص على تكريم " شخص واحد" حقق اكتشافا مهما في مجال تخصصه خلال العام الذي يسبق تكريمه، في حين أن لجنة نوبل تكرِّم بحد أقصى ثلاثة أشخاص في كل مجال على إنجازات ربما حققوها منذ عقود سابقة. فإن كانوا بالفعل يتجاوزون القواعد الأصلية، فلِمَ لا يذهبون إلى أبعد من ذلك؟ وهذا ما اقترحه محررو مجلة ساينتيفيك أميريكان عام 2012 متسائلين: لِمَ لا يمنحون الجوائز العلمية للفرق والمنظمات مثلما يحدث مع جائزة نوبل للسلام؟!

إن ثمن الإصلاح زهيد، لكن تكلفة تجاهله باهظة، فقد رأى عالمَا الأحياء، أرتورو كاساديفال وفيريك فانغ، عام 2013 أن القائمين على توزيع جوائز نوبل نجحوا في الترويج لفكرة "العبقرية الفردية"، الفكرة التي لخصها الفيلسوف الإسكتلندي "توماس كارلايل" بقوله: "إن تاريخ العالَم ما هو إلا سِيَر العظماء"، ورغم أن هذا الأمر لا ينطبق على المجال العلمي، فإن مانحي الجوائز يُغذّون هذه الأسطورة الخبيثة، ويرى عالمَا الأحياء، كاسادفيل وفانغ، أن طريقة منح الجوائز هذه "تعزز من نظام مكافآت معيب ومُخزٍ في المجال العلمي، حيث يحظى فيه الفائز بكل شيء، بينما تُهمَل الإسهامات التي قدمها الكثيرون، بمعنى أنهم في هذا النظام يتغاضَون عن إسهامات الكثرة لتحوز إسهامات القلة على كل الانتباه"، ومن المفارقات العجيبة أن الجوائز أحيانا لا تتعلق بمن قدّم أهم الإسهامات، وإنما بمن استطاع النجاة من متاهات الأوساط الأكاديمية المحفوفة بالمخاطر.
في كثير من الحالات، تُخصَّص الجوائز لمن بقيَ على قيد الحياة فحسب، فلا يمكن منح جوائز نوبل بعد الوفاة، لذلك لم تُكَرَّم "روزاليند فرانكلين" على دورها المحوري في اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي "DNA"؛ لأنها تُوفيت قبل أربع سنوات من منح جائزة نوبل لجيمس واتسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكنز. بالمثل، قدّمت عالمة الفلك "فيرا روبن" دليلا على وجود المادة المظلمة (التي تلعب دورا مركزيا في تشكيل الكون وتطور المجرات) عن طريق دراسة الطريقة التي تدور بها المجرات، وهو إنجاز فجّر ثورة في فهمنا للكون، ورغم ذلك فإنها لم تحظ بجائزة نوبل. تعليقا على ذلك، قالت الكاتبة العلمية راشيل فيلتمان في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016: "إن فيرا روبن تستحق جائزة نوبل، لكن من المحتمل ألا تحصل عليها في الوقت المناسب"، وبالفعل ماتت روبن بعد شهرين.
تحيزات وعنصرية
تُشير قضية روبن وفرانكلين إلى قضية أخرى قديمة طويلة الأمد متعلقة بجوائز نوبل، فبقدر ما تروّج اللجنة لأسطورة العبقرية المنفردة، فإن تلك العبقرية غالبا ما تظهر على هيئة رجل صاحب بشرة بيضاء.
دائما ما تُسنَد العبقرية المنفردة التي تروّج لها لجنة تسليم الجوائز إلى عالم ذكر ويكون صاحب بشرة بيضاء، أما النساء فإنهن لم يحصلن خلال كل هذه الأعوام سوى على 12 جائزة من أصل 214 في الفسيولوجيا أو الطب، و 4 فقط من أصل 175 جائزة في الكيمياء، وجائزتين فقط من أصل 204 جائزة في الفيزياء.

ليس ذلك لنقص العالمات الموهوبات، فلا شك أن عالمة الفلك فيرا روبن تستحق الجائزة بالتأكيد، مثلما تستحقها ليز مايتنر التي أسهمت في اكتشاف الانشطار النووي مع الكيميائي الألماني أوتو هان الذي فاز بالجائزة. العجيب حقا أنه بين عامي 1937 و1965، رشحت جهات مختلفة ليز مايتنر 48 مرة للفوز بالجائزة، لكنها لم تفز قط. بخصوص ذلك، علّقت عالمة الفيزياء الفلكية كاتي ماك على تويتر العام الماضي وكتبت: "ثمة أشياء عظيمة تتضمنها جائزة نوبل، لكن علينا الانتباه جيدا لحقيقة أن إحصاءات الفائزين من الرجال والنساء تعكس تحيزات وعنصرية واضحة تعتمد على العرق والجنس".
ربما ما طفت كل هذه المشكلات على السطح لو لم تحظ جائزة نوبل بهذا القدر من الأهمية، فبجانب القيمة النقدية للجائزة، يضمن الفائزون تدفقا من الأرباح والتكريم، وتُضاف شرعية على أبحاثهم للاستشهاد بها، بل ويلاحظ أنهم يتمتعون بعمر أطول -يصل إلى سنة أو سنتين- من العلماء الذين رُشِّحوا ولم ينالوا الجائزة، بالإضافة إلى سمة العظمة والحكمة التي تلازمهم أبد الدهر.
تَظهر جرّاء ذلك العديد من المشكلات حينما يؤيد الفائزون بالجائزة العلم الزائف أو الأفكار التعصبية العمياء التي تتضمن تمييزا عنصريا، وهذا ما فعله الكثيرون، منهم -على سبيل المثال- "ويليام شوكلي" الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 1956 لاختراعه جهاز الترانزستور، فقد كان من دعاة "تحسين النسل"، معلِنا أن الأشخاص ذوي معدلات الذكاء المنخفضة -معظمهم من الأميركيين الأفارقة- لا بد من قطع نسلهم.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ صرّح عالم الأحياء الأميركي جيمس واتسون أيضا أن الأفارقة أقل ذكاء من المتوسط. وأحد الأمثلة المؤيدة للعلم الزائف هو كاري موليس، عالم الكيمياء الحيوية الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1993 لاختراعه تقنية "PCR"، وهي تقنية لنسخ الحمض النووي تُستخدم اليوم بكل مختبر أحياء في جميع أنحاء العالم، أصبح كاري مؤيدا لعلم التنجيم، ومنكرا التغيير المناخي والصلة بين فيروس نقص المناعة ومرض الإيدز، ناهيك بذكره في سيرته الذاتية أنه قابل راكون متوهج (حيوان ثديي من آكلي اللحوم) زعم أنه كائنا فضائيا.
للإنصاف، وبغض النظر عن عدد العلماء الحاصلين على الجائزة في كل عام، فإن مسألة العلماء الذين يخرجون عن نطاق العقلانية ويؤيدون أفكارا عنصرية هي مشكلة لا يمكن للجنة نوبل حلها، وإنما بإمكاننا نحن حلّها بالامتناع عن منح صفة الألوهية والقدسية للجائزة والفائزين بها، لأنها في الحقيقة ليست كذلك، وشأنها شأن أي جائزة أخرى بها عيوب ولا تنظر إلى الأمور أحيانا بموضوعية. المشكلة من البداية هي أننا من نبالغ في تقديرنا للفائزين بها، فيزداد غرورهم، ونُدمّر من ترشحوا ولم يحالفهم الحظ للفوز بها، وهذا ما دفع الكاتب في مجال العلوم "ماثيو فرانسيس" العام الماضي أن يكتب قائلا: "في نهاية المطاف، الأمر يعود إلينا إن رغبنا في التخلي عن جوائز نوبل؛ لأن الأمر يزداد سوءا بتحكمهم عاما بعد عام في تصورنا للعلم بمجرد موافقتنا على استلام الجائزة، وها قد حان الوقت لسحب هذه الموافقة".
———————————————————————————————–
هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: سمية زاهر.