"صياحك طرب".. كيف وقعنا في غرام المتنمر الأميركي؟

في صباح 16 سبتمبر/أيلول 2017، أفاق سكان بورتوريكو على رياح وصلت سرعتها إلى 280 كم/الساعة، دمَّرت ساحلهم الشمالي تماما، واستمرَّت لمدة أسبوعين تقريبا، فيما عُرف بإعصار "ماريا"، الذي صُنِّف من الفئة الخامسة بوصفه أقوى إعصار يضرب الجزيرة، الواقعة تحت السلطة الأميركية، في التاريخ. (1)
العلاقة بين بورتوريكو والولايات المتحدة الأميركية مُعقَّدة؛ فأهلها يُعَدُّون مواطنين أميركيين ولكن لا يحق لهم التصويت في الانتخابات، وقانونا، تُعَدُّ بورتوريكو أرضا أميركية، ويحق لسُكانها التنقل بين الولايات المختلفة، ولكن سُكانها لا يُعامَلون معاملة مواطني "الأرض الأم"، ولا يملكون المزايا نفسها، وهذا ما جعل تبعيتها للولايات المتحدة محل خلاف بين أهلها عبر التاريخ الحديث. (2)
رغم ذلك، ابتلعت بورتوريكو كبرياءها في لحظة الإعصار، وطالبت إدارة ترامب بمزيد من المساعدات، ومع الوقت، تحوَّلت المطالبات إلى انتقادات؛ كارمن يولين كروز، عمدة سان خوان، إحدى مدن الجزيرة، أجرت لقاء مع شبكة "CNN" الأميركية، استنكرت فيه محاولات إدارة ترامب تحويل مأساة بورتوريكو إلى حملة دعائية، وفي تلك اللحظة، قرَّر ترامب الرد بالطريقة الوحيدة التي يعرفها. (3)
أمسك الملياردير الأميركي بهاتفه وغرَّد 18 مرة خلال 11 ساعة، مُتهما كروز بأنها مدفوعة من الديمقراطيين لتشويه صورته، وزاعما أن قيادتها السيئة للأزمة كانت سببا في زيادة الخسائر، ثم وصفها وآخرين في الجزيرة الكاريبية بأنهم كسالى عاجزون، لا يستطيعون دفع مواطنيهم للمساعدة، ويريدون من الآخرين أن يقوموا بكل شيء من أجلهم. (4)
أتت لحظة الذروة بعدها بأسبوعين تقريبا، حينما كان ترامب جالسا مع مجموعة من القيادات المحلية والفيدرالية للجزيرة يناقشون توابع الكارثة، وقرَّر أنها لحظة مناسبة ليقول التالي: "كل وفاة هي حادثة مفزعة، ولكن عندما تنظر إلى كارثة حقيقية مثل إعصار كاترينا، كان عدد مَن فقدوا حياتهم فيها بالمئات، وتقارنها بإعصار ماريا الذي كانت قوته مبالغا فيها… ما حصيلتكم؟ 17؟ 16 وفاة رسمية؟ حسنا، 16 وفاة مقابل الآلاف.. يمكنكم أن تكونوا فخورين بأنفسكم.. جدا جدا". (5)
إعصارك طرب
كما هو متوقَّع، أثار رد فعل ترامب الكثير من الغبار في الصحافة الأميركية، ليس فقط لأن بورتوريكو -الميناء الغني بالإسبانية- كانت أفقر من أن تُقدِّم تعدادا واقعيا للوفيات (نسينا أن نخبرك أن اقتصاد بورتوريكو منفصل عن الولايات المتحدة كذلك)، وليس فقط لأنهم احتاجوا إلى عام كامل تقريبا حتى يتعرَّفوا على الرقم الحقيقي (2975 قتيلا طبقا لدراسات أجراها خبراء من جامعة جورج واشنطن)، ولكن لأن ترامب ختم تغريداته بالإشارة إلى الأزمة الاقتصادية العنيفة التي كانت تمر بها الجزيرة قبل الإعصار. التلميح الذي اعتبره الكثيرون شديد الغرابة في توقيته ومناسبته، وكأن الملياردير الأميركي يرى "ماريا" عقابا إلهيا على سوء الإدارة، وكأنه يراه نتيجة "مُستحقَّة" بطريقة ما. (4) (6) (7)
هذا الغبار انحصر في دوائر المثقفين تحديدا، لأن خارجها، كان هذا هو ما انتخب الكثيرون ترامب لأجله؛ وضع الأقليات في "حجمها الطبيعي"، خاصة مَن ينحدرون من أصول هسبانية؛ هؤلاء الذين يراهم مؤيدو ترامب غُزاةً، يأتون من بلادهم بطرق شرعية وغير شرعية، لكي يسرقوا وظائف الأميركيين ومواردهم، ويتاجروا في المخدرات، ويُهدِّدوا الأمن والاقتصاد.

كانت تلك إحدى جولات الاستقطاب المعتادة التي تدور رحاها كلما تحدَّث ترامب بشأن أي قضية، ولكن المختلف هذه المرة أن المشكلة لم تكن في مؤيدي ترامب وحسب، بل في حقيقة أنها كانت مُتجذِّرة في أركان الثقافة الأميركية الشعبية، وتجسيدا حيا لأهم تصنيف أوجدته هذه الثقافة وصدَّرته للعالم، ونجح، بقوة تأثيرها الكاسحة، في تجاوز تصنيفات مثل العِرق والدين واللون والجنس.
كان ترامب يُمثِّل الهوس الأميركي التاريخي بتصنيف الجميع إلى فائزين وخاسرين؛ الهوس بتحويل كل تشابه إلى مقارنة، وكل مقارنة إلى منافسة، وكل منافسة إلى صراع قوة لا بد من أن يُفرز نتيجة نهائية مُحصَّنة من النقد والمراجعة، والهوس بحسم قضايا شديدة التعقيد بأساليب شديدة الكسل والجهل والحمق والعنجهية، والهوس بالمعادلات الصفرية التي لا تُنتج إلا فائزين وخاسرين، أصفارا وآحادا.
في هذه الحالة، كان سكان بورتوريكو هم الخاسرين طبعا. لماذا؟ لأن هذه الجزيرة كانت خاضعة للحكم الإسباني، واحتلالها من قِبَل الأميركيين لم يكن إلا أثرا جانبيا للحرب على إسبانيا، ثم أبقتها أميركا على هذه الوضعية لأنها لم تملك خيارا آخر، ونتيجة لكل ما سبق، لم تمنح أهلها أي حقوق أو مزايا. (2)في الواقع، كان يجب أن تكون بورتوريكو ممتنة لترامب لأنه أرسل مساعدات من الأساس، خاصة حينما يكون الحدث إعصارا مثل "ماريا"؛ لم يفعل شيئا سوى تدمير البنية التحتية للجزيرة بالكامل، وحصد أرواح 16 شخصا فقط (على حد علمه وقت التصريح)، ونسف عدة مدن، وخسائر قُدِّرت بأكثر من 90 مليار دولار، وهي حصيلة "مقبولة" جدا بالنسبة لكارثة "حقيقية" مثل "كاترينا". (1)
شخصية البطل
هذا الهوس الأميركي المسعور بالفوز، حتى في سباق على شدة الكوارث الطبيعية، لم يكن أبدا وليد لحظة "ماريا" في 2017، بل في الحقيقة يمكن ملاحظته في أبسط تفاصيل حياة الأميركيين، فثلاث من الألعاب الأربعة الشعبية الأولى في الولايات المتحدة (كرة السلة وهوكي الجليد والبيسبول) يستحيل أن تُنتج منافساتها تعادلا في النتيجة، وفي اللعبة الرابعة (كرة القدم الأميركية)، كان وضع قانون الوقت الإضافي في 1974 عاملا حاسما في تقليص احتمالات التعادل. (8)
في 2018 مثلا، وعقب تعادل ما بين كليفلاند براونز وبيتسبورغ ستيلرز، قال جيمز كونر، أحد أظهرة ستيلرز: "الفوز هو ما نفعله، ونحن لم نفز اليوم، وهذا يُشعرنا بأنها خسارة!". وعقب المباراة ذاتها، صرَّح مدرب الخصم، هيو جاكسون، قائلا: "بالطبع نحن محبطون من نتيجة المباراة.. التعادل!".
تصريح الأخير يكتسب أهمية قصوى عندما نُخبرك أن هذا التعادل الذي أحبط هيو جاكسون كان قد كسر سلسلة هزائم استمرَّت لسبع عشرة مباراة متتالية في الدوري الوطني لكرة القدم، وسلسلة أخرى من ست هزائم متتالية أمام بيتسبورغ ستيلرز تحديدا. (8)
خارج حدود الولايات المتحدة الأميركية ورياضاتها، فإن العكس يحدث كثيرا؛ الفِرَق الضعيفة كثيرا ما تحتفي بالتعادل مع الفِرَق الكبيرة على أرضها وخارجها. في الكريكيت مثلا، يمكن لفريقين أن يلعبا لخمسة أيام وتنتهي المباراة بالتعادل، حتى في سباقات أولمبية شديدة الدقة مثل السباحة والركض، يمكن حسمها بأجزاء من الثانية، فإن احتمالية التكافؤ قائمة، وعبر قرن وربع القرن من المنافسات، لم يحدث أن خلت دورة أولمبية واحدة من بضعة تعادلات.
في الواقع، كان هذا أحد أهم أسباب شعبية كرة القدم المنخفضة في أميركا حتى وقت قريب؛ أنها لعبة تُنتج تعادلات بانتظام وكثافة مقارنة بأي رياضة أخرى. العديد من الفِرَق تلجأ إلى اللعب على التعادل لسبب إستراتيجي يتضح في نهاية الموسم، ولأسباب نفسية تتعلَّق بتجنُّب الهزيمة. (9)
هذا هو ما لم تستوعبه الأُمة الأميركية الناشئة عبر تاريخها القصير وحتى اللحظة، ربما لأنها لم تعتد الخسارة، ومع الوقت أصبح الفوز هو الخيار الوحيد المتاح مثلما تقول العبارة الأيقونية لهنري راسل، مدرب كرة القدم الأميركية: "الفوز ليس كل شيء.. الفوز هو الشيء الوحيد". (10)
هذا هو ما يصفه إيفريت دولمان، بروفيسور الإستراتيجيات العسكرية الذي يعمل مع القوات الجوية الأميركية، في كتابه "الإستراتيجية النقية" (Pure Strategy)، إذ يعتقد أن سعي أميركا الدائم للانتصار الحاسم المدوي، واعتباره النهاية المنطقية الوحيدة لأي صراع، كان يحد من خياراتها في كل حرب، ويجعلها قابلة للتوقُّع، إذ لا يكون الهدف هو إيقاف الصراع، بل سحق الخصم تماما، وهذا ينعكس على تكتيكات الحروب كذلك، فالهدف دائما ما يكون مهاجمة نقاط تفوق الخصم بأقصى قوة ممكنة، مع أن الخيار الإستراتيجي غالبا ما يذهب نحو إلحاق أكبر ضرر ممكن بنقاط ضعفه. (11)
ماذا سنفعل مع اليابانيين؟ سنضرب هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية طبعا. ماذا سنفعل مع الهنود الحمر؟ سنُبيدهم عن بكرة أبيهم بالتأكيد. ماذا سنفعل بعد أن نستقل عن الإنجليز؟ ستقوم الحرب الأهلية حتما. كيف سنواجه الإرهاب؟ سنُدمِّر العراق وأفغانستان بالقطع. كيف ستنتهي كل هذه الحروب؟ بانتصار أميركا الساحق لا شك، أو الترويج له على الأقل. لا بد من مشهد ختامي سينمائي ينتهي فيه كل شيء بلا رجعة، لتصبح النتيجة الرسمية 1-0 لأميركا.

على الرغم من أن تاريخ صراعات أميركا يؤيد هذا المنطق، وسجل انتصاراتهم يشهد على نجاحه، فإن دولمان يعتقد أن هذا المنطق فيه شيء من الحمق بدأ يتضح في الخمسين عاما الأخيرة؛ ببساطة لأن الدول والشعوب لا تفنى في أغلب الحالات، ولا بد من مقاربة تعترف بوجود حياة بعد نهاية الصراع، وتضمن تحقيق المكاسب المرجوَّة بأقل قدر ممكن من العداوات المكتسبة، وهذا يتطلَّب أساليب مركبة ومعقدة نادرا ما تُنتج أصفارا وآحادا صحيحة، ولا تؤمن بأن كل حدث قابل للاختزال في نتيجة سطحية تُقر فائزا وخاسرا. في النهاية، يتطلَّب الأمر الكثير من التنازلات والمفاوضات والمساومات التي تضع كل العوامل في الاعتبار، أي باختصار؛ كل الأساليب التي تكرهها أميركا وتسعى لتجنُّبها.
فُز بالمعركة.. اخسر الحرب
هذه الثقافة اكتسبت مساحات واسعة من الوعي الجمعي العالمي لأسباب بسيطة وواضحة؛ أولها، كما ذكر دولمان، أنها لا تعرف طريقة للتخطيط للمستقبل إلا بتكريس اللحظة الحالية والاستغراق فيها واستغلالها لحصد أكبر كمٍّ ممكن من المكاسب، وهذا ما جعل هزيمة فيتنام المعنوية شديدة الوطأة على الأميركيين، ببساطة لأنهم لم يخسروا أية معارك كبيرة أثناء الحرب، ولكنهم خسروا الحرب نفسها. (8)
هذا ما يقودك للسبب الثاني المهم؛ وهو أن هذه الثقافة تخاطب نوازع الكسل لدى البشر، وتُخبرهم أن انتصارا واحدا كافٍ ليحصلوا على لقب فائزين رسميا، وبالتالي يضمنوا عُمرا مديدا من الانتصارات الشبيهة، وأن كل شيء يمكن إرجاعه إلى لقطة واحدة مهمة كانت الفارق بين الفوز والخسارة، بينما في الحقيقة، غالبا ما يكون الأمر عبارة عن تراكمات معقدة متشابكة، وقدر لا بأس به من العشوائية والمصادفات والحظ.
هذه الثقافة جذابة للغاية لأنها تختصر الحياة كلها، لا مجرد مباراة كرة قدم، في معادلة صفرية، والمعادلات الصفرية هي أمر يفهمه الجميع مهما كانت درجات ذكائهم أو تعليمهم أو ثقافتهم أو كسلهم، لأنها تُنتج أحكاما صلبة واضحة لا مجال للنقاش فيها، ولا تحتاج إلى أي مراجعة أو نقد، بالتالي هي أكثر الطرق سهولة وراحة لفهم الواقع.

هذا هو ما يُلخِّصه كارل يونغ في مقولته الشهيرة عن كون السبب في قيام الناس بإطلاق الأحكام طوال الوقت هو صعوبة التفكير والتحليل والفهم، وهو ما أضافت إليه الباحثة ليا غرينفلد تطويرا مهما عبر قاعدة "الانهماك أهم من الفهم" (Busyness over Understanding)، إذ يميل البشر، طبقا لغرينفلد، إلى الانشغال بحياتهم اليومية وأحداثها المتلاحقة وروتينها، حتى لو كان يضرهم، عوضا عن التوقُّف لمحاولة فهمها وتحليلها لاتخاذ قرارات أفضل، أو الإقلاع عن عادات سيئة. (12) (13)
في كتابها "روح الرأسمالية" (The Spirit of Capitalism)، تذهب غرينفلد إلى ما هو أبعد، إذ تعتبر أن قاعدة الانهماك هي أهم ما يُبقي على هوس الناس بالتنافس والصراعات والانتصارات المدوية والنتائج الحاسمة، وبالتالي هي أهم ركن في العنوان الذي اختارته لكتابها، ببساطة لأن أي محاولة للتفكير العقلاني ستكتشف أن هذا الاستغراق الدائم في اللحظة لا يُفيد أحدا، ولا يصنع مجتمعات أفضل، ولا يُحقِّق الأمان المادي والاجتماعي على المدى البعيد بالدرجة المتوقَّعة، بل ينهش نسيج المجتمع بسرعة وكفاءة أعلى من أي اختلافات أخرى قد تُفرِّق بين الناس. (13)
يتضح ذلك في الجانب الآخر الذي لا يظهر في إعلانات الحلم الأميركي، أي الهزيمة والخسارة الحتمية التي لا مفر منها عند لحظة ما في حياة كلٍّ منا، التي تجعلها معادلات ترامب الصفرية نتيجة لا يمكن احتمالها أو التعايش معها، وهنا، تُظهِر الثقافة الأميركية وجهها القبيح، المستعد للغش والتحايل والنصب للحصول على الفوز المنشود وإنهاء هذه الحالة في أقرب فرصة ممكنة، أو حتى اصطناع الصراعات للحصول على جرعة الفوز الكافية لإشباع الإدمان وتأكيد السيطرة والوضع الاجتماعي، ما يمكن تلخيصه في مشهد المتنمر الأميركي المعتاد وهو يقلب صينية طعام المنبوذ الضعيف ثم يصفه بالخاسر.
نسبية هايزنبرغ
هذا المشهد، الذي ما زال مُنفِّرا للكثيرين منا، بدأ يتطوَّر ويتخذ صورا درامية "أكثر واقعية" في السنوات الأخيرة، وباستخدام النسبية الأخلاقية، أصبح من السهل التعاطف والإعجاب بتاجر مخدرات وقاتل مثل والتر وايت، أو مجموعة من اللصوص مثل عصابة داني أوشن، أو أيًّا كان ما يُمثِّله جايمي لانيستر، لأن المعالجات الدرامية وضعتهم في مواجهة خصوم أدنى على السلم الأخلاقي، وفي أحيان أخرى لم يكن هذا ضروريا أصلا مع شخصية مثل فرانك أندروود.
بالطبع كل هذا لا يتم ضمن مُخطَّط عالمي تقوده المحافل الماسونية لتدمير العالم ونشر الفجور، ولكنه إفراز طبيعي وحتمي لهذه الثقافة، بل إن عبقريتها -وهي عبقرية رغم قبحها- تكمن في كونها تدفع حتى أكبر المتضررين منها، أي المهزومين والخاسرين، إلى التفكير بالطريقة ذاتها، واعتناق نظرة شديدة السوداوية عن العالم، يصبح فيها الجميع إما أشرارا وإما أشرارا مُحتمَلين ينتظرون الفرصة المناسبة، لأن هذا هو السياق الوحيد الذي تصبح فيه نماذج مثل وايت وأوشن ولانيستر وأندروود مقبولة؛ عندما يكون أقصى ما يستطيعه الضمير الإنساني هو أن يمنحها قدرا من الاتساق مع الذات، ولكنه، في الوقت ذاته، لا يمنعها من ارتكاب الفظائع باستمرار في سبيل الفوز.
هذا هو الضمير المثالي في هذه الحالة، الذي يصل بالإنسانية إلى أحط درجاتها، فيصبح من الكافي أن يقول والتر وايت إنه فعلها لأجل نفسه، أو أن يتحجَّج جايمي لانيستر بالحب، أو أن يكون خصم داني أوشن أكثر وضاعة منه، أو أن يكون فرانك أندروود الأكثر صراحة على الإطلاق، عندما يواجهنا بحقيقتنا البائسة في خطبته الشهيرة بنهاية الموسم الخامس.
الاستدراك المهم هنا أن أميركا لم تخلق هذه الثقافة من العدم. في الواقع، أحد أهم التحليلات أتت من عالِم الاجتماع الأميركي من أصل إيطالي فرانشسكو دوينا، في كتابه الشهير "تأملات في الهوس الأميركي بالفوز" (Winning: Reflections on an American Obsession)، إذ يقول دوينا إن أحد أهم أسباب شعبية هذه الثقافة وانتشارها العالمي الواسع هو أن البشر -للمفاجأة- يحبون الفوز. (14)
بالطبع الأمر ليس بهذه البساطة، لأن الفوز في حد ذاته يظل بلا معنى إلا بشروط معينة، فنشوة الفوز لا تكتمل إلا بالإثارة الناتجة عن تجنُّب الهزيمة، وبالتالي يجب أن يكون هناك احتمال للهزيمة، حتى لو كان بسيطا.
لا بد أنك قد سمعت من قبل عن التجربة الشهيرة التي خيَّروا فيها طفلا ما بين أن يحصل على قطعتين من الحلوى ومثلهم لطفل آخر أو أن يحصل على قطعة واحدة ولا يحصل الآخر على شيء، ولا بد أنك علمت أن نتائجها كانت دليلا كافيا على مدى انتشار هذه السيكولوجية في مواجهة الأقران.
أنا أفوز.. إذن أنا مُحق
هذه التجربة تكرَّرت عشرات المرات باختلاف التفاصيل، وكانت النتائج دائما واحدة. في 2003 خيَّر أحد الباحثين طلاب جامعة هارفارد ما بين أن يحصلوا على 50 ألف باوند ويحصل الآخرون على 25، أو أن يحصلوا على 100 والآخرون على 200، وأغلب الطلاب ذهبوا للاختيار الأول رغم أنه تضمَّن نصف المبلغ المتاح، ببساطة لأن خسارة "الآخرين" كانت أكبر بكثير مما خسروه هم، وفي ذلك انتصار ضخم لدرجة لا يمكن مقاومتها. (14)
للتبسيط، يعتقد دوينا أن هذه العملية تتم على خمس مراحل:
- أولا: التفضيل (Differentiation)
الفوز يُميِّزك عن الباقين ويُفرِّقك عنهم، وكلما كانت المساحة بينهم وبينك أوسع بعد نهاية الصراع، كان أفضل.
- ثانيا: أنا أفوز.. إذن أنا مُحق
يتولَّد لدى الفائز إحساس بأنه محق وعلى صواب، وبالتبعية تزداد ثقته بنفسه أثناء الحُكم على الآخرين، ويُصنِّفهم إلى فائزين وخاسرين، وبالتالي يحافظ على دوران العجلة.
- ثالثا: أنا مُحق.. أنا أفهم العالم
الآن يمتلك الفائز دليلا واضحا وتجربة عملية على صحة أساليبه، وبالتالي هو ليس بحاجة إلى فهم ما حدث أو تحليله. في بعض الأحيان، كلما كان التفوق في الصراع أصعب، زادت رغبة المنتصر في قمع شكوكه بعد حسم النتيجة.
- رابعا: التعميم (Generalization)
بعد حسم النتيجة، يُفكِّر المنتصر في المستقبل والصراعات القادمة التي لا يستطيع التأكُّد من نتائجها، فيمارس عقله ما يُعرف بالاضطراب السببي (Causal Confusion)، ويفترض بأنه ما دام نجح في هذا فسينجح في ذاك بالتبعية، وكأنه يمتص العالم بأكمله في فقاعة الصراع الذي فاز به سابقا.
- خامسا: الإنكار (Denial)
بعد الهزيمة المتوقَّعة الحتمية، غالبا ما نلجأ إلى إنكار الحقيقة، وهي أن الفوز والخسارة ليسا إلا مراحل متكررة في حياتنا، ولا يمكن اعتبار أيٍّ منهما نهاية الخط، وأن المستقبل يحمل المزيد من الانتصارات والهزائم، ببساطة لأن هذه الفكرة تخالف الأساس الذي بُنيت عليه قناعاتنا من البداية، واستثمرنا فيه عواطفنا وجهودنا ووقتنا، وهي أن الفوز نهائي ولا رجعة فيه، وأحيانا قد يكون قابلا للتوريث كذلك. ترامب نفسه دليل على ذلك.
بدلا من إدراك الحقيقة والاستسلام للواقع، نُطوِّر مشاعر مزيفة بالاستحقاق؛ أنا أفوز لأنني أستحق الفوز حتى ولو لم أكن الأفضل، حتى ولو استخدمت أساليب ملتوية وغير أخلاقية في تحقيق هذا الفوز.
المثال الأوضح على هذه الحالة في عالم الرياضة هو الدرّاج الأميركي لانس آرمسترونغ، الرجل الذي أُدين بتعاطي منشطات محظورة وسُحبت منه 7 ألقاب للتور دو فرانس. في 2013، قال آرمسترونغ في حوار مع أوبرا وينفري إنه لم يشعر أبدا بأنه كان يغش، بل كان يشعر فقط بأنه يحصل على ما يستحقه، ببساطة لأن الجميع يغش من وجهة نظره. الجدير بالذكر أنه في العام ذاته، قدَّرت بلومبرغ الأموال التي جمعها آرمسترونغ من الغش فقط بـ 218 مليون دولار. (15) (16)
بلا صياح

في هذا السياق، يعتقد روبرتو فيردمان من "واشنطن بوست" أن المرحلة الأخيرة، أي الإنكار، هي نقطة الضعف الواضحة في الثقافة الأميركية وهوسها بالفوز، لأنها تجعلها بيئة خصبة للغش والنصب والتحايل، وأن نسبية كل شيء تجعل من السهل على الأقوياء أن يُدمِّروا حياة الآخرين ما دامت الغاية أهم من وجهة نظرهم؛ أي أن تصبح رغبة أحدهم في أن يزيد ثروته من 10 مليارات إلى 12 مليارا مثلا أهم من أن يحصل موظفوه على زيادة ضئيلة في رواتبهم. (17)
الأهم أنه سواء كان فيردمان محقا أو لا، فإن هذا الإنكار يقودنا إلى مفارقة هي الأهم على الإطلاق، لأنه يُنتج مجموعة من المتعصبين الذين يشعرون بالاستحقاق ويرفضون الهزيمة لمجرد أنهم فازوا من قبل، سواء كان هذا الفوز في مباراة كرة قدم، أو في شهادة دراسية، أو في عدد المؤيدين على حسابات فيسبوك وتويتر، أو في حساب ضخم في البنك، أو حتى مناقشة محتدمة انتهت بانتصارهم.
كل هذا لم يمنع أن تنتقل العدوى للعالم كله بصيغ مختلفة، وأن يكتسح التصنيف الأميركي للبشر كل سكان الكوكب. في الواقع، هناك عدد لا بأس به من المثقفين الإنجليز الذين يتناظرون حول تأثير الثقافة الأميركية على لغتهم ومصطلحاتها، والغزو الفكري الذي تتعرَّض له حضارة كانت تستعمر نصف مسطح الأرض عند لحظة ما من التاريخ، لدرجة فرض وجهة النظر الأميركية على إنجلترا في قضايا مجتمعية مهمة، مثل النسوية والعِرق وغيرها، ظروفها مختلفة في بريطانيا، ولا تمتلك الجذور التاريخية والاجتماعية نفسها لنظيرتها في الولايات المتحدة. (18) (19) (20)
بالطبع كل هذا الإنكار والشعور بالاستحقاق يبدو مألوفا على مستويات أخرى أكثر خصوصية. على سبيل المثال لا الحصر؛ المطرب والمُمثِّل الذي يُقدِّم أردأ أنواع الغناء والتمثيل ولكن لا تهمه الانتقادات لأنه يُحقِّق أعلى الإيرادات، والمؤثِّر الذي يُسلِّع نفسه وعائلته بمحتوى يُصيب مشاهديه بالتخلُّف العقلي، ولكنه يتباهى بأنه يُغيِّر سيارته سنويا ويتقاضى 15 ألف دولار شهريا، ومطربو الراب الذين لا يتحدَّثون إلا عن انتصاراتهم الساحقة المستمرة في معارك لا تنتهي ويحقد عليهم الجميع بلا استثناء، ولاعبو كرة القدم الذين يُسجِّلون الأهداف، أو يُوقِّعون عقدا جديدا، أو يُغيِّرون تصفيفة شعرهم، أو يقضون حاجتهم، فيجدون كل ذلك فرصة مناسبة ليُشيروا لك بأن تخرس، أو أن تُسمعهم صياحك.
الجميع هو رقم واحد في مجاله، والجميع يفوز بلا توقف، والجميع يرغب في إعلان هذا الفوز وتسجيله باسمه، ولا طريقة لفعل ذلك أفضل من تعميم هذا الفوز، واستخدامه سلاحا نوويا ضد الانتقادات الماضية والحاضرة والمستقبلية، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، وحبذا لو كان من الممكن التعبير عن كل ذلك بعبارة لاذعة مختصرة تكمل المشهد الأميركي المعتاد، وتضع "الكارهين" في حجمهم الطبيعي.
هذا هو ما جعل "صياحك طرب"، اللفظة الخليجية التي تُعبِّر عن الإلحاح، أو الشكوى عديمة الجدوى، أو الإلحاح في الشكوى عديمة الجدوى، عنوانا لانتصارات الجميع اليومية. هي لم تُنتج هذه الثقافة طبعا، ولكنها كانت أهم تجلياتها على الإطلاق، وسرعان ما انتقلت من نقاشات مشجعي كرة القدم، أو صراعاتهم بالأحرى، إلى مجالات أوسع وأكثر خطورة وأهمية.
تصفُّح سريع لفيسبوك أو تويتر سيُخبرك أن كل شيء يمكن اختزاله في معادلة فائز وخاسر مهما بلغت أهميته؛ مطربي المهرجانات، والإباحية في الدراما، ورواتب الأطباء حديثي التخرج، وقوانين الضرائب الجديدة، وفتاوى عبد الله رشدي، والنسوية، والتحرش، وحقوق الإنسان، والاكتئاب، والميول الانتحارية.
سُعار
جيانا براينر، الباحثة الأميركية، تصف هذه الحالة المسعورة بلفظة ألمانية لا مقابل لها في الإنجليزية أو العربية؛ "Schadenfreude"، وهي ما يحدث عندما نعتبر الآخرين تهديدا لنا، فتغمرنا السعادة عندما تُصيبهم أزمة أو مشكلة، وأطرف مفارقة في الأمر كله أنها تعتبرها دلالة واضحة على النظرة السلبية لأنفسنا، وتقديرنا المتواضع لذواتنا. (21) (22)
وجهة النظر الأخرى في علم النفس تتحدَّث عما يُعرف بـ "الخِدر النفسي" (Psychic Numbing)، التي يُنتجها التعاطي مع عدد ضخم من الكوارث والمآسي يوميا بمجرد تصفُّح منشورات الأصدقاء والأخبار، ومع الوقت، تصبح معاناة الناس بلا قيمة لأنها متكررة، ونضيق بشكواهم واعتراضاتهم، سواء كانت مشروعة ومُبرَّرة أو لا. (23) (24)
هل نحن ممَّن يملكون تقديرا متواضعا لذواتهم أم أننا أصبحنا مُخدَّرين تجاه شكاوى الآخرين؟ في الحقيقة، لا نعلم، ولا نعتقد أن أحدا يعلم، وغالبا قد تكون الإجابة أننا مزيج بين هذا وذاك، ولعل السبب في ذلك أننا لا نفوز كثيرا أصلا، لذا نكتفي بالتلذذ بمعاناة الآخرين دون أن نحاول فهمها، بل دون حتى أن نتأكَّد من حقيقتها، شاعرين أن هذا يمنحنا القوة.

للسبب نفسه ننشغل في صراعاتنا اليومية آملين في الحصول على أكبر قدر ممكن من صياح الآخرين، لدرجة افتعال المواقف التي تُمكِّننا من إطلاق العبارة السحرية نحو خصومنا المفترضين، والحصول على الجرعة اليومية من نشوة التفوق؛ بداية من مشجع كرة القدم الذي لا يُطيق الاعتراضات على طريقة فوز فريقه، ومرورا بقضايا مجتمعية شديدة الخطورة والجدية، ووصولا إلى أعاصير الفئة الخامسة التي تضرب جزر الكاريبي. (25) (26)
المؤسف في كل ذلك أن ما سبق يعني أننا سنَملُّ معاناة الناس المتكررة عند لحظة ما، وسنظل نبحث عن معاناة أكبر تُثير فضولنا وتُشبع إدماننا في التشفي في الآخرين، وهو ما قدَّمه مسلسل "Click Bait" في صورة مرعبة، تحوَّل معها البشر إلى ما هو أدنى من الحيوانات، لدرجة الاستثارة باحتمالية قتل أحدهم. (27)
المفارقة الوحيدة الطريفة في كل ما سبق أن كل هذا التفاخر والتبجُّح والتشفي فارغ المعنى والمضمون، لأنه كثيرا ما يُبنى على قوى لا نملكها ولا نتحكَّم فيها؛ دفاعا عن مشاهير لا يعرفوننا، أو نصرة لحكومات وتنظيمات لا تعبأ بوجودنا، أو انتصارا لآراء سنُغيِّرها بعد أيام، ثم سنعود لإخبار مَن ما زالوا يعتنقونها أن "صياحهم طرب".
النتيجة أن كل مساحة للاختلاف والنقاش تحوَّلت إلى معركة، وكل معركة أنتجت خاسرا يصيح وفائزا مُتبجِّحا بانتصاره تطرب آذانه بصياح الخاسرين، وحتى المعركة اليائسة ضد كل هذه المعارك لم تنج من المصير نفسه.
__________________________________________________________
المصادر:
- إعصار ماريا؛ حقائق وأسئلة متكررة – World Vision
- لماذا تتناظر بورتوريكو حول التبعية للولايات المتحدة منذ استعمارها؟ – National Geographic
- ترامب يهاجم عمدة سان خوان بسبب تعليقها على التعامل الأميركي مع إعصار ماريا – CNN
- ترامب أرسل 18 تغريدة عن بورتوريكو يوم السبت وجعل الأمور أسوأ بكثير – CNN
- ترامب يُصرِّح بأن بورتوريكو يجب أن تكون فخورة لأن الكثيرين لم يموتوا مثل إعصار كاترينا الذي يعد "كارثة حقيقية" – People
- بورتوريكو تزيد عدد الضحايا الرسميين لإعصار ماريا إلى 2975 قتيلا – BBC
- انقسام أميركا الأكبر؛ الفائزون والخاسرون – Salon
- ثقافة الفوز الأميركية؛ الطريق لإفساد القرن الحادي والعشرين – Real Clear Defense
- النظرية الأميركية؛ هل كرة القدم هي أغبى لعبة في التاريخ؟ – الجزيرة
- "الفوز ليس كل شيء، بل الشيء الوحيد".. أليس كذلك؟ – The Guardian
- كتاب إيفريت دولمان: الإستراتيجية النقية؛ القوة والمبدأ في عصر الفضاء والمعلومات – Amazon
- كارل يانغ: "الفهم صعب لذا يميل الناس دائما لإطلاق الأحكام" – Goodreads
- كتاب "روح الرأسمالية" لليا غرينفلد – Harvard University Press
- كتاب فرانشسكو دوينا: تأملات في الهوس الأميركي بالفوز – Amazon
- تفريغ مقابلة لانس آرمسترونغ مع أوبرا وينفري – BBC
- غش لانس آرمسترونغ جلب له أرباحا قياسية تبلغ 218 مليون دولار – Bloomberg
- لماذا يغش الناس؟ – The Washington Post
- العالم محبوس في حرب أميركا الثقافية – The Atlantic
- كيف فاز الأميركيون بالعالم: مراجعة بحث "أمْرَكَة العالم" لبيتر كونراد – The Guardian
- رجاء توقفوا عن فرض وجهة النظر الأميركية عن العِرق علينا! – Persuasion
- تفسير ظاهرة "Schadenfreude"؛ لماذا نبتسم عندما يفشل الآخرون؟ – Live Science
- جيانا براير – Live Science
- ما الذي يجعل الناس يتوقفون عن الاهتمام؟ – BBC Future
- طبيب نفسي يشرح حدود التعاطف البشري – Vox
- هوسنا المَرَضي بالتنافس – Harvard Business Review
- الحُجة ضد التنافس – Alfie Kohn
- مسلسل Click Bait – IMDB