شعار قسم ميدان

انهيار الإرادة.. لماذا نستسلم لإغراء الحلوى عند طابور الدفع؟

أنت تعرف هذه الأيام، حين تجوب متجر البقالة العملاق الذي اخترته للتبضع لأنه يعرض المنتجات بسعر أقل من المتاجر الأخرى، تُمسك بقائمة المشتريات التي أعددتها سابقا حتى لا تنسى شيئا، تمشي بين الممرات اللانهائية، تبحث عن عروض المناديل الورقية، وأفضل سعر لكيس السكر، تقارن بين نوعين من مسحوق الغسيل، وهلم جرا.

 

تمتلئ العربة، وتشعر بالإرهاق بعد كل هذا السير وكل هذه القرارات التي اتخذتها، الآن حان وقت الحساب، تقترب من منصة الدفع، تقف في الطابور، وبينما تنتظر في تململ، تتجه عيناك نحو الحلوى والعلكة الموضوعة على جانبي الطابور، تفكر قليلا، هذه لم تكن على قائمة مشترياتك، ولكنك مرهق وتستحق مكافأة ما على المجهود الذي بذلته، لم لا تكافئ نفسك بأحد ألواح الشيكولاتة أو بعلبة من العلك؟!

 

إرادة تحت القصف

هل يمكن أن تكون مصابا بما يسمى "إجهاد القرار (Decision fatigue)"؟ إنه الضغط العقلي والعاطفي الناتج عن اتخاذ القرارات المتعددة، أنت تواجه العديد من القرارات يوميا: ماذا ترتدي؟ ماذا تتناول للإفطار؟ أي طريق تسلك للعمل؟ والمئات من القرارات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، ناهيك بالقرارات المصيرية التي قد تضطر لاتخاذها، والتي قد تجعلك منهكا تماما بنهاية اليوم، ويبدو أن الحضارة تؤدي دورا لا بأس به في ذلك، إذ تمنحك خيارات لا نهائية في كل جوانب الحياة مع كل لحظة.

 

يندرج مصطلح إجهاد القرار تحت فكرة أكبر، وهي "استنزاف الإرادة (Ego depletion)". صاغ هذا المصطلح "روي باومايستر"، عالم النفس الاجتماعي بجامعة "كيس ويسترن ريزيرف" في أواخر التسعينات، بعد إجرائه تجربة مثيرة مع مجموعة من الباحثين بالجامعة نفسها، اشتهرت باسم "تجربة بسكويت الشيكولاتة والفجل".

 

خلال التجربة، وُضعت مجموعة من الأشخاص داخل غرفة تحتوي على طبق من بسكويت الشوكولاتة المخبوز حديثا وذي الرائحة النفاذة، وطبق آخر من الفجل الأحمر والأبيض غير المغري على الإطلاق، وقُسِّمت عينة الاختبار إلى مجموعتين، على إحدى المجموعتين أن تأكل بسكويت الشيكولاتة فقط، بينما المجموعة الثانية عليها أن تأكل الفجل فقط(1).

Roy Baumeister
روي باومايستر

بعد هذا، طُلب من المشاركين الأصليين، بالإضافة إلى مجموعة ثالثة لم تتناول أي شيء، حل أحجية مستحيلة لقياس الوقت الذي سيستغرقه المشاركون قبل أن يعلنوا استسلامهم وفشلهم في حلها. كانت النتائج التي أحدثت ثورة في وقتها تقترح أن المشاركين، الذين بذلوا جهدا في التحكم في الذات ليأكلوا الفجل بينما رائحة البسكويت الطازجة تعبق المكان، كانوا أسرع في الاستسلام من المجموعتين الأُخريين، وتم بناء النظرية التي تفترض أن قوة الإرادة لها مخزون محدد داخل المخ وإذا استُهلِك في مهمة معينة، فلن تستطيع استخدامه في مهمة أخرى تتطلب تحكما في الذات. استُشهِد بهذه الدراسة في 3000 ورقة بحثية لاحقة، وخلال العشرين عاما التالية للدراسة أصبح هناك مجال كامل في علم النفس الاجتماعي مبني على هذه الفكرة.

 

ليمونادة بدون سكر

على الرغم من أن نظرية "استنزاف الإرادة" تبدو بديهية ومنطقية، فإنها واجهت الكثير من الانتقاد والتشكيك في السنوات الأخيرة. بدأ الأمر عندما قرر "إيفان كارتر"، طالب الدراسات العليا بجامعة ميامي، إعادة تجربة الليمونادة الشهيرة، التي تفترض أن عصير الليمون المضاف إليه السكر يستطيع أن يعكس تأثير استنزاف الإرادة ويمنحك الحيوية من جديد.

 

قام كارتر بالتجربة على عينة كبيرة من المشاركين، وتوصل إلى أن الأمر مجرد خدعة، وأنه لا يوجد ما يثبت أن الجسم يستطيع امتصاص السكر بهذه السرعة لتغذية المخ، كما أن المخ لا يستهلك أي سكر إضافي عندما يقوم بعمليات عقلية معقدة كما هو شائع. هذه النتائج دفعته للتشكيك في النظرية كلها، فقام عام 2010 بمراجعة عشرات الدراسات التي أيدت النظرية، وتوصل إلى أنها لا تثبت بشكل قطعي صحتها(2).

دعنا نلقي نظرة أكثر قربا على الاختبارات التي حاولت دراسة استنزاف الإرادة. تضمنت الدراسة المنشورة عام 2013 في دورية "بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينس (Proceedings of the National Academy of Science)"، ثلاث تجارب تسعى لإثبات تجربة الليمونادة أو دحضها، وتسلط النتائج الضوء على الدور الذي تؤديه معتقدات الفرد في التحكم في الذات، عوضا عن وجود مخزون محدد من الإرادة من عدمه(3).

 

اتبعت التجارب الثلاث السيناريو نفسه تقريبا، أولا، حُدِّد المشاركون الذين يؤمنون بأن الإرادة محدودة، وأولئك المؤمنون بأن الإرادة غير محدودة. ثانيا، أُعطي بعض أفراد المجموعتين مشروب ليمون محلّى بالسكر، والبعض الآخر مشروب ليمون بمُحَلٍّ صناعي خالٍ من السعرات، وخلال 10 دقائق، وهى المدة التي تدعي تجربة الليمونادة أن تأثير السكر على المخ يحدث خلالها، خضغ الجميع لبعض المهام التي تتطلب التحكم في الذات، مثل كتابة قصة دون استخدام أحرف معينة، والهدف من هذه المهام هو استنزاف مخزون الإرادة. في المرحلة التالية، أُخضِع المشاركون لمهمة أخيرة لإثبات ما إذا كانت إرادتهم نفدت أم لا، ثم قورن الوقت المستغرق من كلا الفريقين وقِيس تأثير مشروب الليمون على الأداء.

 

رجّحت النتائج أن الإرادة تعتمد بشكل أكبر على الاعتقاد الشخصي للفرد بلانهائية الإرادة أو بقابليتها للفناء، عوضا عن وجود مخزون محدود قابل للنفاد. وفي حين تشابهت النتائج المرتفعة للمجموعات التي تناولت مشروب الليمون المحلّى بالسكر، رغم اختلاف اعتقاداتهم، إلا أن المجموعة المؤمنة بمحدودية الإرادة أدت بشكل أسوأ في جميع الاختبارات عن المجموعة المؤمنة بعدم محدوديتها، وذلك عند تناول مشروب الليمون الخالي من السعرات. تثبت هذه الدراسة أن تأثير السكر على القدرة على التحكم في الذات يعمل فقط لدى الأفراد المؤمنين بمحدودية الإرادة. إذن، ربما تكون استسلمت للعلكة فقط بسبب اعتقادك أن إرادتك قابلة للنفاد.

 

عقبات في طريق أهدافك

يمكننا أيضا تفسير سلوكك من منظور مختلف، أنت الآن في طريقك لشراء احتياجات المنزل، وأمامك خيار من اثنين، إما أن تُعِدّ قائمة مسبقة بما يحتاجه المنزل فعلا أو أن تذهب بلا خطة وتعتمد على القرارات اللحظية في الشراء. هذا ما يسمى بالنظام المزدوج للسلوك (Dual system models of behavior) ويفترض أن سلوك الإنسان مبني إما على التفكير المتمهل أو الاندفاع اللحظي. التفكير في القرارات يتطلب مجهودا ذهنيا وتحكما واعيا في الذات، بينما القرارات الاندفاعية تُعتبَر شبه أتوماتيكية وتحدث بشكل فوري دون تفكير أو مقاومة بمجرد تحفيزها، ونوع القرار الذي تتخذه يؤثر مباشرة على تحقيقك لأهدافك.

 

أن تلتزم بقائمة الشراء وتحافظ على انتباهك من التشتت بين مئات المنتجات المحيطة بك يتطلب بذل مجهود ذهني لمقاومة هذه الإغراءات، بينما لو اعتمدت على ردود فعلك الاندفاعية، فمجرد رؤية أكياس البطاطس المقلية المتراصة أمامك سيجعلك تمد يدك وتملأ عربة التسوق بها دون تفكير. النتيجة النهائية التي ستصل إليها عند طابور الدفع هي أنك في الحالة الأولى ستحقق الهدف الذي جئت من أجله، وفي الحالة الثانية لن تحقق الهدف كاملا ببساطة؛ لأنك حتى لو نجحت في شراء كل المستلزمات التي تحتاجها حقا بالإضافة إلى مشترياتك العشوائية، فعلى الأغلب أنك لم تلتزم بالميزانية المحددة(4).

Supermarket Shopping Sales

لكن، ماذا لو كان الأمر يتعلق بالمغريات نفسها ولا يتعلق بك أنت؟ لدراسة هذا الاحتمال قام الباحثان مارينا ميليافسكايا ومايكل إنزليخت، في الدراسة المنشورة عام 2017 في دورية سوشيال سيكولوجيكال آند برسوناليتي ساينس (Social Psychological and Personality Science)، بإحضار 159 طالبا في السنة الأولى في جامعة ماكجيل (McGill University) الكندية ممن يمتلكون هواتف ذكية، واُخضِعوا لاختبارات مبدئية للشخصية ومقياس للتحكم في الذات، ثم طُلب من كلٍّ منهم تحديد 4 أهداف للعمل عليها خلال الفصل الدراسي الأول. وخلال 7 أيام، كان تُرسَل استبانات في أوقات عشوائية لقياس الإغراءات التي تعرض لها الطلاب على مدار اليوم وكيفية استجابتهم لها.

 

أراد الباحثان دراسة التحكم في الذات واستنزاف الإرادة في بيئة حقيقية خارج المعمل، ثم كانت الخطوة الأخيرة، أُخضع الطلاب لاستبيان أخير عن الأهداف التي حققوها خلال الفصل الدراسي. استنتج الباحثان أن المغريات كان لها دور مباشر فيما يسمى باستنزاف الإرادة، ما يعني ارتباطها بمعدلات أداء أقل في تحقيق أهداف الفرد.

 

المثير في النتائج أن المغريات في هذه الحالة كانت العامل الوحيد المؤثر في عدم تحقيق الأهداف، فالرفوف المليئة بأكياس البطاطس المقلية وألواح الشوكولاتة بجوار منصة الدفع دفعتك لتخطي الميزانية المحددة، بينما بذل الجهد في التحكم بالذات لم يكن ليساعدك على تحقيق هدفك.

Supermarket Shopping Sales

يبدو إذن أن تحقيق الأهداف يتأثر سلبيا بالتعرض للمغريات، وليس بمقاومتها أو التحكم بها. من النتائج غير المتوقعة للدراسة أيضا أن الطلاب أبلغوا عن الشعور بالإرهاق لدى مواجهة العديد من المغريات، سواء حاولوا أن يتحكموا فيها أم لا، ما يرجّح أن مجرد وجود مغريات تتعارض مع أهدافك كافٍ لإصابتك بالإرهاق، سواء استسلمت لها أم قاومتها.

 

إغراء أن تشاهد حلقة أخرى من مسلسلك على نيتفلكس قبل إنهاء الاستذكار، أن تتناول قطعة أخرى من البسكويت بينما تتبع حمية غذائية، أن تلعب لعبة على هاتفك بينما عملك ينتظرك، هذا الإغراء هو ما يجعلك تشعر بالإرهاق أو استنزاف الإرادة، فماذا لو أزلنا هذه المغريات من الأساس؟!

 

في تجربة المارشميلو الشهيرة عام 1970، والتي تتوافق نتائجها إلى حد كبير مع الدراسة السابقة، أثبت "والتر ميشيل (Walter Mischel)"، عالم السيكولوجي الأميركي ذو الأصول النمساوية، أن تفادي المغريات بدلا من مقاومتها أو المحاولة النشطة للتحكم في الذات هو ما ساعد الأطفال على النجاح في التجربة وعدم تناول المارشميلو.

 

قام الأطفال الناجحون في التجربة بتشتيت أنفسهم والنظر بعيدا عن الطبق أو الغناء وتكرار الأرقام، بدلا من التحديق بقطعة المارشميلو ومحاولة منع أنفسهم من تناولها. استمر الباحثون في متابعة الأطفال الذين شاركوا في التجربة لمدة 40 عاما، ووجدوا أن الناجحين في الاختبار كانوا الأكثر قدرة على الوصول لأهدافهم فيما بعد، حيث كانوا الأفضل في تجاوز الجامعة وكسب دخل مرتفع وأقل عرضة لزيادة الوزن(5).

 

أنت سيد مصيرك

قد تنجح حيلة التشتيت وإزالة المغريات من حولك فيما يتعلق بمشاهدة التلفاز أو اللعب بهاتفك، فيمكنك دوما وضع الهاتف خارج غرفة الاستذكار أو وضع قفل إلكتروني بمؤقِّت على التطبيقات الأكثر استخداما، أو إلغاء اشتراكك في خدمات بث الفيديو، وإزالة كل الأطعمة غير الصحية من المنزل، ولكنك لن تستطيع دوما التحكم في البيئة المحيطة بك، كيف تتجاهل المغريات في المتجر أثناء التسوق؟ بل كيف تواجه المائدة المليئة بما لذ وطاب من أصناف الطعام عندما تُدعى إلى العشاء وأنت تتبع حمية غذائية؟ هناك نظرية أخيرة قد تساعدك.

 

تفيد نظرية تقرير المصير (Self-determination theory) بأن الذات تتغذى على الاحتياجات الأساسية من الاستقلالية والكفاءة، وتحقيق هذه الاحتياجات يضمن للذات الحيوية (Vitality). والحيوية هنا عكس استنزاف الإرادة، أي أن يمتلك الفرد فائضا من الطاقة يمنحه القدرة على تحقيق أهدافه.

 

لذا، يمكن القول إن الفرد يستطيع الوصول إلى هدفه إذا ما كان يتحرك بدوافع داخلية نحو أهداف تهمّه هو، على عكس الأشخاص الذين يقومون بمهام مملة بالإجبار. يبدو هنا أن الدوافع الداخلية التي تمنح الفرد الحيوية تساعده أيضا على عدم التأثر بالمغريات. إن كنت تتبع حمية غذائية من تلقاء نفسك وأنت مؤمن بأهميتها من أجل صحتك، وإن كنت مقتنعا أن لوح الشيكولاتة يحتوي على العديد من المكونات الضارة بخلاف السكر، حينها لن تجد مشكلة في تجاهل الحلوى بينما تنتظر دورك فى طابور الدفع(6).

ShutterStock, Shutter Stock, commercial, occupation, shop, caucasian, buy, discount, goods, aisle, retail, shelves, interior, products, supermarket, hypermarket, shopper, view, greece, modern, cashier, indoors, man, row, floor, worker, brand, consumer, group, editorial, business, retailer, work, mall, purchase, store, people, lifestyle, shelf, market, super, sale, cashier supermarket, lidl, grocery, pharmacy, male, customer, editorial use only

إذن، قوة الإرادة لا تعني أن تبذل مجهودا ذهنيا خارقا للتحكم في ذاتك، أو لمنع نفسك عن سلوك تعرف أنه قد يضرك، لكن بالأحرى تتمحور حول تكتيكات التحكم بالذات الفعالة، وحول القدرة على انتظار "الإشباع المؤجل"، وهو في حالتنا ادخار أموالك والحفاظ عليها، بدلا من السعي وراء "المكافأة الفورية" التي يعطيك إياها لوح الشيكولاتة.

 

لذلك يتطلب الإقلاع عن الإدمان -على سبيل المثال- أن يقوم المتعافى بتغيير الأماكن والأشخاص والأشياء التي ترتبط بتعاطي المادة المخدرة، بدلا من الاعتماد على قوة الإرادة وحدها للتحكم في الذات بينما هو محاط بأصدقاء مدمنين. في المرة القادمة التي تذهب فيها للتسوق، تذكر أنك سيد إرادتك، وأنك جئت من أجل هدف واضح لن تحيد عنه.

—————————————————————————————————–

المصادر

  1. Ego depletion: is the active self a limited resource?
  2. (PDF) Is ego depletion too incredible? Evidence for the overestimation of the depletion effect
  3. Beliefs about willpower determine the impact of glucose on self-control
  4. What’s So Great About Self-Control? Examining the Importance of Effortful Self-Control and Temptation in Predicting Real-Life.
  5. Acing the marshmallow test
  6. Self-Regulation and Ego Control | ScienceDirect 
المصدر : الجزيرة