ما لا يقتلك يجعلك مبدعا.. فسحة من الأمل في زمن الوباء

ما بين عشية وضحاها انقلبت أيامنا رأسا على عقب، وفقدنا بنية اليوم المعتادة، وسقطنا في حالة من انعدام اليقين. يقال إن ما لا يقتلك يجعلك أقوى، أليس كذلك؟ لكن في مثل هذه الظروف يبدو أن ما لا يقتلك يجعلك مبدعا، فعلى الرغم من إغلاق دور السينما والمسارح والمتاحف خلال الفترة الحالية للحد من فرص انتشار فيروس كورونا المُستجد (Covid-19) فإن هذا لا يعني انطفاء شعلة الإبداع، فعلى صفحات وسائل التواصل الإبداعي بدا الجميع كأنهم قد تحوّلوا إلى مبدعين.
في عام 1606، مع التفشي الكبير للطاعون في إنجلترا، أُغلقت المسارح في لندن للحد من التجمعات وتقليل تفشي العدوى. كان شكسبير يعمل خلال هذه الفترة في فرقة "The King’s Men" المسرحية، واستغل شكسبير فترة التوقف لكتابة ثلاث من أهم مسرحياته هي "الملك لير" و"أنطونيو وكليوباترا" و"ماكبث".(1) وفي حلقة أخرى من حلقات الطاعون، وخلال انعزاله في مزرعة تبعد 60 ميلا عن الجامعة، توصّل إسحق نيوتن إلى نظرية الجاذبية. هذه القصص وغيرها عن بوشكين وتشيكوف ومونش وغيرهم من الفنانين والمبدعين الذين استطاعوا إنتاج أهم أعمالهم الإبداعية في أوقات تفشي الأوبئة انتشرت مؤخرا ربما بحثا عن شيء من الأمل في كل ما حولنا من تخبُّط.
قرّر البعض تعلُّم الرسم، وآخرون بدؤوا في تعلُّم عزف آلات موسيقية جديدة، ومع ساعات العزل الطويلة في البيوت تنافس البعض في تجديد شرفات منازلهم وتحويلها إلى ما يُشبه الحديقة، ومع قدوم شهر رمضان بدأ العديد في صناعة الزينة لبيوتهم بدلا من شرائها. لم يقتصر الأمر على تلك الأنشطة الفنية، فقد ابتكر الناس حول العالم العديد من الطرق للتواصل وكسر حالة العزلة والتي يُمكن اعتبارها بمنزلة إبداع في حد ذاته، بداية من الغناء الجماعي في الشرفات في إيطاليا، أو التصفيق الجماعي لتحية مقدمة الرعاية الطبية، أو أقواس قزح التي ينشرها الأطفال عبر الشرفات، وليس نهاية بطرق التواصل المبتكرة عبر الإنترنت، كلها أمور يمكن وصفها بالإبداع.
لقد ازدحمت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بالصور ومقاطع الفيديو التي ترصد صور الإبداع المختلفة. فما السر خلف هذا التدفق الإبداعي؟ وهل هناك رابط ما بين الجائحة والإبداع؟
هل ننتظر شكسبير جديدا من رحم الكورونا؟
هل لنا أن نعد هذه الأشياء البسيطة مثل مقاطع التيك توك والميمز الضاحكة ووصفات الطهي الجديدة إبداعا؟ الحقيقة أن الإبداع لا يعني أن ننتظر من الجميع أن يتحوّلوا خلال الحجر الصحي إلى شكسبير. ولفهم العملية الإبداعية في هذه الأنشطة البسيطة نستعرض نموذج "4C Model of Creativity" الذي وضعه كلٌّ من جيمس كوفمان ورون بيغيتو، وهو إطار عمل وُضِع لتصنيف المستويات المختلفة من التعبير الإبداعي، واستكشاف المسارات المحتملة للنضج الإبداعي. وللتوضيح، يشير الحرف "C" إلى "Creativity" أي الإبداع باللغة الإنجليزية. ويقسِّم النموذج النشاط الإبداعي إلى أربعة مستويات:
Mini C: والمقصود بها المرحلة الشخصية، أو اللحظات الإبداعية البسيطة التي تُعبِّر عن الرؤية الشخصية للشخص المبدع، وتشمل التفسيرات الأولية والخلّاقة المبدعة.
Little C: ويُقصد بها الأنشطة الإبداعية التي يمارسها ويشارك فيها غير الخبراء يوميا، وتأتي أهمية هذا المستوى من الإشارة إلى اتساع نطاق الإمكانات الإبداعية وعدم اقتصارها على المتخصصين. على سبيل المثال، شخص يكتب قصصا بسيطة ويشاركها مع أصدقائه على نطاق ضيق.
Pro-c: يُمثِّل هذا المستوى التقدم الإبداعي والاجتهاد في سبيل تحقيقه، والذي يعي أهمية بذل الجهد في سبيل تطوير المحتوى الإبداعي. على سبيل المثال، شخص يكتب قصصا بدرجة أكثر احترافية ويشاركها على نطاق أوسع، أو نشر بعضها.
Big C: يشمل هذا المستوى الإسهامات الإبداعية البارزة والواضحة مثل الفنانين والعلماء البارزين الذين أثّرت إسهاماتهم على البشرية. على سبيل المثال، كاتب شهير ومؤثر في مجال الأدب.
للأسف ينظر الكثيرون للمستوى الأخير باعتباره النموذج الوحيد والحصري من الإبداع ويتجاهلون ما دونه من مستويات، لكن هذه النظرة قاصرة وتتسبّب في الإحباط للعديد من الأشخاص، وقد تقتل بذور الإبداع لدى أشخاص في مستويات أولية.(2)
ما الذي يدفعنا إذن للرغبة في الإبداع خلال هذه الأزمة؟
في استبانة أجرتها الواشنطن بوست لقرّائها حول كيفية قضائهم الوقت خلال الحجر الصحي، أقرّ أكثر من 250 قارئا باتجاههم لتعلُّم آلات موسيقية أو تجربة تقنيات طهي جديدة وغيرها من المساقات الإبداعية. فمع وجود وقت أطول، ومشتتات أقل، وجد البعض الوقت للبدء في مشاريع جديدة أو تكملة مشاريع منسية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد شهدت منصة مثل "تيك توك" الكثير والكثير من الإبداعات، وبدا الناس كأنهم قد وجدوا أخيرا وقتا للتعبير عن مواهبهم ورغباتهم الإبداعية. كما شهدت منصات التعلم الإلكتروني مثل "دولينغو" و"كورسيرا" و"إدراك" إقبالا غير مسبوق خلال هذه الفترة.(3)
هناك مجموعة من العوامل التي تضافرت معا خلال أزمة فيروس كورونا المستجد (COVID-19) والتي يبدو أن تجمُّعها معا أدّى إلى هذا التدفق غير المسبوق لطاقاتنا الإبداعية، تبدو هذه العوامل بمنزلة أشباح تجمعت من حولنا في هذه العزلة وانعدام اليقين وكان علينا أن نقاومها، وسلاحنا الوحيد هو هذه الأفعال الإبداعية البسيطة:
الملل: قبل أن يقتلنا الملل.. نحاول أن نقتله
الملل، الضجر، الضيق، مفردات مختلفة لكن هل تصف كلها الشعور نفسه؟ ربما لا، طبقا لهذه الدراسة هناك خمسة أنواع مختلفة من الملل:
- اللا مبالاة: تتمثّل في شعور الخمول والاسترخاء والكسل. على سبيل المثال، عندما تقضي الوقت في تمرير أصابعك على الشاشة وتصفح وسائل التواصل دون هدف، أو عندما تنتقل عبر قنوات التلفاز دون أن تشاهد شيئا حقا.
- الملل المعياري: شعور مزعج يتميز بالتفكير في إيجاد ملهيات دون بذل الجهد للبحث عنها.
- ملل البحث: يتميز هذا الشعور بالتململ والبحث عن حل وعن طريقة لكسر حاجز الرتابة والملل.
- الملل التفاعلي: في هذه الحالة يحاول الشخص الهرب من شعور الملل والتغلب عليه، ويعكس شعورا بالغضب والعدوانية.
- الملل الزاهد: يرتبط هذا النوع أيضا بمشاعر غير سارّة، بالإضافة إلى مستوى منخفض من الإثارة والشعور بالعجز والاكتئاب، وقد أظهرت دراسات أخرى ارتباط هذا النوع من الملل بالسلوكيات المدمرة.(4)
النوعان الثالث والرابع هما ما نتحدث عنه هنا، هذا النوع من الملل الباحث عن مهرب هو ما يدفعنا للبحث عن أمور جديدة لفعلها، هو ما يدفعنا لتصفح الإنترنت بحثا عن معلومات جديدة، أو للانضمام لمجموعة افتراضية لنتعلَّم عزف الأكورديون، وربما هو ما يدفعنا لأن نُقرِّر فجأة طلاء حوائط المنزل.
الملل هو ما يخلق اللحظات التي يبدأ فيها عقلك في بحث يائس، يتعطش للتحفيز، آملا في أن ينتشلك الحماس ويأخذ بيديك خارج ظلمات الملل. هذا البحث هو ما يولّد شرارة الإبداع.(5)
القيود: ما الذي تفعله بنا القيود؟.. تدفعنا إلى كسرها
نشعر الآن بأننا سجناء داخل بيوتنا، فُرضت علينا قيود التباعد الاجتماعي والحظر والحجر الصحي والإغلاق الإبداعي. فكيف تدفعنا كل هذه القيود نحو الإبداع؟ طبقا لمقال نُشِر في "Harvard Business Review" بناء على تحليل تجميعي لبيانات 145 دراسة أُجريت حول القيود، بينما يميل الناس بشكل بديهي للاعتقاد بأن القيود تحدّ من الإبداع، فالحقيقة أنها تفعل العكس، ففي المواقف التي نكون فيها أحرارا تماما من أي قيد (على سبيل المثال ضغط الوقت أو الضغوط المالية) يشيع الشعور بالتراخي، ونتبع ما يسميه علم النفس بالمسار الأقل مقاومة، ونميل للأفكار البديهية التي تتبادر إلى أذهاننا دون بذل جهد لتطوير أفكار أفضل.
بينما على العكس، القيود تستبعد من أمامنا الحلول الواضحة والاعتيادية، وتجعلنا مجبرين على إعادة تقييم الأمور والبحث عن طرق أخرى لحل المشكلات غير تلك المعتادة. هذا -بالضبط- ما فعله الحظر، فبعد أن صارت الزيارة البسيطة للجيران أمرا غير متاحا، ابتُكر الغناء في الشرفات، وبعد أن صار شراء الحلويات الجاهزة مخاطرة بالإصابة بالعدوى، صار علينا أن نبتكرها في المطبخ.(6)
العزلة.. إبداع بلا مشتتات
"لا يمكن لعمل جاد أن يُنجز دون عزلة عظيمة".
(بيكاسو)
تمتلئ عوالم الفن والأدب والموسيقى بالأمثلة التي تربط بين العزلة والإلهام. إن العزلة والوحدة وعدم الانتماء جميعها مفاهيم متشابكة في هذا الإطار، وتبدو جميعها حافزا على التراجع والابتعاد عن العالم الخارجي وتعقيداته ومحاولة إيجاد عالم آمن بديل في الإبداع الشخصي. وعلى الرغم من وجود فارق جوهري بين العزلة الاختيارية للفنان والعزلة الإجبارية التي نعيشها في الوقت الحاضر، فإن كلتيهما تشترك فيما توفره من مساحة للعمل على المشاريع الإبداعية دون مقاطعة أو تشتيت.
يقول لي شامبرز عالم النفس البيئي: "إذا تأملنا في الفوائد العملية للعزلة وتأثيرها على الإبداع لاستطعنا أن نرى أنه إذا صمّمتَ بيئة عمل مناسبة للعمل بفاعلية أثناء العزلة، فسيوفّر لك هذا القدرة على العمل بمشتات أقل، وستجد أنه من الأسهل عليك الانخراط في عملية التدفق الإبداعي دون أن يقاطعك أحد. العديد من المبدعين يتعمّدون حجب عدد من الأيام في أجندتهم وتخصيصها للتركيز بدرجة أعمق على أعمالهم الإبداعية دون إزعاج خارجي أو تأثير الآخرين. يمكن أن توفر لك العزلة في هذه الحالة دفقة من الإلهام لخلق عمل إبداعي عظيم".(7)
الابتكار الخلّاق بوصفه فسحة للأمل
لسنوات طويلة عشنا فيما يشبه سباق الفئران، ندور في ساقية العمل وصناعة المال، ويبدو طلب الراحة أو الإجازة بمنزلة اتهام بالكسل. تمنحنا هذه الأيام فرصة لإبطاء إيقاع الأيام المتسارع الذي كاد يدهسنا تحت دواليبه الدائرة، تمنحنا الفرصة لاستعادة هشاشتنا، بعيدا عن القسوة التي يولّدها التسابق في الصراعات اليومية المحمومة. ومن هُنا يُفتح باب للتنفس، حيث يسمح لنا الإبداع أو ممارسة الفنون عموما بفرصة النظر إلى أنفسنا وتأمُّل دواخلنا. وحينما نخلق شيئا ما ونطلق من خلاله طاقتنا الإيجابية ونضعها على مسافة ملموسة نشعر بأننا نُعيد إنتاج الحياة في مواجهة كل أخبار الموت المتتالية والدمار الذي يحيط بنا، ويعني ذلك أننا نمارس دورا ما في إنتاج الحياة. ستبدأ الإنسانية في التهاوي إذا فقد الناس الأمل في زمان الخوف والموت، وهذا هو دور الإبداع، إبقاء الأمل حيًّا.(8)
في النهاية، حديثنا هذا عن شكسبير ونيوتن لا يعني أن عليك أن تكون مثلهم، ليس عليك أن تُنجز في كل ساعة عملا إبداعيا، أو أن تحصل خلال ساعات العزل على عشرات الشهادات الدراسية، فنحن مجرد بشر، لا يزال البعض منا يعمل بدوام كامل، وخاصة العاملين في مجالات الرعاية الصحية والمبيعات الغذائية وغيرهم الذين يُعتبر عملهم حاليا ضغطا مضاعفا عليهم لا أكثر.
أما البعض فقد استيقظوا فجأة على قرارات إغلاق مدارس أبنائهم، فصار عليهم أن يتأرجحوا كلاعب السيرك بين دروس التعليم المنزلي، وتسلية الأطفال، والحفاظ على صحتهم ولياقتهم، وكل ذلك باتباع قواعد التربية الإيجابية دون أن يُصابوا بالجنون. والبعض يحاول الهرب من نوبات هلع لا يمكن السيطرة عليها، محاصرين بكل هذه الضغوط ودوائر الأخبار السلبية التي تبدو كأنها لن تنتهي. ومنا الذين فقدوا وظائفهم أو كادوا، ويعانون لسد احتياجاتهم الأساسية. نحن مجرد بشر، سواء كان يومنا مليئا بالإنتاجية، أو بالركض في سباق محموم لم تهدّئه الأزمة، أو حتى بالتحديق في سقف الغرفة. كل ما نسعى إليه أن ننجو، ولو ليوم آخر.
______________________________________________
المصادر:
- Shakespeare Wrote Three of His Famous Tragedies During Turbulent Times
- 4-cs
- From cooking to calligraphy, people stuck at home are finding new space for creativity
- There Are 5 Types Of Boredom. Which Are You Feeling?
- A psychologist explains why coronavirus might boost teenagers’ creativity
- المصدر السابق
- COULD ISOLATION LEAD TO INCREASED CREATIVITY
- Rising Creativity In the Time Of Corona!