في ظل فيروس (كوفيد-19).. كيف نستقبل شهر رمضان؟
لا شك أن الوباء الذي ضرب العالم في الأسابيع الماضية قد شلّ حركتها، ولم يفرق بين دول متقدمة وأخرى نامية أو فقيرة؛ فجميعها أحس بالعجز والقهر أمام فيروس لا يرى بالعين المجردة. وكان أثره واضحًا على شعائر المسلمين العامة، فمنع حتى الآن الجمع والجماعات في المساجد.
ويقترب شهر رمضان المبارك وفيروس كورونا ما زال يواصل انتشاره، ومن المرجح أن يحول دون إقامة الشعائر الدينية الجماعية كصلاة التراويح في المساجد، وحضور المواعظ، والإفطار الجماعي… وبخاصة في ظل دعوة الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى التباعد جسديًا بين الأفراد، وإغلاقهم للعديد من المؤسسات والوزارات والمدارس والجامعات وغيرها، والاستعاضة عن ذلك بالعمل من المنازل. وقد يكون ذلك مصدر راحة للصائمين، فقد وفّر عليهم ساعات المواصلات ومشقتها. ويلزمنا في ظل هذه الأجواء الرضا بقضاء الله تعالى، وألا نخشى خطورة الوباء، ثم نستشعر كون شهر رمضان منّة من الله تعالى لعباده، نفرح لقدومه ونبتهج، لا سيما أن فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر. وأحاول فيما بقي من مساحة أن أركز الضوء على بعض المعاني المناسبة للشهر الفضيل:
إن شهر رمضان فرصة للتغيير، وسبيل للاتزان في العلاقة بين المتطلبات الفردية والمساهمة في الحقوق الجماعية، وبين حقوق الله تعالى وحقوق العباد؛ بما يغرسه في الصائم من أخلاق وفضائل، كالإيثار والسماحة والعفو. ومن ثم، يجب إصلاح العلاقات التي اختل توازنها؛ فمن غَلّب ناحية على أخرى فقَدَ التوازن لا محالة، وهذا خطره كبير لأنه يولد الخلل فيما قلّ الاهتمام به من أسرة وصنعة ومهارة ونحو ذلك مما أتى عليه الخلل.
جاء ثلاثة أشخاص إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبِرُوا قالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» أخرجه البخاري.
في زحمة التنافس على الدنيا قد ينسى الإنسان نفسه وأهل بيته، ولعل ما نحن فيه من الحجر الاختياري يُعد مناسبة للتقارب بين أفراد الأسرة، والتعوّد على آداب وأخلاق الإسلام، ومرغب في أداء الشعائر والصلوات ومراجعة آيات الذكر الحكيم. فهو فرصة مواتية للأسر لترميم ما فات من أعمال مؤجلة، وخطوة دافعة للترقي في مدارج الصالحين، وهذا بلا ريب يحتاج إلى محبة لله خالصة وذكر دائم له سبحانه، وتفكر في ملكوته لا ينقطع. قال تعالى: "وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ" سورة آل عمران، من الآية 79.
الصدقة في ظل أزمة كورونا أشدُ وجوباً منها في سائر الأوقات، وهي سبب لدفع البلاء وكشف الضراء وتنزل الرحمات. روي الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به" فإذا كان هذا في ظل قدرة الإنسان على الخروج والكسب، فما بالكم بالعجز والعوز وقت الحجر.
ولا أقصد بالصدقة هنا المفروضة منها فقط؛ لأن عادة الناس إخراج زكاة أموالهم في رمضان، كما لا أقصد بها أيضًا صدقة الفطر الواجبة على كل نفس من المسلمين، وإنما أقصد بها صدقة النافلة التي تؤدي إلى التكافل والتراحم الاجتماعي. وقد تجب عند الافتقار إليها، لأنها تغيث الملهوف، وتيسر أمر المحتاج، وتسد حاجته. وهذا ينبعث من شعور المرء بغيره، فيحمله على الوقوف بجانبه، فيتحقق بذلك تماسك المجتمع. جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء" رواه الترمذي وغيره.
لم تعد منصات التواصل الاجتماعي مجرد مواقع على شبكة الانترنت، بل أمست جزءًا من حياتنا الاجتماعية، تستنزف أعمارنا، وتضيع أجمل لحظات حياتنا، فتجمع المتباعدين وتفرق أفراد الأسرة وليس من السهولة الاستغناء عن تلك التكنولوجيا. والأولى في شهر رمضان إعادة النظر في معايير تعاطينا وتفاعلنا مع تلك الوسائل.
كما يحذّر من إدمان مشاهدة التلفاز والبرامج المختلفة من أفلام وفوازير وبرامج تسلية لا نفع منها، والأولى عدم الإسراف في المشاهدة؛ لأن التوسع حتى في النافع يضيع الشهر، لا سيما وأن الإنسان يستطيع استدعاء ما شاء من برامج بعد رمضان.
يتفاوت الناس في فعل الطاعات بحسب استعداداتهم وتنوع مهاراتهم ومواهبهم؛ ولذا لما كتب عبد الله العمري إلى مالك يَحُضُّهُ على الانفراد والعمل وترك اجتماع الناس عليه في العلم. كتب إليه مالك: "إن الله قسّم الأعمال كما قسّم الأرزاق، فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد. وَنَشْرِ الْعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ، وقد رضيت ما فُتِحَ لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر" الذهبي: تاريخ الإسلام: 11/ 183. وقال ابن تيمية: " وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض؛ فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يَقْدِرُونَ عليه وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل" مجموع الفتاوى: 10/ 660.
إذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله خدمة الناس، ومنهم من يكون سيد عمله تعليمهم، ومنهم من يكون سيد عمله الصدقة، فليسْلك كل واحد طريقه المفتوح له إلى الله.
وبعد، فرمضان جاء ليقوِّي عزيمتنا، ويشد إرادتنا، ويحررنا من الضعف والهوان، ومن ثم فهو فرصة لإعادة تشكيل النفس والسلوك، وتنقية الروح، بعدما اعتاد البعض على قلة الفاعلية، وضعف الإنجاز. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن ندعو الله بأن يرفع عن عباده الوباء، وأن ينجينا جميعًا من شره، إنه على كل شيء قدير.