ماذا لو طغى عليك الشعور بالذنب فقط لأنك نجوت؟.. تعرّف على "ذنب الناجين"
في أحد المُستشفيات العامة بالعاصمة المصرية، يتلقّى حسن.ع، اسم مُستعار، الشاب الثلاثيني، علاجه بعد إصابته بمرض السرطان، أثناء تنقُّل حسن بين ردهات المُستشفى وغرفه قابل عشرات الحالات ممن يُعانون من مرضه نفسه، كل فترة يتغيَّب وجه من الوجوه التي أصبح يألفها، فقط لأن يد الموت قد طالته قبل يد الشفاء، وكانت حالة حسن النفسية تسوء بعد كل خبر غياب، كل واحد من الراحلين لديه أحباب وأشخاص يحتاجون إليه، بعضهم ما زال صغيرا ولديه من الحياة آمال عريضة لم تتمكّن يد المرض اللعين من اغتيالها بعد، لكنه يجد الحيوات تُفقَد أمامه كأنها صرح من خيال يهوي وكأنها لم تكن موجودة من الأساس.
بعد سنوات من تلقّي العلاج شُفِيَ حسن من المرض ليواجه عقدة نفسية لم يستطع التعامل معها، يقول عنها لـ "ميدان": "صحيح شُفيت، لكن ظلّت الوجوه التي رأيت ملامح الألم عليها وبصمات الأمل التي لم تغب عن عيونها تُطاردني بشراسة، لم أستطع أن أتخلَّص من خاطر تردَّد في ذهني بقسوة، خاطر يقول: "ليتني متّ معهم لأتخلص من قسوة ذكراهم"، كأنهم ماتوا وتركوا لي ألمهم، وغصّة في حلقي، وكأن يدا تعتصر قلبي كلما زارني طيف أحدهم". ما عانى منه حسن هو أزمة نفسية شرسة تُعرف باسم "ذنب الناجين"، وهي أزمة قد تُدمِّر حياة الشخص تماما وتسلبه القدرة على العيش إن لم يُتعامل معها بفاعلية.
"كان الموت يحصد أرواح كل مَن أعرفهم، أصدقائي، وعائلتي، لم يكن بيدي حيلة ولا حل، لملمت ما يُمكنني العيش به في مكان آخر لم تَطله يد الحرب في سوريا بالخراب والتدمير، لملمت أبنائي الذين كنت أخشى وقوع مكروه لهم أكثر من خشيتي على نفسي وقررت السفر"، هكذا يقول طارق.س، اسم مستعار، الشاب السوري الثلاثيني.
سافر طارق، حاول بدء حياة جديدة على أرض أخرى ليس له بها جذور ولا ذكريات، أرض لا تتعرف على خطواته، ولا يعرف هو دروبها ولا مسالكها، فقط ليعيش ويُربي أبناءه حتى ولو بشكل آلي دون روح ولا شعور بالحياة، يقول طارق لـ "ميدان": "تُطاردني صور الراحلين، هربت أنا من الموت بينما واجهوه هم، ألتمس العذر لنفسي، فلولا الأطفال لمكثت مُنتظرا الموت، فلست أفضل ممّن رحلوا، أعرف أن هذا غير منطقي، وأن كل حي يُحب أن يحيا، لو كان الأمر بيدي لأمَّنت كل أبناء بلدي، لجعلتهم يرحلون معي لأرض أخرى يُمكنهم العيش بها دون أن يحصدهم الموت وهم جالسون في بيوتهم، لكن لم يكن بيدي حيلة، كما ليس بيدي حيلة في السيطرة على أفكاري المؤلمة وأرقي الليلي الذي لا يرحم".
في روايتها "خارطة الحب"، شخَّصت الروائية المصرية "أهداف سويف" حالة "ذنب الناجين" من خلال الاضطراب الذي عانى منه البريطاني "إدوارد"، وهو زوج بطلة الرواية آنا، الذي عاد إلى لندن بعد أداء مهمته الحربية في السودان عام 1899، التي عاين خلالها ويلات الحرب والموت والألم، تقول آنا: "عليّ أن أقولها، إدوارد زوجي تبدّل، سبعة أشهر وأنا أتتبع أخبار السودان، سبعة أشهر وأنا أتضرع إلى الله وأدعو له أن يعود سالما، والآن عاد، ولكني أكاد لا أعرفه، نحف جسده وهزل، وبدا أن الشحوب كامن تحت بشرته، لقد استقال زوجي من القيادة في الحرب، ومن حينها زاد اضطرابه واعتكف في حجرته، ورفض أن يسمح لي بالجلوس معه أو حتى أن أحضر له الشاي، مرّت 8 أسابيع على عودته من السودان، ولم يتبدل به شيء، يجلس بالساعات الطويلة في حجرة مكتبه مُشتت الذهن ضعيفا".
عندما كانت آنا تُحاول الحديث مع زوجها كان لا يرد إلا بأنه يحتاج إلى أن يرتاح ويكون بمفرده، شعرت آنا أن زوجها في قبضة قوة شريرة لا تسمح له بالتغلب على هذا المرض الروحي المُعقد، فهو لا يأكل سوى أقل القليل من الطعام، ولا يرغب في مُغادرة الغرفة، تعرف آنا أن ما يُعانيه زوجها بسبب ما رآه في الحرب، وأن هناك مخاوف مُرعبة ومُفزعة أصبحت كامنة في عقله ورابضة في روحه بسبب ما رآه، وهي المخاوف التي لم يستطع التخلُّص منها إلا بموته. (1)
ما صوّرته سويف من خلال شخصية إدوارد رُبما هو ما حاولت "يشنس كارتر"، الناجية من حادثة إطلاق النار الجماعي عام 2016 في ملهى "Pulse" الليلي في أورلاندو، فلوريدا، التعبير عنه من خلال قصيدة كتبتها أثناء تعافيها، فقد حاولت كارتر التعبير عن الآثار المُدمرة لشعور الناجين بالذنب، قائلة: "تشعر بالذنب من أنك محظوظ وأنك ما زلت على قيد الحياة، وهذا شعور ثقيل. إنه مثل وزن فيضانات المحيط الشديدة، التي لا يمكن السيطرة عليها بواسطة السدود".(2) "قد لا يقول الشخص الذي يُعاني من ذنب الناجين "ما كان يجب أن أنجو"، لكنه قد يقول "كيف مات صديقي؟"، هذا السؤال يستدعي فكرة: ولِمَ لمْ أمت أنا!"، هكذا تشرح ميدينا وولف، عضوة جمعية الاستشارة الأميركية، ذنب الناجين.
بحسب ميدينا، هناك الكثير من الأفكار المؤلمة والقاسية التي قد تُسيطر على الناجين الذين يُعانون من الذنب، ومنها: "لم يكن عليّ قبول المساعدة وهناك شخص آخر يحتاج إليها أكثر مني"، "كان الأشخاص الآخرون أكثر شجاعة عندما كنت مختبئا تحت المكتب"، "كُنت متجمدا ومشلولا، وما زلت أشعر أنني كذلك. أنا غاضب جدا من نفسي لأنني لم أستطع التحرك أو القيام بشيء آخر".(2)
جلاسر (Glaser) هي استشارية ومتحدثة في مجال الصدمات والتطبيقات السريرية ذات الصلة، تقول إن ذنب الناجين هو شعور يظهر عادة عندما يشعر شخص ما بالمسؤولية عن خسارة أو تجربة فقد أرواح مؤلمة، أو عندما يتصارع شخص ما مع أسئلة حول لماذا وكيف؟ على سبيل المثال: لماذا حدث هذا؟ لماذا كان رد فعلي هكذا؟ كيف يمكنني الاستمتاع بالحياة في حين فقد الآخرون حيواتهم؟ تُصبح هذه الأسئلة أكثر قسوة إذا اعتقد الشخص أنه كان بإمكانه فعل شيء مختلف لمنع أو تغيير النتيجة.(2)
فذنب الناجين هو شيء يختبره الناس بشكل عام عندما ينجون من موقف يُهدِّد حياتهم، وقد حدث بشكل شائع بين الناجين من الهولوكوست، كما يُمكنك أن تجده بين قدامى المحاربين، ومتلقّي العلاج من الأمراض المستعصية، والناجين من حوادث الطائرات، وأولئك الذين واجهوا كوارث طبيعية مثل الزلازل والحرائق والأعاصير والفيضانات، فهو رد فعل شائع للأحداث المؤلمة وأحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
في دراسة أُجريت عام 2018، أجرى الباحثون استطلاعا على الأشخاص الذين كانوا يتلقّون علاجا نفسيا، ووجدوا أن 90% من المشاركين الذين نجوا من حدث مات فيه آخرون أفادوا بأنهم يشعرون بالذنب.(3) كذلك تُشير نتائج دراسة أُجريت عام 2019 إلى أن 55-63.9% من الناجين من سرطان الرئة يعانون من الشعور بالذنب بسبب موت الآخرين أو استمرار ألمهم.(4)
في مقالها المنشور على "psychologytoday"، تصف نانسي شيرمان، الحاصلة على درجة الدكتوراه، ذنب الناجي بأنه يبدأ بسلسلة لا نهاية لها من "الأفكار المضادة للواقع التي كان من الممكن أن تفعلها أو كان ينبغي لك فعلها، رغم أنك في الحقيقة لم تفعل شيئا خاطئا".(5)
في الواقع، ليس من المنطقي أن يشعر شخص ما بالمسؤولية عن مصير شخص آخر، ولكن الشعور بالذنب ليس شيئا نتحكم فيه بالضرورة. ومع ذلك، فإن ذنب الناجي هو استجابة طبيعية للخسارة والفقد، وغالبا ما يكون شعورا يصعب التخلُّص منه. لكن لا يعاني الجميع من هذا النوع من الذنب، يُقال إن بعض الناس أكثر عُرضة للإصابة به، مثل أولئك الذين لديهم تاريخ من الاكتئاب وتدنّي احترام الذات. هناك أيضا عوامل أخرى تتحكم في حدوث ذنب الناجي، مثل: صدمات الطفولة، التي تتسبَّب في إضعاف جميع الدفاعات الصحية، فغالبا ما تتحوَّل الخسائر النفسية والعاطفية السابقة التي لم تُحَلّ إلى كعب أخيل عاطفي أو مناطق ضعيفة تؤثر على قدرة الناجي على التأقلم.(5)
فتتضمّن العوامل التي تزيد من خطر تعرُّض الشخص للشعور بالذنب بعد النجاة من حدث صادم ما يلي: تاريخ من الصدمة مثل إساءة معاملة الأطفال، مدى وجود مشكلات نفسية أخرى مثل القلق أو الاكتئاب، وجود تاريخ عائلي من المشكلات النفسية، عدم وجود دعم من الأصدقاء والعائلة، تعاطي الكحول أو المخدرات.
غالبا ما يُعاني الأشخاص المُصابون بذنب الناجين من أعراض أخرى لاضطراب ما بعد الصدمة، بما في ذلك:(6) استرجاع الأحداث الصادمة، هوس أفكار مُتعلقة بالحدث، التهيج والغضب، مشاعر العجز والانفصال، الخوف والارتباك، عدم وجود الحافز أو القدرة على التعامل مع الحياة، مشكلات في النوم، صداع، غثيان أو آلام المعدة، الرغبة في العزلة الاجتماعية، أفكار انتحارية. وكما هو الحال مع اضطراب ما بعد الصدمة، قد يتسبَّب ذنب الناجي في أن يرى الشخص العالم على أنه مكان غير عادل وغير آمن.
تُشير الأبحاث إلى أن العديد من الأشخاص الذين يُعانون من ذنب الناجين والأعراض الأخرى لاضطراب ما بعد الصدمة يتعافون دون علاج خلال السنة الأولى التي تلي الحدث. ومع ذلك، فإن ما لا يقل عن ثُلث الأشخاص سيستمر لديهم ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لمدة 3 سنوات أو أكثر. قد تساعد النصائح التالية الأشخاص على التعافي من شعور الناجي بالذنب والأعراض الأخرى المرتبطة بالصدمة:
اقبلْ مشاعرك:
رغم أن ذنب الناجي ليس منطقيا دائما، فإنه استجابة معروفة للصدمة. تقبّل مشاعرك واسمح لها بالظهور، وخُذْ وقتا لمعالجة الشعور بالذنب والحزن والخوف والخسارة المصاحبة لحدث صادم فُقِدت خلاله الأرواح. إذا كانت هذه المشاعر غامرة أو لا تستطيع السيطرة عليها بمرور الوقت، فمن المهم أن تطلب المساعدة.
تَواصَلْ مع الآخرين:
شارك مشاعرك مع العائلة والأصدقاء، أو إذا لم يفهم أحباؤك هذه المشاعر، فابحث عن مجموعة دعم ذات صلة، فتسمح مجموعات الدعم سواء أكانت وجها لوجه أو عبر الإنترنت للناجين بالتواصل مع الآخرين والتعبير عن أنفسهم وطرح الأسئلة.
استخدِم تقنيات اليقظة:
يمكن أن تكون تقنيات اليقظة مفيدة للأشخاص الذين عانوا من الصدمة، خاصة أثناء سيطرة ذكريات الماضي أو فترات المشاعر الشديدة والمؤلمة، من التقنيات التي يُمكنك استخدامها: التركيز على التنفس.
مارِس الرعاية الذاتية:
قد يمكن للناجين الاستفادة من ممارسة الأنشطة التي تُشعرهم بالرضا، مثل: القراءة، فترات من الاستراحة والتأمل، كتابة اليوميات، القيام بأي عمل فني أو يدوي، الاستماع إلى الموسيقى الهادئة. من المهم أيضا أن يقوم الشخص بما يلي: الحصول على قسط كافٍ من النوم، تناول نظام غذائي متوازن، ممارسة الرياضة بانتظام. أثناء التعافي، يجب الحرص على تجنُّب المخدرات والكحول، لأن الأشخاص المصابين باضطراب ما بعد الصدمة مُعرَّضون بنسبة أكبر للإصابة باضطراب تعاطي المخدرات.
افعلْ شيئا جيدا للآخرين:
قد يشعر الأشخاص الذين ينجون من حدث صادم بتحسُّن إذا ساعدوا الآخرين بطريقة ما، فمثلا يُمكنهم تثقيف الناس حول التجربة التي مَرّوا بها، التطوع في جمعية خيرية محلية، تقديم تبرع خيري، تقديم الدعم للآخرين.
لكن إذا قُمت بهذه النصائح وما زلت تشعر أنك لا تستطيع التأقلم بمفردك، أو إذا كانت الأعراض شديدة أو مستمرة، فمن المهم طلب العلاج المتخصص.(6)
يجب على الشخص أن يُفكِّر في المساعدة المهنية إذا شعر بالذنب الشديد الذي يعوقه عن ممارسة حياته، أو أنه لا يستطيع التعامل مع مُلاحقة ذكريات الماضي أو الأحلام المزعجة، هنا يجب التفكير في الحصول على مساعدة احترافية، مثل التحدث إلى طبيب أو معالج نفسي متخصص في الصدمات.
يمكن أن يساعد العلاج الأشخاص على البدء في استعادة السيطرة على حياتهم وتجربة الراحة والتخلص من الأعراض، يجب على الناجين الذين لديهم أفكار حول الموت أو الانتحار أو حاولوا الانتحار بالفعل التماس العناية الطبية الفورية، فتُشير الأبحاث إلى أن النجاة من حدث صادم أدّى إلى فقدان الأرواح يمكن أن يزيد من خطر الانتحار.(7)
من الأساليب التي يمكن أن تكون فعّالة بشكل خاص في علاج ذنب الناجين العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، فمن خلال هذا العلاج، يقوم المرضى مع المعالج باستكشاف الأفكار السلبية التلقائية التي تساهم في الشعور بالذنب. يمكن أن يساعد فحص هذه الأفكار، واستخراج الأفكار غير الواقعية واستبدالها بأفكار أكثر واقعية في التخفيف من الشعور بالذنب ولوم الذات.(8)
______________________________________________________
المصادر
- رواية خارطة الحب
- Relieving the heavy burden of survivor guilt
- Survivor Guilt in a Posttraumatic Stress Disorder Clinic Sample
- Survivor guilt: The secret burden of lung cancersurvivorship
- What Everybody Should Know about Survivor’s Guilt
- What is survivor’s guilt?
- Survivor Guilt in a Posttraumatic Stress Disorder Clinic Sample
- Understanding Survivor’s Guilt