شعار قسم ميدان

القناعة.. هكذا تُعلّم طفلك الاكتفاء بما يمتلك

ميدان - طفل أطفال جشع طمع

"عندما نُقرر عَدم التركيز على ما ينقُص حياتنا، أو ما لا يوجد ضمن الموجودات الحالية التي نتمتع بها بين أيدينا، فنحن بذلك نُقرر أن نستمتع بالجنة على الأرض!"

(سارة بريثناش، الوفرة البسيطة)

   

كثيرة هي المُغريات التي تُحاصرنا كل يوم، شوارع مليئة بالمقاهي والمحال التجارية، متاجر تعرض أجمل الثياب وأحدث الأجهزة الإلكترونية كل يوم، باعة يتصلون بك لإغرائك بآخر العروض على اشتراكات الإنترنت والخدمات الأخرى، مربعات دعائية تقتحم شاشة هاتفك لآخر العروض السياحية التي ستُعجبك، ومُغريات كثيرة نكاد نجزم أنها ليست بمقدور الجميع، بل وبعيدة عن مرمى نظرهم أو طموحهم. ولأن من خصائص كل مجتمع التفاوت المادي بين طبقة وأخرى، فإنه من المؤكد وجود طبقات قادرة على الاستجابة لكل هذه المُحاولات التي تدفعك للإنفاق على رفاهية قد لا تكون بحاجة إليها. ومن المؤكد أيضا اندماج أفراد هذه الطبقات والتقاؤهم في أماكن عديدة لا يُشترط أي شرط مادي للوجود فيها، على سبيل المثال: المدرسة.

     

   

يجتمع في المدرسة العديد من الطلبة الذين يأتون من طبقات متقاربة ولكنها متفاوتة في الوقت نفسه، ويستطيع الطالب أن يُميز التلميذ المرفه من غيره المحروم، أو أن يحكم على وضعه الذي يفتقر إلى الكثير مقارنة مع زميله الذي يملك الكثير من الأشياء. في حلقة سابقة من البرنامج الإذاعي الذي تُقدمه الإعلامية والمُستشارة التربوية همسة يونس "أطفال دوت كوم"، تحدثت عن إدارة مشكلات الإخوة في البيت في فترة الإجازة الصيفية -التي تُصادف هذه الأيام-، وكانت أسئلة المتابعين كثيرة، باغتها سؤال لم يرتبط -فعليا- بموضوع الحلقة، فكان: "بما أنك تتحدثين عن الإجازة الصيفية، كيف لنا كأهل بأوضاع مادية عادية أن نُوفر لأطفالنا رفاهية إجازة الصيف؟ أليس من العدل أن يتمتع الفقراء بالصيف أيضا؟". كانت إجابة الأستاذة همسة تتمحور حول فكرة واحدة؛ القناعة، إن اقتنع الأهل أساسا أن ما بين أيديهم يكفيهم، فهذا سيغرس في نفوس أطفالهم الرضا والاستمتاع بما يملكون غير آبهين بما لا يملكون. وبعيدا عن النقاشات النظرية التي قد لا تنعكس على سلوك أطفالنا، فكيف يُمكن غرس القناعة في نفوس أطفالنا الذين يغرقون في مُغريات هذا العصر؟

   

مُكتسبة أم ذاتية؟

"هُناك ثلاث طرق لتعليم الطفل؛ الأولى، على سبيل المثال، الثانية، على سبيل المثال، أما الطريقة الثالثة فهي على سبيل المثال"

(ألبرت شويتزر، طبيب وفيلسوف ألماني)

   

في حوار لـ "ميدان" مع الدكتور والمستشار الأسري خليل الزيود، وبسؤاله عن أصل القناعة إن كانت ذاتية في تكوين الطفل نفسه أم أن للأهل دورا في إكساب أطفالهم مزايا هذه الصفة الحميدة، يقول: "القناعة مُكتسبة، وهي التي يُمكن تعريف مفهومها بأنها الرضا بما هو متاح. ويبدأ الوالدان في تعزيز هذه القناعة عند أبنائهم من قبل مجيئهم، وذلك كون هذين الوالدين لديهما القناعة أساسا بأنهما مناسبان لبعضهما بعضا، وأن هذا الابن القادم إليهم هو أمانة يجب الانتباه لها، وأنه يحتاج إلى أن يكونا أنموذجين مُتحركين لتعزيز وغرس بعض الصفات التي تكون القناعة إحداها". وفي مقال (1) للكاتبة والمُحاضرة الأميركية ريتشيل كروز، والتي تلفت النظر إلى موقف حدث في صغرها يتجلّى فيه معنى أن يكون الأهل بوصلة الصفات، تقول إنه في وقت الاحتفال بأعياد رأس السنة كانت تسكن بالقرب منهم أمٌّ مُنفصلة برفقة ثلاثة أطفال، وكان والدا الكاتبة يعلمان بأن هذه الأم غير قادرة -ماديا- على جلب الهدايا لأطفالها والاحتفال بهذه المناسبة، فقررا أن يجلبا الهدايا ويقدّماها لهذه العائلة. أثناء التسوق، وفي عمر صغير كما تشير الكاتبة، فعلت كما يفعل الأطفال وطلبت لعبة لها بما أنهم في مكان يعج بالألعاب، وبما أنهم أيضا يشترون الهدايا للجيران.

      

الدكتور والمستشار الأسري خليل الزيود (مواقع التواصل)
الدكتور والمستشار الأسري خليل الزيود (مواقع التواصل)

     

رفضت الأم، وذكّرت ابنتها بالألعاب الشبيهة التي تملكها، وذكّرتها أيضا بأنهم جاءوا لشراء الهدايا لجارتهم ولم يكن من المخطط شراء الهدايا لغيرهم، وثبتت الأم على موقفها رغم محاولات طفلتها تغيير رأيها وشراء لعبة هي فعلا تملك مثلها في المنزل. واستكمالا لهذا، ذَكر الدكتور الزيود لـ "ميدان" بعض الأخطاء التي يرتكبها الأهل والتي بدورها تجعل الطفل أنانيا، غيورا، غير راضٍ مهما مَلَك: 

 

إعطاء الطفل كل شيء: أن يستجيب الأهل لمحاولات الطفل الحثيثة في إقناعهم بشراء أو عمل شيء هو غير ضروري إطلاقا أو ليس في حاجة إليه.

* عدم توضيح الاحتياجات الأساسية: أن يُقدموا للطفل احتياجاته دون التوضيح له لِمَ يحتاج إليه أساسا أو لِمَ قُدّم له، وهذا بدوره لن يجعل الطفل قادرا على تقدير ما يملك.

* عدم توضيح سبب المنع: أن يُمنع عن الطفل بعض الأمور دون تقديم أسباب واضحة للمنع، وهذا سيُشتّت الطفل ولن يجعله قادرا على تمييز سبب الرفض.

* التذمر الدائم بين الوالدين: الحوارات المُتشائمة أمام الطفل والتي تشكو مسؤوليات الحياة وذكر تقصيرهم في بعض الأمور أمام الطفل، هُنا ينشأ طفل غير راضٍ عما هو فيه.

   

   

إشارات تفضح عدم قناعة الطفل

"من لم يكتفِ بما لديه، فلن يكفيه ما سيحصل عليه"

(سقراط)

     

لا شك هنا أن تربية وإنشاء طفل قنوع راضٍ عما بين يديه وما هو مُتاح رغم كل التأثيرات الخارجية هو تحدٍّ للأهل، ولا يمكنها أن تكون مهمة سهلة. واستكمالا مع الدكتور خليل الزيود فإنه يُوضح لـ "ميدان" الإشارات والعلامات التي يُبديها الطفل والتي يمكن للأهل أخذها في عين الاعتبار لتقييم وتصويب وضع طفلهم، وبعض هذه الإشارات تكون على شكل:

 

* أسلحة مُحرجة للأهل: غياب فكرة الحوار من قِبل الطفل حينما يطلب ما يريد، فهو يلجأ للصراخ والبكاء والعناد غير المبرر.

* غياب مُفَضَّلاته: إن سعي الطفل إلى الحصول على الشيء فقط لأنه رآه في يد الآخرين هو إشارة إلى غياب ما يُحب. على سبيل المثال: ينتقل مباشرة إلى لعبة أخرى أو شيء آخر كتقليد لا كرغبة أو تفضيل.

* إتلاف ما بيد الآخر: يميل الطفل غير القنوع إلى إتلاف ما بيد الآخرين -حتى لو كان الأم أو الأب-، وعند النقاش أو الحوار لا يُبدي أي إجابة سوى العناد السلبي.

     undefined

   

يتبادر إلى ذهن القارئ بعد استعراض هذه النقاط أن الأطفال عادة يتشابهون في ردات الفعل، وأن طفلهم قد لا يكون هذا الطفل الذي وصفته هذه النقاط باعتباره غير راضٍ أو غير قنوع. ولمعرفة ما إذا كان الطفل فعلا قد اكتسب هذه الصفة من قِبل أهله دون قصد منهم، وجّه الدكتور خليل الزيود بعض النصائح التي ستُفيد الأهل للتعامل مع طفلهم فيما لو كان غير قنوع، أو لتصويب بعض الأخطاء إن وُجدت. يتخيل الدكتور الزيود شكلا خُماسيا، تعمل أضلاعه الخمس على تنشئة أطفال يعون الوضع المادي للأهل، ويُفرّقون بين حاجياتهم الأساسية وبين الرفاهية غير المنتجة:

     

* الضلع الأول: أن يتعلم الطفل كيف يدخر المال ويُوفره، وإخباره بأنه سيتم شراء ما يرغب به من أمور غير أساسية من مدخراته الشخصية، مثل الألعاب والحلويات وغيرها.

* الضلع الثاني: توضيح أن احتياجات الأم أو الأب الخاصة تكون من مدخراتهم الشخصية وليس من ضمن الميزانية المخصصة لمصروفات البيت.

* الضلع الثالث: مناقشة طلب الابن معه بتوجيه بعض الأسئلة، مثل: ما الحاجة إليه؟ كم يبلغ ثمنه؟ وما الفائدة منه؟ وهل هناك بدائل أقل تكلفة؟

* الضلع الرابع: تقديم خيارات للطفل تُلبي المطلب نفسه، واحترام خياره حتى ولو كان عكس رغبتنا.

* الضلع الخامس: فتح المجال للأبناء لمناقشة الأهل حول مشترياتهم، ليحكموا هم أيضا على قناعة أهلهم أم أنهم يلجأون للرفاهية غير المنتجة.

   

undefined

   

في نهاية حواره مع "ميدان"، يقول الدكتور الزيود إن الطفل قد لا يفهم مصطلحات مثل: أنانية، قناعة، رفاهية، ولكن مع الوقت، وبالتركيز على مضمون هذه المفاهيم، سنكون قد ساعدنا أطفالنا على ترتيب أولوياتهم التي ستتضح معهم كلما زاد وعيهم بمسؤولياتهم تجاه أنفسهم هم أيضا. ونكون أيضا قد علّمناهم معنى الامتنان لما هو متاح، ففي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018، أُجريت دراسة (2) من قِبل مجلة "Journal of Positive" وجدت أن المراهقين الذين حرصوا على تدوين وكتابة الأمور التي يمتنّون لوجودها في حياتهم بشكل يومي كانوا أكثر قناعة وأقل مادية وأكثر ميلا للتبرع، واقترح الباحثون إضافة هذه العادة لتكون في جدول يوميات أطفالنا، بحيث يُصبح الامتنان أمرا روتينيا يُهذّب نظرتهم للحياة.(3)

   

خارطة مالية واضحة المعالم

"كُن مُمتنا لما تملكه الآن، سينتهي بك الأمر بجني أكثر منه. أما إذا لم تكُن مُقتنعا بما تملكه، فلن يكفيك أي شيء"

(أوبرا وينفري)

   

وكذلك في حوار قصير لـ "ميدان" تُضيف الإعلامية والمستشارة التربوية همسة يونس أن الوضع المادي للعائلة لا يجب أن يكون سرا أو أمرا لا يُكشف عنه أمام الأبناء، بل على العكس، يجب مُصارحة الأبناء بوضع خارطة أمامهم واضحة المعالم لكل ما تمر به العائلة ماليا. يجب إشعار الطفل أنه جزء من العائلة يعي تماما ما تمر به، وأن له دورا فاعلا إذا فَهم ما تمر به الأحوال من حوله. هذا ما تؤكده الكاتبة بيث كوبلينر في كتابها "اجعل طفلك عبقريا في المال (حتى لو لم تكن كذلك)"، وتُعلق في إحدى مُحاضراتها على أن الأهالي باتوا أكثر انفتاحا على مُناقشة أبنائهم بأمور مثل: الجنس، المُخدرات، الكحول، ولكن موضوع المال ما زال ضمن المُحرمات التي لا تُناقش مع الطفل، وهذا من وجهة نظرها خاطئ، ولكنها أيضا تُقدم عدة أمور تخص المال لا يجب مُشاركتها مع أطفالك: (4)(5)

    

    

* راتبك الشهري: لا داعي من مشاركة طفلك بالأرقام المُحددة لراتبك الشهري، ولا مشكلة أيضا من مشاركته إن أحببت. ولكن مهما كان الرقم الذي ستُشاركه فهو كبير جدا بالنسبة لطفلك وسيبني في مخيلته فكرة مفادها أن لديك ما يكفي لسد كل طلباته المهمة وغير المهمة.

   

* مَن مِن الوالدين يجني أكثر: إذا كان كلا الزوجين يعملان، فيجب تجنب مناقشة من يجني أكثر، لا حاجة إلى مشاركة أرقام محددة خاصة مع الأطفال الصغار. هذا يُرسل رسالة إلى أدمغتهم أن أحد الوالدين يُساهم أكثر من الآخر.

 

* آراؤك الشخصية في أقربائك من ناحية المال: لا يجب أن تُشارك رأيك بالعم أو الخال أو أي فرد من العائلة بأنه مُبذر، بخيل، وغيرها من الأوصاف. هذا يجعل الطفل يعتقد أن العلاقات العائلية ترتكز على الصفة المالية لكل فرد.

 

* كم كلفتك "الهدايا": سوف تتشوه فرحة العطاء إذا أفصحت عن تكلفة ما قدمت. يجب أن يتعلم الطفل أن الهدية لا تُحدد قيمتها بتكلفتها، وأنه يجب أن يكون ممتنا وشاكرا للهدايا مهما قلّت تكلفتها.

 

* لا تتعامل مع أن الهدية عقاب/مكافأة: حيث وجدت دراسة (6)(7) في عام 2014 من جامعة ميسوري، كولومبيا، أن الأطفال الذين استخدم آباؤهم تلك التقنيات كانوا أكثر عرضة للاعتقاد بأن النجاح في الحياة يتم تحديده بنوعية وعدد الأشياء المادية التي يمتلكها الفرد، أو أن الحصول على أشياء معينة سيجعلهم أكثر جاذبية.

 

* قلقك بشأن تكاليف دراستهم المستقبلية: إن فكرة دفع تكاليف الجامعة للعائلة التي تملك أكثر من طفل هي فكرة مثيرة للفزع. هناك فرق بين الحديث عن الجامعة وتكاليفها، وبين الحديث بقلق مُشع. تجنب الحديث السلبي بشكل مفرط حول مدى كلفة الكلية/الجامعة، فمن السهل أن يُساء تفسير ذبذباتنا من قِبل ذريتنا، وقد يستنتجون أن الكلية تُشكّل عبئا كبيرا لا يريدونك أن تتحمله.

  

كتاب
كتاب "اجعل طفلك عبقريا في المال (حتى لو لم تكُن كذلك)"، بيث كوبلينر (مواقع التواصل)

     

جاء في حكم وقصص الصين القديمة أن ملكا أحب أن يكافئ رجلا فقال له: امضِ في الأرض وازرعها، فحيث تصل مشيا فهو كله ملكك مهما بلغت مساحته. فرح الرجل وانطلق مسرعا مُهرولا زارعا الأرض بسرعة وبجنون. سار مسافة طويلة وأحس بالتعب وفكر في العودة للملك حتى يُكافئه، ولكنه فكر في بذل الجهد الأكبر وقطع مسافة أكبر، ومشى، وبعد تفكير وجهد فكر بالعودة، ولكنه غيّر رأيه وقرر المشي أكثر حتى تاه ولم يعُد -وفي رواية أخرى يُقال إنه مات من التعب-. لم يعرف هذا الرجل معنى أن يكتفي، ولم يقتنع بحد الكفاية. وأمثالنا العربية لا تخلو من ذكر القناعة حيث وصفتها بأنها كنز لا يَفنى. التربية وغرس القيم ليست بالمهام السهلة، ولكنها بطريقة أو بأخرى تستحق التعب، وتلعب دورا مهما في رسم شخصيات فلذاتنا مُستقبلا، بل وتُسهّل علينا التعامل معهم حاضرا.

المصدر : الجزيرة