ذنب الأمومة.. ما لا تحكيه النساء عن تجارب الأمومة المؤلمة

"أشار ابني إلى تمثال ضخم يتواجه على قاعدته تمساح وسمكة قرش، ثم سأل:
"إذا تعارك التمساح مع سمكة القرش، من سينتصر؟"
"لا أعرف، من سينتصر في رأيك؟"
"الديناصور طبعا"
…
إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الديناصور "طبعا"، إنه "الذنب"".
(كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها)، إيمان مرسال
يبدو الشعور بالذنب شعورا لصيقا بتجربة الأمومة، قد يبدأ مع الولادة وأحيانا أثناء الحمل، وبينما تتصدر وسائل الإعلام صور براقة تطفح بالبهجة والمحبة لأطفال ضاحكين بخدود وردية وملابس نظيفة مرتبة وأمهات أنيقات بوجوه مبتسمة ونظرات مليئة بالفخر، تقبع الأمهات الحقيقيات بعيدا عن الصورة، مختبئات خلف جدران البيوت، مع قوارير الرضاعة والحفاضات والصراخ والغازات وانعدام النوم. تحمل ملابسهن مزيجا من روائح الحليب والحفاضات.
تصارع الأم عشرات الأسئلة التي يطرحها عقلها في كل لحظة بداية من إدراكها لحدوث الحمل، حول علاقة الجسد بالجنين الذي ينمو بداخله، هل هو مؤهل بما يكفي لحمله؟ تتزايد الأسئلة شراسة وعنفا بعد الولادة، هل ينمو الرضيع بما يكفي، هل ثدياي صالحان حقا لمنحه ما يحتاج إليه من غذاء أم أنه يحتاج إلى تدخل الرضاعة الصناعية؟ هل تعقيم قوارير الرضاعة بالمياه المغلية كافٍ أم أن علينا شراء المعقم الكهربائي؟ لماذا تأخر الصغير في الحبو والجلوس، ربما نسيت تناول أقراص الكالسيوم في أحد أيام الحمل؟ أم أنني لم أعرضه بما يكفي للشمس بعد ولادته؟
هل يحتاج إلى الالتحاق بروضة الأطفال للتفاعل مع أطفال بمثل عمره أم أنني أتخلى عنه؟ كيف يمكنني أن أشعر بتلك الراحة حين يبتعد عني لساعات؟ هل ألحقه بالمدرسة أم أختار التعليم المنزلي؟ هل سيتمكن من النجاة؟ هل أنا أم جيدة كما ينبغي وهل استطعت تسليحه بما يكفي من الخبرات للنجاة من قسوة العالم دون أن أحمله ميراث مشاكلي وعقدي الخاصة؟ هذا إذا نجا من حوادث السير وخاطفي الأطفال والأمراض المفاجئة والمتحرشين وحوادث الإرهاب وحرائق القطارات. طبقا لإحصاء أجرته شركة "NUK" لمنتجات العناية بالأطفال، فإن 87% من الأمهات تعرضن للشعور بالذنب في وقت ما، و21% منهن يسيطر عليهن الشعور بالذنب طوال الوقت.(1)
يشبه الشعور بالذنب ألغاما متناثرة في طريق أمومة المرأة، ورغم السير الحذر لا بد لكل امرأة تقريبا من التعثر بأحدها لينفجر في وجه أمومتها، والكثير من المحظوظات يتعثرن بها جميعا، ومن بين هذه المصائد:
هل يوجد نموذج مثالي للأمومة؟ دليل مستخدم يقدم للمرأة الطريقة المثلى للتعامل مع أطفالها ومع علاقتها بهم وعلاقتها بهويتها الجديدة كأم؟ في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" تتناول إيمان مرسال هذا النموذج المثالي أو ما أطلقت عليه "أمومة المتن"، النموذج الذي يطرح الأمومة عبر خطابات الأديان والفلسفة والقيم الاجتماعية باعتبارها علاقة عطاء فطرية تخلو من الصراع والتوتر، تمنح فيها الأم أطفالها الحب والحماية بلا شروط ولا حدود. وينبع الشعور بالذنب من تلك المسافة الفاصلة بين مثالية هذا النموذج وفردانية تجارب الأمهات الشخصية بكل ما فيها من إخفاقات يستبعدها المتن العام إلى هامش جانبي يحاول كتم صوته.
"عندما يبدو كلّ شيء مُثقلا بالميراث الثقافي، كيفَ لي أنْ أعرف ما إذا كان ما أشعر به وأفكّر فيه طبيعيا؟
ومن قال إنّه ليس إملاء مفروضا عليَّ من الوسط الذي أعيش فيه؟"
(حليب أسود: إليف شافاق)
تكرس وسائل التواصل الاجتماعي اليوم هذه الصورة النموذجية للأمومة المثالية، في وقتنا الحالي لم تعد الأم مطالبة ببذل أفضل ما في وسعها، بل صارت مطالبة بأن تكون "الأفضل"، وكل من لا تستطيع أن تحقق ذلك تعتبر نفسها فشلت.(2) تحاصر وسائل التواصل الاجتماعي الأم بصور وقصص نجاح أمهات أخريات، بيوت نظيفة لامعة، يشاركن صور أنشطة أطفالهن التعليمية والفنية وإنجازاتهم الرياضية. صارت الأمومة أشبه بحقل للتنافس، حلبة سباق بين الأمهات، وكل أم تمسك بهاتفها لتلتقط صورا لانتصاراتها وتبثها عبر وسائل التواصل لتغذي الشعور بالذنب عند الأخريات. تقول إحدى الأمهات:
"أعد لابنتي علبة طعامها (اللانش بوكس) اليومية على عجالة، تحتوي على شطيرة الجبن وقطع الفواكه وقطع الخضراوات، وتعود بمعظم محتوياته آخر اليوم دون أن تمس. على شاشة هاتفي تحاصرني صور علب الطعام المثالية التي أعدتها أمهات أخريات، تحتوي شطائر على شكل وجوه ضاحكة معدة من خبز مخبوز بالمنزل، وقطع فواكه منسقة بعناية ومقطعة على شكل قلوب وحيوانات صغيرة، وجبات إفطار يستغرق إعدادها وقتا وطاقة لا أمتلكهما. يشعرني هذا بالإحباط والفشل، هؤلاء لسن نجمات ولا متخصصات، إنهن أمهات مثلي، فلماذا لا يمكنني أن أنجح مثلهن؟ أشعر دوما بأني أم فاشلة. ربما لهذا لا تتناول ابنتي طعامها، فعلبة الطعام لا تحتوي على ما يكفي من الوجوه الضاحكة والحيوانات الصغيرة".(3)
"أتذكر اللحظة الأولى التي رأيت فيها ابني بعد الولادة، هذا الذي انتظرته لتسعة أشهر كاملة، انتظرت هذه اللحظة كي تغمرني المحبة التي طالما قرأت عنها، لكي أستشعر رابط الأمومة القوي الذي سمعت أنه سينشأ منذ اللحظة الأولى، لكنني لم أشعر بشيء، تمنيت أن يحمله شخص آخر عني ويتركني كي أنعم ببعض الراحة".(4) من الصعب على المرأة/الأم أن تتغاضى عن الضغوط المجتمعية وما تحمله من تصور سابق لعاطفة الأمومة باعتبارها محبة ورعاية وتضحية غير مشروطة، بينما تواجه بعض النساء صراعا وتوترا في علاقتها بأبنائها، لكن هذه المشاعر لا تجد مساحة للتعبير عنها في المتن الأمومي العام. في كتابها سابق الذكر تنطلق إيمان مرسال كشاعرة من المجاز، من أبيات الشاعرة أنّا سوير التي تطالعنا في صفحة الكتاب الأولى:
"أقول: أنت لن تهزميني
لن أكون بيضة لتشرخيها
في هرولتك نحو العالم،
جسر مشاة تعبرينه
في الطريق إلى حياتك
أنا سأدافع عن نفسي"
تمسك هذه الأبيات بصراع وجود مسكوت عنه بين الأم وأطفالها، يمتد إلى صراعها مع هويتها الجديدة كأم/بيضة يشرخها أبناؤها في طريقهم نحو العالم. يرجع دونالد وينيكوت طبيب الأطفال والمحلل النفسي هذا التناقض في المشاعر والذي تميل فيه كفة الكراهية أكثر من الحب إلى تفسير بيولوجي يربط هذه المشاعر بكون الجنين يُشكّل خطرا على حياة الأم خلال فترة الحمل وعند الولادة والتي تبدو وكأنها معركة بين جسد الأم والجنين.(5) وبينما قد يستمر تأثير هذا الصراع البيولوجي على مشاعر الأم فقد يُشكّل رافدا جديدا من روافد الإحساس بالذنب. وربما تستطيع الأم تجاوز هذا الشعور لكن لا يعني هذا أن بإمكانها الالتزام طوال الوقت بصورة الأم الراعية المضحية والراسخة في المتن العام وهو ما يجعلها تشعر بالذنب حين تستقطع بعض الوقت لنفسها.(6)
في تاريخ التحليل النفسي يقابلنا نموذج صارخ على لوم المرأة التي لا تمنح أطفالها ما يكفي من الحب. ففي الورقة البحثية التي قدمها ليو كانر عام 1943، والتي عرف فيها التوحد للمرة الأولى، أشار إلى أن التوحد قد يكون ناتجا عن فقدان الدفء في العلاقة بين الأطفال والأمهات والآباء، وهو ما كان تمهيدا لصياغة نظرية الأم الباردة أو الأم الثلاجة (REFRIGERATOR MOTHERS)، والتي تقترح أن الأطفال المصابين بالتوحد "قد تعرضوا من البداية لعلاقة باردة مع الآباء والأمهات بها نوع من العناية الميكانيكية التي تهتم بالاحتياجات المادية فقط، والتي تترك الطفل متجمدا داخل ثلاجة.
ويصف التوحد باعتباره انسحابا من مثل هذا الموقف للبحث عن الراحة في الانعزال". وفي ظل غياب تفسير طبي حيوي للتوحد دافع متخصصو التحليل النفسي عن هذا التفسير للتوحد باعتباره نتاجا لحرمان الأطفال من فرصتهم في التواصل بشكل سليم. وظلت هذه النظرية متبناة لفترة طويلة من قِبل المؤسسة الطبية، وعلى الرغم من الظهور الخجل لبعض التفسيرات المضادة لهذا المفهوم الخاطئ فإنه ظل مسيطرا حتى ظهرت الاكتشافات الحديثة للأساس الجيني للتوحد مما أدى إلى رفض هذه النظرية والتي وضعت الآلاف من الأمهات تحت وطأة الشعور بالذنب.(7)
لكن هل يعني اكتشاف الأساس الجيني للتوحد على سبيل المثال انزياح الإحساس بالذنب عن كاهل الأمومة؟ أم يظل موجودا مع شعورها بالمسؤولية الجينية، ومسؤولية جسدها عن كل ما يصاب به أبناؤها، ومدى صلاحية هذا الجسد لحمل الأطفال؟ وهو السؤال الذي تطرحه العديد من النساء منذ بداية الحمل. تكتب إيمان مرسال:
"بمجرد تأكدي من الحمل الذي أردته بكامل إرادتي، لم أشعر بالفرح الذي توقعته؛ سيطر عليّ طوفان من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالح للقيام بهذه المهمة. كنتُ في الثانية والثلاثين، واكتشفتُ فجأة أنني لم أهتم بصحتي أبدا، أن الجسد كان مجرد وعاء لما أظنه نفسي، آلة لا تُطالب بشيء ومع ذلك فمن المنتظر منها الاستمرار في الخدمة. كنت قد بدأت التدخين بشراهة قبل عشر سنوات، عشتُ نمط حياة شبه بوهيميّ حيث لا يحتاج الجسد إلى وجبات منتظمة ولا إلى ساعات محددة من النوم. هذا، بالإضافة إلى تاريخ من أدوية الاكتئاب والمنوّمات والمسكّنات وغيرها مما وصلت إليه يديّ. هذا هو تاريخ جسدي قبل الحمل، أما بمجرد حدوثه، فقد ظهرت مؤسسات شتّى تعمل ليلا نهارا على تنويري بكل المخاطر الممكنة التي قد يسببها هذا التاريخ الشخصيّ للجنين. الشعور بالذنب كان أسبق في أمومتي من كل المشاعر الأخرى".
(كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها)
في مصر، هناك مثل شائع عن القسوة: "زي القطة اللي بتاكل عيالها"، في إشارة إلى قيام بعض القطط بأكل صغارها، إلا أن هذه الظاهرة لا تقتصر على القطط، فقد تظهر في أنواع أخرى كالثعابين والخنازير والهامستر وبعض أنواع الطيور والأسماك، تعرف هذه الظاهرة بالكانيبالية البنوية (Filial cannibalism)، ولا يعرف الباحثون السبب الدقيق وراء هذه الظاهرة، لكن أحد التفسيرات يعيد هذا السلوك إلى تقدير الأم لفرص نجاة صغيرها، فإذا كانت ضعيفة أو منعدمة تعمد إلى قتله وأكله والحصول على الطاقة والغذاء وكذلك توفير الوقت والطاقة لكي تُعيد التكاثر.
"في كتابه "الجين الأناني"، يصف ريتشارد داوكنز الحروب اللانهائية التي على الجين أن ينتصر فيها من أجل الحفاظ على النوع. البقاء ليس للأصلح فقط، بل للأكثر أنانيّة وقدرة على كسب معركة الوجود ضد الجينات الأخرى. لا توجد تضحية غير مشروطة؛ إنكار الذات عند داوكنز هو وسيلة للحفاظ على الجينات، الاستثمار في الجين مرهون بإثبات قدرته على الاستمرار وحده بعد ذلك"
(كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، إيمان مرسال)
بينما اعتمدت النساء في الماضي على التراث الشفهي المتناقل المتوارث في تربية ورعاية الأبناء، صار لدى أمهات اليوم طوفان من المعلومات والمعارف، حيث يمكن للأم الحائرة اليوم استحضار مئات الإجابات لأي سؤال يخطر ببالها، فبضغطة زر ستجد بين يديها مئات الآراء وعشرات النصائح والنظريات والأبحاث التي تناقض نتائجها بعضها البعض، وكأن المعارف المتاحة كابوس خلق مساحة دائمة من عدم الثقة في خياراتها لطفلها، وخنق الكثير من فرص التجارب الفردية، ومساحات التجريب والخطأ.(8) مع نمو الطفل وتحوله إلى مراهق متمرد يكبر الشعور بالذنب ويتحول إلى أسئلة، بينما تحتفظ الأمهات بيقين حول مسؤوليتهن المطلقة عن سعادة وسلامة أبنائهن، وتتصاعد الأسئلة بشكل أعمق وأكثر حدة إذا واجه الأبناء صعوبات خاصة خلال فترة المراهقة، سواء صعوبات اجتماعية أو عقلية أو سلوكية، وتتساءل الأم ما الخطأ الذي ارتكبته؟ ما الذي كان علي أن أفعله لأحميهم؟(9) (10)
يُمثّل موضوع عمل المرأة الأم واحدا من مصائد الذنب الأشهر. في كتابها "أم الأسئلة" تكتب ريبيكا سولنيت: "لفترة وجيزة في العالم الغربي كانت إدارة المنزل أسهل، فلم تكن الكثيرات من نساء الطبقة الوسطى جزءا من الاقتصاد المأجور، واستمر هذا لعدة عقود، لكن لا يمكننا القول إنه بدأ منذ خمسة ملايين عام.. فهناك العديد من الأدلة الأنثروبولوجية التي تتعارض مع فكرة الرجل "الصياد" والمرأة التي تنتظر عودته في المنزل ليجلب الطعام… علينا أن نتوقف عن الحديث عن المرأة التي تنتظر رجلها في المنزل، حيث لم تكن المرأة تنتظر ساكنة وإنما كانت منشغلة بالزرع والحصاد، وحمل المياه والحطب ورعاية الماشية. وفي العالم الصناعي اليوم، لم يعد هذا هو المعتاد، فالنساء في الولايات المتحدة الأميركية يُشكّلن نحو 47% من العمالة المأجورة، بينما يُشكّلن نحو 70% من العمالة المأجورة في المملكة المتحدة".(11)
تقع الأم فريسة التمزق بين العديد من الرغبات والاحتياجات، ما بين احتياجها إلى قضاء وقت أطول لرعاية طفلها، والرغبة في العودة إلى العمل وإثبات أنها ما زالت قادرة على أن تكون الشخص نفسه دون تقصير وأن الأمومة لم تؤثر عليها.
في حسابها الشخصي على إنستغرام نشرت سيرينا ويليامز نجمة التنس الأميركية والمصنفة الأولى في العالم سابقا منشورا أفصحت عبره عن مشاعر الذنب التي تنتابها: "لم يكن الأسبوع الماضي سهلا عليّ، لم أواجه أمورا شخصية صعبة فقط، بل شعرت بأني لم أكن أما جيدة.. لقد قرأت العديد من المقالات التي تتحدث عن إمكانية استمرار مشاعر اكتئاب ما بعد الولادة حتى 3 سنوات إذا لم يتم التعامل معها. لقد تحدثت عن مشاعري مع أمي وأخواتي وأصدقائي، وقد أخبروني أن هذه المشاعر طبيعية. أنا أعمل كثيرا وأتمرن وأحاول أن أبذل أقصى ما بوسعي كرياضية. لكن هذا يعني أنني على الرغم من وجودي اليومي معها فإنني لم أكن موجودة في حياتها بما يكفي.
أغلب الأمهات تعاملن مع هذه المشاعر، سواء كن أمهات عاملات أم لا، فإن إيجاد توازن مع وجود الأطفال في حياتهن يعد فنا خالصا. أنتن البطلات الحقيقيات، وأنا هنا لأقول لكن: إذا واجهتن يوما أو حتى أسبوعا صعبا، فلا بأس، أنا أيضا أواجه هذا!! وهناك دائما فرصة جديدة في الغد".
"يمكنك أن تقول إنه بالنسبة للمرأة هناك جملة بسيطة وصحيحة: "أنا أتألم إذن هو موجود".