في الشتاء تحلو القراءة، خاصة حينما تترافق الكتب مع الشاي الساخن أو بعض الخلطات العشبية العربية المميزة، لكن المشكلة التي نواجهها حينما نحاول أن نبحث عن كتاب للقراءة هي انتشار ترشيحات الروايات في أوساط منصات التواصل الاجتماعي بفارق شاسع مقارنة بالكتب الأخرى التي تتناول موضوعات علمية أو فلسفية أو اجتماعية، لهذا قمنا باقتراح مجموعة من الكتب يمكن لك أن تقضي معها الشتاء كاملا. ولا نقصد هنا الشتاء تحديدا والذي يستمر مدة ثلاثة أشهر، وإنما -في العموم- فترة الطقس البارد إلى المعتدل والتي تبدأ من أواخر نوفمبر/تشرين الثاني مرورا بكامل الشتاء وصولا إلى شهرَيْ أبريل/نيسان ومايو/أيار حينما تبدأ البرودة بالزوال، وهي فترة كافية لإتمام 5-10 كتب، أكثر أو أقل، حسب قدراتك وجهدك وانشغالك.

  

تأتي هذه الترشيحات مشروطة بعدة عوامل، أولها أن تكون ضمن أي نطاق غير الروايات، كما قلنا، ثم أن تكون مكتوبة باللغة العربية، ترجمة أو تأليفا، ليسهل على نطاق واسع من القرّاء قراءتها، وأن تكون بسيطة قدر الإمكان، تصلح للمبتدئين، كذلك أن تتنوع بين الضخامة والأحجام الصغيرة، وأخيرا أن يتمكّن القارئ من إيجادها بسهولة. من هذه الشروط تنطلق قائمتنا التي تحوي عشرة كتب، ليست بالضرورة أفضل الكتب أو أبسطها، لكن يعدك الكاتب أن تمنحك هذه الكتب قدرا لا بأس به من اتساع الأفق.

   

  

    

لعدة أسباب، من المهم أن تتأمل هذا الكتاب، فهو أولا يتحدث في تاريخ الصراعات الاستخباراتية، وهو أمر ضروري لكن رغم ذلك لا تنتشر الكثير من الكتب عنه في الوطن العربي، وإن حدث ووجدت أحدها فإنه لا شك سيتحدث عن صقور ودببة وثعالب وأسود ونسور الاستخبارات بطريقة الروايات والأكشن والتي تجد قبولا لدى بائعي الجرائد، أما هذا الكتاب فمن تأليف فرد كابلان، وهو صحافي أميركي متخصص في شؤون الأمن القومي. الأمر الثاني هو أن الكتاب يتحدث في نقطة مهمة أصبحنا، أنا وأنت وصديقك الذي تتحدث معه عبر واتساب الآن، جزءا من هذه الحروب الإلكترونية التي بدأت -على عكس مما يمكن أن تتصور- قبل أكثر من نصف قرن، بل ولعبت دورا كبيرا في حرب الخليج مثلا، بالتالي فإنه أصبح أمرا ضروريا أن نتعلم عنه. أما ثالثا فلها علاقة بطبيعة السرد، الكتاب -باختصار- شائق ودسم ومكتوب بعناية لقارئ غير متخصص.

  

  

   

أما ديفيد جريبر، أستاذ الأنثروبولوجيا بكلية لندن للاقتصاد، فقد قرر -في مغامرة ثرية- أن يحكي تاريخ العالم كاملا من خلال فكرة الائتمان، إنه واحد من أمتع الكتب التي يمكن أن تقرأها لسببين رئيسيين، الأول هو طريقة السرد الرائعة التي تتخذ طابعا حكائيا مميزا يسهّل عليك ضخامة الكتاب (أكثر من 700 صفحة)، والثاني هو أن تلك الطريقة في تقديم التاريخ للجمهور ممتعة لا تدفع للملل، يتنقل الكاتب في تاريخ الاقتراض خلال 5000 سنة مضت، والمميز أنه يعرض لذلك التاريخ من جانب إنساني، تتدخل فيه السايكولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ والاقتصاد والسياسة معا لصنع عمل متميز وسهل الفهم وعميق في الوقت ذاته.

  

  

    

حصل كلٌّ من أبهيجيت بانيرجي وإستير دوفلو على ثلثي جائزة نوبل في الاقتصاد للعام الحالي عن تمكُّنهم من تطوير نمط تجريبي صارم لفحص مشكلات الفقر العالمي، والتي خرجت لتقول إننا كنا -كما يبدو- نفهم الفقراء بشكل خاطئ، نحاول مساعدتهم بطريقتنا، لكننا عقلانيون في تصوراتنا عنهم، نعتقد أن إعطاء الفقير بعض المال ثم ملاحظته وهو يهرع لإنفاقه بدلا من استثماره يعني أنه لن يتغير وسيظل فقيرا، إلا أنه لو قررنا ارتداء حذاء الفقير نفسه لوجدنا أن هناك مبررا لفعلته، وهو أن التوتر بسبب الفقر ضغط عليه فعلّمه -بالطريقة الصعبة- أن ما يأتي يمكن أن يذهب بسرعة، فلننفقه حالا. كتاب "اقتصاد الفقراء" يحكي تجربة هذا الثنائي اللطيف، وهو سهل الفهم، مليء بالحكايات الممتعة، لكن أهم مزاياه أنه يدعو حقا للكثير من التأمل حول طبيعة البشر، طبيعتنا أثناء تعاملاتنا العادية كشراء اللبن من المتجر أو فقط اتخاذ قراراتنا بحلق الشعر خلال أيام لأنه أصبح طويلا كفاية.

  

  

   

في هذا الكتاب، للدكتور أتول جواندي من مستشفى "بيرجام آند ومين" في بوسطن، لا بد أنك ستجد شيئا مختلفا تماما عما كنت تظن، فطبيب يتحدث عن إطالة العمر لا بد أن يشرح لك آخر التقنيات التي ساعدتنا كبشر في فهم أسباب الشيخوخة ومحاولة عكس اتجاهها أو على الأقل الحفاظ على أفضل وضع ممكن بحيث نظل بدرجة مناسبة من الحيوية إلى أعمار طويلة، لكنه لا يفعل ذلك، بل يسأل: ماذا لو أن المريض لا يريد ذلك؟ ماذا لو أن الطب لا يترك له المساحة الكافية للتصرف كما يرى في أمور حياته؟ ماذا لو كان ما يرغب به الناس متجاوز لمجرد الحفاظ على الحياة؟ كتاب ممتع، أسلوب الكاتب في الحكي بديع، لا شك أنه -من أول لحظة- سيدفعك للكثير من التأمل، ومع الترجمة الممتازة لا بد أنك ستنهيه بسرعة.

  

  

  

أيُّ شخص لا يفهم الأعداد سيواجِه صعوبات في العالم الحديث، هكذا يقول بيتر هيجنز، مؤلف الكتاب وأستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس وأحد أشهر مُبسِّطي الرياضيات في العالم، لكنه ربما لم يكن دقيقا حتّى حينما تحدّث عن العالم الحديث فقط، لأن الرياضيات حقا مهمة في كل وقت، بل وتؤثّر بشكل مباشر في دخلك، لذلك -من حين إلى آخر- لا بد أن تعاود النظر إليها وتأملها، وفي هذا الكتاب القصير والمُبسَّط -نحو مئة صفحة- يُقدِّم الكاتب جرعة ممتعة من عوالم الأعداد، بداية من تاريخ قصير لها ثم انطلاقا إلى أنواعها وعلاقاتها المباشرة وغير المباشرة بحياتنا، الترجمة جيدة ولغة الكتاب سهلة.

   

  

   

قبل فترة قصيرة شغل ظهور النسخة العربية من هذا الكتاب الكثير من القراء، وكان لنا في "ميدان" دور في ذلك، فقد أفردنا تقريرا لعرضه، الكتاب هو أحد أهم إصدارات 2019 المترجمة لا شك، كاتبته هي إليزابيث كولبرت الصحافية الحاصلة على جائزة "البوليتزر" عنه، وهو لا شك تحفة فنية في هذا النطاق، لغة الكتاب قصصية هادئة وممتعة، ويناقش قضية ربما لا تظن أنها قريبة منك أو من اهتماماتك، فمعدلات انقراض الكائنات الحية حاليا تتعدى القيم الطبيعية بأضعاف الأضعاف، لقد مرت الأرض بخمسة انقراضات سابقة في نصف مليار عام، لكن هذا هو الوحيد الذي سبّبه النشاط الإنساني، الحديث في أمور كهذه ليس مجرد رفاهية ثقافية، وإنما يؤثر بقوة في حياتنا كبشر، فالتنوع الحيوي هو درعنا في مواجهة التغيرات الكوكبية القاسية، وإذا فقدناه سنصبح في وضع شبيه بفيلم "بين النجوم" (Interstellar)، لا نمتلك إلا محصول الذرة.

   

 

  

أهم ما يميز هذا الكتاب هو أن كاتبته -الدكتورة ليزا راندل التي تدرّس فيزياء الكونيات والجسيمات في هارفارد- تحكي عن آخر ما توصل إليه العلم في هذا النطاق من خلال حكاياتها الخاصة، المناطق التي سافرت لها والناس الذين تشاركت معهم أحاديثها وخطواتها في تعلُّم وتدريس تلك العلوم المعقدة، يُضفي ذلك على كتابها الكثير من الأُلفة وكأنك تجلس وتستمع لأحدهم وهو يحدِّثك عن "كيف يحب عمله" و"ما هو الممتع فيه"، وذلك هو سر روعة هذا الكتاب الذي يلقى القليل من الاهتمام للأسف منذ صدوره مترجما بالعربية قبل عدة سنوات، الكتاب يناقش كذلك كيف تمكّن الأسلوب العلمي في التفكير من مساعدتنا في الطَّرْق على أبواء السماء كلها، وصولا إلى لحظة ميلاد هذا الكون.

  

  

    

حسنا، هذا كتاب مختلف قليلا عما سبق، فهو أولا أشبه ما يكون بمجموعة من المقالات الطويلة التي تُناقش جوانب متعددة لموضوع واحد فقط، وثانيا فإنه يتحدّث في موضوع قد لا تجد في نفسك انجذابا له، لكن بغض النظر عن أهمية أن السمنة قد أصبحت من أهم المخاطر التي تواجه البشرية وبالتالي فإن التعلم عنها يُعَدُّ ضرورة أساسية لحياة عادية لك ولمن تحب، فإن ما تتعلّمه من هذا الكتاب ليس تحديدا عن السمنة نفسها، ولكن عن قدر تعقد بعض الموضوعات التي تظنّها للوهلة الأولى عادية وبسيطة لأن "أحدهم أكل كثيرا فأصبح بدينا، وانتهى الأمر"، لكنه لم ينتهِ، الأمر دائما أعقد من ذلك، يتطرّق الكتاب، وهو لمجموعة من المحررين بإشراف جينا تشيليا وألكسندرا جونسون، لجوانب عدة متنوعة لم تكن لتظن أن للسمنة علاقة بها، كالأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع. يمكن لك أيضا الاطلاع على كتاب آخر وهو "Mindless Eating: Why We Eat More Than We Think" لبراين وانزيك من جامعة كورنل للمزيد من التعمق في الأمر الخاص بالعلاقة المثيرة جدا للانتباه بين البشر والطعام.

  

  

  

في العالم المعاصر، فإن هذا الكتاب ضرورة لا شك. يتلاعب القلق بحياتنا كأننا -بكل بساطة- عُملة يُقلِّبها بين أصابعه، خاصة مع اضطرابات سياسية واجتماعية جمّة تحيط بنا ولا تترك الكثير من الوقت لحياة هادئة. في تلك الرحلة المبسَّطة يعمل كلٌّ من موشي ريدنز وجيرالد ماثيوس -وهما من أعلام بحوث القلق- على تعريفك بالجوانب النفسية والعصبية والاجتماعية المتعلِّقة بالقلق، وهذا مهم وسيساعدك بشكل كبير على استكشاف ذاتك، صدر الكتاب مترجما في يونيو/حزيران 2016 وهو النسخة العربية من (Anxiety 101) ضمن سلسلة شهيرة للمبتدئين تُقدِّمها دار نشر سبرنغر الولايات المتحدة، الكتاب ترجمته سهلة ودقيقة، وميزته الرئيسة هي أنه إصدار حديث ومقصود به جمهور العامة من غير المتخصصين، لغة الكتاب علمية ورصينة لكنها سلسة وسهلة.

  

  

    

لو أردنا أن نؤلِّف رواية عن حياة ماري كوري فلا بد أننا سنسميها "تاريخ موجز للحزن"، إلا أن تلك المعاناة التي لا يمكن أن تتصوّر حتّى كيف تحمّلتها كانت السبب في خروج واحدة من أعظم نساء العلم، والتاريخ ككل، هنا تود لو تسأل: كيف فعلتها، كيف تجاوزت كل ذلك الوجع والإحباط المحيط بها؟ في هذا الكتاب تدخل بنا باربرا جولد سميث، الكاتبة الشهيرة الحاصلة على الكثير من الجوائز، إلى عوالم ماري كوري الخاصة فتجيبنا عن ذلك الشيء الذي ترسّخ في روحها فباتت -مع كل ركلة من العالم- أكثر قوة، الكتاب ذو لغة بسيطة، مقسّم إلى فصول قصيرة يسهل هضمها وإتمامها، والترجمة مقبولة، على الرغم من كل ذلك الحزن المحيط بحياة كوري، فإن كتابا عنها هو كتاب عن الأمل، لكنه نوع خاص من الأمل لن تراه كثيرا في كتب التنمية البشرية، نوع عملي.

    

    

حسنا، انتهت ترشيحات هذا العام، اختر منها ما ترى أنه يُثير اهتمامك بشكل أكبر، كن صيدلانيا أو معلما أو طبيبا أو أي شيء، لكن يمكن دائما أن تنهل من طيف واسع ممتد من المعارف البشرية الغاية في الروعة والقدرة على الإبهار، إنها بانتظارك في الكتب، والنتائج تستحق، لكن فقط كن جادا تجاه رغباتك في الاستمتاع بالتعلم عن هذا الكون، هذا العالم، عنك كإنسان. الشتاء على الأبواب، ضع لنفسك خطة بخمسة كتب منها على الأقل، وامض في طريقك.