شعار قسم ميدان

تجاهلك في الرد على الرسائل أصبح أمرا طبيعيا!

midan -whats
مقدمة المترجم
تحاكي الرسائل الرقمية سرعة المحادثة الحقيقية، لكن كثيرا ما يحب الناس فيها قدرتهم على إيقافها. يتناول المقال بشكل أساسي الجانب النفسي والاجتماعي لوسائل التواصل الفورية ويعرج على الوهم بالمحادثة الحقيقية الذي تخلقه هذه الوسائل.

           

نص التقرير
السمة الأساسية لكل محادثة هي توقع الرد، فإن لم يكن هناك رد ستتحول إلى مجرد مونولوج (حديث طويل يحتكر فيه شخص الكلام). في الواقع وعلى الهاتف تأتي الردود عادة بسرعة مذهلة: بعد إنهاء أحد الأطراف لحديثه يرد الآخر بسرعة متوسطة تقدر بـ 200 ملي ثانية فقط.

             

في العقد الأخير، تطورت الاتصالات أو على الأقل اقتربت من المحاكاة الفعلية لسرعة المحادثة الطبيعية (حتى يزرعوا شرائح إلكترونية تحول الأفكار إلى نصوص في أدمغتنا). يتطلب الأمر أكثر من 200 ملي ثانية لتأليف رسالة نصية، لكنها لا تدعى رسائل "فورية" هكذا اعتباطا: هناك تفاهم يقضي بأن كل رسالة ترسلها يمكن الرد عليها فورا.

          

لكن هناك أيضًا تفاهم يقضي بأنه ليس عليك الرد على أي رسالة تستقبلها فورا، بنفس القدر الذي صممت به وسائل الإتصال هذه لتكون فورية، إلا أنه يسهل تجاهلها، ونحن نتجاهلها بالفعل. تنتظر بعض الرسائل النصية ساعات وأيام قبل أن نرد عليها، وتمكث رسائل البريد الإلكتروني في صندوق الوارد إلى درجة أن عبارة "أعتذر عن الرد المتأخر" تحولت من اعتذار مخلص إلى عبارة افتتاحية.

               

90% من أصحاب الهواتف المحمولة يحملون هواتفهم معهم على الدوام، و76% منهم نادرا ما يغلقونها أو لا يغلقونها على الإطلاق
90% من أصحاب الهواتف المحمولة يحملون هواتفهم معهم على الدوام، و76% منهم نادرا ما يغلقونها أو لا يغلقونها على الإطلاق
         

لا يحتاج الناس إلى التكنولوجيا الأنيقة ليتجاهلوا بعضهم البعض بالطبع: يتطلب الأمر القليل من الجهد لتجنب الرد على رسالة ما أو البريد الصوتي أو فتيات الكشافة اللواتي جئن يقرعن الباب. بحسب تعبير نعومي بارون عالمة اللغويات بالجامعة الأميركية والتي تدرس اللغة والتكنولوجيا "لقد انتقدنا وتجاهلنا الناس بأشكال عديدة من قبل". لكن الأمر المختلف الآن على حد قولها هي "الوسائط غير المتزامنة في جوهرها والتي تعمل بشكل متزايد كما لو كانت متزامنة".

      

النتيجة هي الشعور بأن الجميع بإمكانهم الرد عليك مباشرة، إذا أرادوا ذلك، والقلق الذي يتبع هذا الأمر إن لم يردوا. لكن معضلة عصر الاتصالات هي أن هذا القلق هو الثمن الذي ندفعه مقابل الراحة والعملية. والناس سعيدون بهذه المقايضة لاكتساب القدرة على الرد وقتما شاؤوا.

       

في حين تعرف من الناحية المنطقية أن هناك العديد من الأسباب المعقولة التي تجعل أحدهم لا يرد على الرسالة النصية أو البريد الإلكتروني، لأنه مشغول على سبيل المثال أو لم ير الرسالة بعد أو يفكر فيما يود قوله ــ لا يبدو الأمر على هذا النحو في مجتمع يبدو فيه الجميع محدقًا في شاشة الهاتف المحمول طوال الوقت. أظهر بحث لمركز بو أن 90% من أصحاب الهواتف المحمولة يحملون هواتفهم معهم على الدوام، ويقول 76% منهم إنهم نادرًا ما يغلقونها أو لا يغلقونها على الإطلاق. أظهرت دراسة صغيرة نشرت في 2015، أن الشباب صغار السن يتفحصون هواتفهم المحمولة بمعدل 85 مرة في اليوم الواحد. أضف إلى ذلك التسامح الاجتماعي المتزايد تجاه استعمال الهاتف المحمول أثناء تواجدك مع أناس آخرين، ومعقولية التوقع بأن الأمر لن يستغرق من المستقبل سوى ثوان معدودة لرؤية أية رسالة.

         

تقول شيري توركل مديرة مبادرة الذات والتكنولوجيا بمعهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا "تخلق للناس بيئة يشعرون فيها أن بإمكانهم الرد على الرسائل مباشرة، لكن الناس لا يفعلون ذلك. وهذا الأمر أكبر مسبب للقلق"، حيث أن ما يستحث القلق هو أن وسائل التواصل الكتابية اليوم مصممة لمحاكاة المحادثات الواقعية لكن فيما يتعلق بالتوقيت فقط. إذ تسمح بتبادل الحوار جيئة وذهابًا لكن دون سياق لغة الجسد، أو تعبيرات الوجه، أو التغيرات الصوتية. من الصعب على سبيل المثال معرفة إذا كان أحدهم شعر بالاشمئزاز من اختيارك للكلمات وبالتالي تصحيح الأمر في الزمن الواقعي، أو محاولة شرح نفسك بشكل أفضل. حين يكون الشخص أمامك "يكون بإمكانك رؤية وقع كلماتك على وجهه" بحسب توركل.

         undefined

      

في الشهر الماضي ذاعت قصة نشرت على مجلة النيويوركر بعنوان "محب القطط"، تحكي قصة إمرأة شابة تخوض غمار علاقة عاطفية فاشلة مع رجل التقته في قاعة السينما التي تعمل بها. في هذه القصة يخرجون في موعد واحد فقط؛ لكنهم يتعرفون على بعضهم من خلال الرسائل النصية. عندما تنتهي العلاقة بشكل بشع، تكشف عن مدى هشاشة فقاعة التوقعات العاطفية أمامة إبرة الواقع وكذلك مدى ضعف وسائل الإتصال الرقمية في محاولة فهم شخص آخر.

       

في مقابلة صحفية قالت مؤلفة القصة كريستين روبنيان، إن القصة استلهمت من "الأدلة الغربية والواهية التي نستخدمها للحكم على الأشخاص الذين نلتقيهم صدفة خارج شبكاتنا الاجتماعية، سواء على الإنترنت أو على أرض الواقع. حتى بالنسبة للأشخاص الذين نعرفهم بالفعل، أصبحنا نعتمد بشكل متزايد على وسائل التواصل منزوعة السياق. هو ما يضع حملا ثقيلا على الكلمات نفسها (وبعض الأشكال التعبيرية المسماة بـ "الإيموجي") لنقل المعنى المراد. وتحمل كل رسالة وكل توقف بين الرسائل أهمية كبيرة. تقول توركل "تصبح الرسائل النصية علامات على الصخور يجب تحليلها وبذل الجهد في نيل مرادها".

      

ليس من السهل دائمًا إدراك المعنى الذي أراده شخص ما عبر استخدام إيموجي معين، أو انتظار ثلاثة أيام قبل الرد عليك. للأشخاص مفهوم مختلف عن المدة الزمنية الملائمة لانتظار الرد. فبحسب ما كتبته ديبورا تانن عالمة اللغويات بجامعة جورج تاون في مجلة الأتلانتيك فإن الإشارات المرسلة بطرق الاتصال الرقمية التي يستعملها الناس أو "الرسائل الضمنية" التي ترافق الرسائل النصية، يمكن إساءة فهمها بسهولة. 

         

"لطالما ناءت الكائنات البشرية بعبء خلق المعنى وتأويله، لأن هناك العديد من الخيارات التي يمكن الاختيار من بينها حين إرسال الرسائل مثل المنصة التي نستخدمها وكيف نستخدمها، ونعتقد بوجود معنى ما خلف هذا الاختيار. ولكن لأن التكنولوجيا وسهولة استخدامها جديدة وسريعة التغير، أصبح لدى الناس، حتى الأصدقاء المقربين والأقارب مفاهيم مختلفة عن كيفية استخدامها. ولأن الرسائل الضمنية تُوارى بدلًا من التصريح بها، يمكن بسهولة تأويلها خطأ أو عدم إدراكها على الإطلاق".

       

في بعض الأحيان لا يرد الناس عمدا لإيصال رسالة مفادها أنهم منزعجون، أو أنهم لا يريدون الاستمرار في هذه العلاقة
في بعض الأحيان لا يرد الناس عمدا لإيصال رسالة مفادها أنهم منزعجون، أو أنهم لا يريدون الاستمرار في هذه العلاقة
     

يستدعي غموض الرسائل الضمنية آلاف الرسائل النصية الأخرى سنويا، حيث يلجأ الناس إلى أصدقائهم لمساعدتهم في تأويل ما قصده شريكهم العاطفي بعبارة معينة أو أن صمتا رقميا بلغ أسبوعا يعني أنه قد تم التخلي عنهم. (سخرت النيويوركر من هذا التحليل التعاوني للرسائل عبر فيديو يصور مجموعة من الناس يجتمعون في غرفة تشبه غرفة التخطيط للحروب للإجابة على سؤال "هل كان موعدا غراميا؟") الخصائص التي قصد بها جلب المزيد من الوضوح لوسائل التواصل الرقمي ــ مثل مؤشرات قراءة الرسالة أو الفقاعة الصغيرة في iMessage التي تدل على أن الطرف المقابل شرع بالكتابة (والتي تسمى "مؤشر الوعي بالكتابة" على ما يبدو) غالبا ما تجلب المزيد من القلق، لأنها تقدم أدلة حاسمة على تجاهل الشخص الآخر لك أو أنه بدأ بالرد ثم قرر تأجيل الأمر أكثر.

    

لكن لا تعني معرفة الناس بمدى القلق الذي يسببه انتظار ردود الآخرين على ما يعتقدون أنها رسائل فورية- أنهم لا يتجاهلون بدورهم رسائل الآخرين. في بعض الأحيان لا يرد الناس عمدا لإيصال رسالة مفادها أنهم منزعجون، أو أنهم لا يريدون الاستمرار في هذه العلاقة. تقول توركل إن استغراق وقت طويل في الرد على الرسائل هي طريقة لتأسيس الهيمنة داخل العلاقة، وذلك بجعل نفسك تبدو أكثر انشغالا وأهمية من الرد على الرسائل. لكن في كثير من الأوقات يحاول الناس فقط إدارة القدر الهائل من الرسائل والإشعارات التي يتلقونها. في 2015 كان الأميركي الطبيعي يتلقى 88 رسالة عمل على البريد الإلكتروني يوميا، وفقا لشركة أبحاث السوق راديكاتي، لكنه يرسل 34 رسالة عمل فقط في اليوم. لأنه من لديه الوقت للرد على 88 رسالة في اليوم؟ ربما لا يرد أحدهم لأنه أدرك أن إزعاج الإشعارات يؤثر سلبا على إنتاجيته، لذا يتجاهل هاتفه لينجز بعض العمل.

        

أجد نفسي أؤجل أو أماطل في الرد حتى على الرسائل المهمة والتي أرغب وأنوي الرد عليها. كان علي أن أصنع علامة حمراء فاقعة معنونة بـ "يحتاج ردًا" على رسائل البريد الإلكتروني للتعامل مع مشكلتي الشخصية في الرد على الرسائل المتأخرة. عادة ما أقرأ الرسالة وأقول "سأرد عليها لاحقًا" ثم أنسى أمرها تماما. الذاكرة العاملة "قائمة المهام الدماغية" بإمكانها أن تحمل القليل في وقت واحد وعندما تختلط الإشعارات بقوائم التسوق ومهام العمل تتسرب أحيانا قافزة خارج الذاكرة.

      

تقول توركل "في كثير من الأحيان ما يحدث هو أن الناس يديرون خمس محادثات في نفس الوقت، ولا يكون بإمكانهم حقا التفاعل والحضور مع خمسة أشخاص بنفس القدر، لذا يلجؤون إلى عملية اختيار ويحددون أولوياتهم وينسون. دماغك ليس وسيلة مثالة لتحليل الرسائل النصية والتعامل معها. لكن يتم تأويل الأمر كما لو أنها محادثة حقيقية، ويتأذى الناس بسبب ذلك"

       undefined

          

مع ذلك، بالرغم أن الاتصالات النصية الفورية قد تسبب القلق والصعوبات الجمة إلا أن الناس يفضلونها. يقضي الأميركيون وقتا أكثر في إرسال الرسائل النصية بدلًا من الحديث على الهاتف، والرسائل النصية هي الوسيلة الأكثر استخدامًا للتواصل عند الأميركيين تحت سن الخمسين. بالرغم من أن الرسائل النصية تحظى بشعبية عالمية، تعتقد بارون من الجامعة الأميركية أن تفضيل وسائل التواصل التي يمكن تجاهلها بسهولة هو سلوك أميركي. تقول "لدى الأميركيين تهذيب أقل بشكل عام في تواصلهم من كثير من المجتمعات الأخرى. المشكلة الثانية هي الشعور الحقيقي بالقوة. أظن أننا أصبحنا مهووسين بالقوة وليس بالتحكم فقط".

       

في مسح أجرته بارون عامي 2007 و 2008 ضم العديد من الطلاب في عدة دول من بينها الولايات المتحدة، قال الناس إن أكثر ما يحبونه في هواتفهم هو قدرتهم على التحكم. قالت امرأة أميركية إن الأمر المفضل بالنسبة لها "حصولها على تواصل مستمر وثابت متى ما أرادت ذلك (وبإمكانها إغلاقه إذا أرادت ذلك)". تقول توركل "ما رأيته في هذه البلاد ولا أدري إن كانت سمة قومية أم لا هو أن الناس ينتظرون حتى الوقت الذي يعتقدون فيه أن لديهم القول المثالي، كما لو العلاقات يمكن إدارتها عبر كتابة الأشياء المثالية. وأظن أن هذا أمر ندفع لقاءه ثمنا باهظا".

          

في استطلاع بارون، ذكر الناس أيضا أنهم يشعرون أنهم واقعون تحت سيطرة هواتفهم ــ شاعرين بالرثاء للمدى الذي أصبحوا يعتمدون فيه على هواتفهم، وكيف يشعرهم التواصل المستمر بأنهم ملزمون بالرد. لكن الرسائل النصية والبريد الإلكتروني لا تخلق التزاما بقدر المكالمات الهاتفية أو المحادثات المباشرة وجها لوجه. عندما سئل شباب صغار السن عن سبب كراهيتهم للمكالمات الهاتفية، عبروا عن نفورهم من مدى "تسلطها" وامتناعها عن تحميل العبء لشخص آخر. الرسائل النصية الفورية تخلق ستارا دخانيا من الإنكار الظاهري إذا لم يرد الشخص الرد مباشرة، وهو ما قد يكون جيدا للمختبئ ومزعجا ومرهقا للطالب.

         

أكثر ما وفره عصر التواصل الفوري هو القدرة على التعامل مع المحادثات بشروطنا الخاصة. بإمكاننا الرد مباشرة، أو تأجيلها ليومين، أو عدم أخذها في الحسبان على الإطلاق. بإمكاننا إدارة حوارات مختلفة في نفس الوقت. قد نعتذر عن عدم الرد على رسالة نصية قائلين "عذرا كنت في الخارج مع صديق" وقد نعتذر لأصدقاء خرجنا معهم قائلين "عذرا علي الرد على هذه الرسالة النصية سريعا". في الوقت الذي أصبحت فيه هذه الأمور اعتيادية، نشأت بيئة لا نشعر بالراحة فيها إلا عبر المطالبة بفتات الوقت من الأشخاص الآخرين خشية أن نصير ملزمين بإيلائهم انتباهنا الكامل وغير المحدود.

 _______________________________________________________

       

مترجم عن: ذا أتلانتيك

المصدر : الجزيرة