يحيا الفرد ويسقط المجتمع.. المسيرة المظلمة للفردانية في الغرب

في مقارنةٍ عَقَدَها الأكاديمي الفرنسي "برتران بادي" بين المجتمع السياسي الإسلامي التقليدي في العصور الوسطى والمجتمع الغربي الحديث، توصل في نهايتها إلى خلاصة مهمة في فهم طبيعة التناقضات البنيوية التي سادت في كلا المجتمعين. فبينما كان التوتر الإسلامي بين الشرعي/المثالي/الديني والواقعي/السياسي هو المحرك الأساسي للتاريخ السياسي الإسلامي التقليدي، كما جرى في الصراعات المتكررة على طبيعة السلطة والشرعية السياسية طوال التاريخ الإسلامي، كان التوتر بين الجماعة والفرد هو جوهر التحديث والعلمنة التي شكلت المجتمع الغربي الحديث.
من خلفية معرفية وتحليلية مختلفة، يتفق عالم الاجتماع البولندي "زيغمونت باومان" مع برتران في أن تطور نموذج الاجتماع الغربي هو مزيج من فكر محافظ يتحدث عن الوحدة السياسية والجماعية ودمج الأفراد داخل جسد اجتماعي واحد له رأس وقيادة واضحة، ونزعة فردانية تحررية تحتفي بحرية الفرد واستقلاله من سطوة الجموع والسلطة، وأن الفرد وحده هو الذي يُمكن الوصول إلى معرفته، ويمكن أن يكون موضع تأمل مشروع ومُثمر عند تنظيم المدينة والنظام السياسي. إلا أن الأهم في الاتفاق بين باومان وبرتران هو أن النزعة الفردانية، التي بدأت على هامش الحداثة الغربية، مثَّلت التوجه الأكثر صعودا واستمرارا طوال التاريخ الغربي الحديث، حتى سادت متن الحداثة الغربية بشكل شبه كامل.
بحسب باومان، فتاريخ الحداثة الغربية هو تاريخ صعود النزعة الفردانية في مجتمعات الغرب، وصولا إلى ما يسميه باومان بمجتمع الأفراد، أي أنها العملية الاجتماعية الأكثر استمرارا منذ بدء التاريخ الأوروبي الحديث وصولا إلى اللحظة المعاصرة. فما قصة الفردانية الغربية؟
الإصلاح الديني.. انقسام الداخل والخارج
ترسخت أسس الفردانية الحديثة مع إدراك الانفصال بين داخل المرء وخارجه. صار الأفراد يؤمنون بأن لهم هوية حقيقية أو أصيلة مخبأة في ذواتهم، وأنها على نحوٍ ما متناقضة مع الدور الذي يحدده لها المجتمع المحيط. ويُعطي مفهوم الفردانية الحديث قيمة فائقة للأصالة الداخلية اعتمادا على مصداقية الفرد في التعبير عن ذاته، وبذلك ينحاز المفهوم في كليته إلى جانب النفس الداخلية، وليس الخارجية.
بحسب الأنثروبولوجي الفرنسي "لويس دومون"، وُلدت الفردانية الحديثة عبر حركة الإصلاح البروتستانتي، وأعطاها الراهب الأوغسطيني "مارتن لوثر" تعبيراتها الأولى. مارتن لوثر، الذي تلقى تعليما لاهوتيا تقليديا، وحصل على منصب الأستاذية في جامعة "فيتبرغ" حيث قرأ وفكَّر وتصارع مع نفسه الداخلية طوال عشر سنوات، جرب علاجات التنسك وإماتة الجسد التي أوصت بها الكنيسة الكاثوليكية، قبل أن يدرك أنه عاجز عن رشوة الله أو مداهنته والالتفاف حول مفهوم الخطيئة. فهم لوثر أن الكنيسة لا تركز في عملها إلا على الشخص الخارجي، وذلك بواسطة الاعتراف بالإثم والكفارة والصدقة وتبجيل القديسين. ولم تُحدِث أيّ من هذه الممارسات المجتمعية العامة فارقا ملموسا في صراع مارتن لوثر الوجداني، لأن النعمة الإلهية والقبول الإلهي لا يسبغهما الله على عباده إلا كفعل حب حر.

قادت تلك التجربة مارتن لوثر لاكتشاف العمق الأخلاقي لداخل الإنسان، وهو يعد من أوائل المفكرين الغربيين الذين بلوروا "النفس الداخلية" بوصفها مفهوما ومقولة أخلاقية ودينية في الغرب المسيحي، مانحا إياها قيمة أعلى من قيمة الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا. سرعان ما أخذت كتابات مارتن لوثر تشير إلى الطبيعة المزدوجة للإنسان، الداخلي الروحي والخارجي الجسدي. ولأن لا شيء خارجي يؤثر في الاستقامة الدينية بصدق، فإن داخل الإنسان فقط هو الذي يقبل الإحياء والتجديد والتطهر كأفعال حب أصيلة وحرة.
صار هذا الإيمان بجدارةِ داخل الإنسان وحده على الفوز بالقبول والحب الإلهي ركنا مركزيا في العقيدة البروتستانتية الجديدة التي يعدّها البعض فاتحة العصر الحديث. فقد قوَّض مارتن لوثر بضربة واحدة علة وجود الكنيسة الكاثوليكية، وإجراءات الضبط الخارجي وتطويع الجسد التي رعتها الكنيسة، وصارت الكنيسة -بحسب لوثر- حاجزا بين الإنسان المشتاق لرضا الإله والحرية والاتساق مع العالم. كان اكتشاف مارتن لوثر الأعمق والأكثر جذرية هو أن الكنيسة بكل طقوسها وأعمالها التي تركز على تشكيل الإنسان الخارجي غير ضرورية، وأن الأهم هو الفرد واتساقه مع ذاته ومع حقيقة الوجود ومعناه.
لاحقا أثبت مارتن لوثر وأتباعه أنهم أبعد ما يكونوا عن مجموعة مراهقين يستطيع المجتمع والكنيسة إخضاعهم لسلطانهما، فقد بات لزاما على المجتمع أن يتكيف مع المتطلبات الداخلية للفرد المؤمن. كان هذا التحول في بواكير التاريخ الغربي الحديث ثوريا وتأسيسيا إلى حدٍّ لم يكن يتخيله مارتن لوثر نفسه في أكثر أحلامه تفاؤلا.
علمنة الفردانية.. من القبول الإلهي إلى القبول العام
بقي لوثر بعيدا جدا رغم ذلك عن الشكل المعاصر للفردانية، صحيح أنه احتفى بحرية النفس الداخلية بوصفها مصدرا للأصالة والأخلاق والحرية، لكن تلك النفس الداخلية كانت أحادية البُعد، همها الأول والأخير الإيمان الديني والاتساق مع الحقيقة الإلهية للعالم. انحصرت الحرية بالنسبة إلى مارتن لوثر في حرية اختيار الفرد لله أو رفضه بالكُلية، ولكن لم يكن للمرء حرية في اختيار هويته الجنسية أو السياسية مثلا، أو حرية الانتماء لعائلة أو مؤسسة أخرى. بعبارة أخرى، لم يواجه لوثر "أزمة معنى"، وهو أمر لم يتخيل حدوثه، فقد رفض لوثر الكنيسة الكونية الكاثوليكية، لكنه تَقبّل الحقيقة المسيحية تقبُّلا كاملا.
بيد أن المعنى الأهم الذي لم يفرِّق بين ما دعا إليه لوثر وبين الفهم المعاصر للفردانية، هو أن ذاته الجوانية لم تَسْعَ إلى اعترف عام وعلني بهويتها المكتشفة حديثا. دخل لوثر فعليا في صراع مع الكنيسة لمحاولة تأسيس علاقة خاصة بين داخل الإنسان وربه بعيدا عن سلطة رجال الدين، ساعيا عبر صراعه مع الكنيسة إلى تأسيس مفهوم جديد للقبول الإلهي ولقبول النفس وتحقيق السعادة الشخصية. ومع ذلك، فإنه رسّخ التمييز بين داخل الإنسان وخارجه كحيّزَين منفصلين، وصار بالإمكان ملء الفجوة بأشكال حرية داخلية وفردانية جديدة من قبل مفكرين وقوى اجتماعية لم تشارك مارتن لوثر رؤيته المسيحية للعالم بالضرورة.
في كتابه التأريخي الموسوعي "منابع الذات"، يحكي الفيلسوف وعالم الاجتماع الكندي "تشارلز تايلور" أن الفردانية ارتقت إلى حد أبعد، واتخذت شكلا علمانيا بحلول نهايات القرن الثامن عشر. ويروي تايلور القصة الكاملة لهذا التحول، موضحا أن الفيلسوف "جان جاك روسو" أدى دورا محوريا فيها. مثَّل روسو مصدرا أساسيا لأفكار عديدة صارت حاسمة فيما بعد لطائفة متنوعة من الاتجاهات السياسية والاجتماعية الحديثة: الديمقراطية والشيوعية والأنثروبولوجيا وحماية البيئة، لكن الأهم في أفكار روسو هو الخير الطبيعي للنفس الداخلية الذي ظل موضوعا أثيرا ومرتبطا بمختلف كتاباته السياسية والاجتماعية والشخصية.
بدأت التعاسة الإنسانية -حسب سردية روسو- باكتشاف المجتمع، إذ باشر الإنسان الأول انحداره نحو الحياة المجتمعية من أجل الحماية والمنافع المتبادلة، فولَّد هذا الترابط عن قرب في ذهن الإنسان وعيا بالتفاوت والصراع على الموارد، وأظهر نمط علاقات معينة يُعبر عنها بكلماتٍ مثل: كبير وقوي وضعيف وجبان وبطيء وشجاع وفقير وثري، وهي كلمات قائمة على التفاوت والعلاقة التصارعية التنافسية. نشأت من القدرة على المقارنة والوعي بالتفاوت التعاسةُ الإنسانية، حيث "بدأ البشر يطلقون أحكاما قيمية على بعضهم بعضا، ويعرفون معنى التقدير، ويتوقون في المقابل للحصول على الاعتراف".
في كتابه المتأخر "عقيدة قس من جبال السافوا"، حاول "روسو" استرجاع وعي الإنسان الأول، أي وعي الإنسان قبل اكتشاف المجتمع، وعادت مصطلحات مثل "أصالة الوجود" و"النفس الداخلية" للظهور على يد روسو في صورة إحساس غامر بالسعادة والوفرة والوعي بالجمال والحب. لكن ما يؤكده روسو، وما أصبح ركنا أساسيا في الفردانية الغربية أثناء القرون اللاحقة، هو أن ثمة شيئا اسمه المجتمع يوجد بالكلية خارج الفرد، في صيغة مجموعة قواعد وعلاقات سلطة وأوامر وأعراف تشكل بحد ذاتها العقبة الرئيسية أمام تحقق الإمكانات الإنسانية، ومن ثَم السعادة الشخصية لكل فرد. وبحسب "فرانسيس فوكوياما" في كتابه "الهوية"، باتت طريقة التفكير الفردانية التي دشنها روسو غريزية إلى درجة أننا لم نعد واعين بها اليوم بوصفها نتاجا ثقافيا تاريخيا مصطنعا.
أقام روسو -مثل لوثر- تمييزا حادا بين الذات الداخلية والمجتمع الخارجي، لكن حرية الفرد الداخلية عند روسو -على عكس مارتن لوثر- لا تكمن حصرا في قدرته على تقبل النعمة الإلهية، بل في القدرة الطبيعية والكونية على أن يعيش أصالة الوجود الأصلية التي عاشها الإنسان الأول، متحررا من طبقات التقاليد والأعراف الاجتماعية المتراكمة. هكذا علمن روسو مفهوم النفس الداخلية وعمم الفردانية التي افتتحها في الفكر الغربي مارتن لوثر، وبحسب تشارلز تايلور، "كان هذا جزءا من التحول الذاتي الهائل للثقافة الغربية الحديثة نحو شكل جديد من الجوانية، فصرنا نفكر بأنفسنا بوصفنا كائنات ذوات أعماق داخلية".
النضال من أجل الاعتراف
في كتابه "الهوية.. مطلب الكرامة وسياسات الاستياء"، يجادل فوكوياما بأن لدى روسو نزعة رومانتيكية حالمة عن أصالة متخيلة للوجود الإنساني، كوجود فرداني منعزل حالم زاهد في العالم، حيث تطلب الصفاء الداخلي للإنسان عند روسو تخليه عن الحاجة إلى الشعور بالاعتراف والتقدير من محيطه، ما يطرح سؤالا محوريا: هل الشعور بالفخر مُنشَأ اجتماعيا؟ لقد ظهر ذلك بالفعل في الدراسات الفسيولوجية التي تفيد بأن مشاعر الفخر وتقدير الذات تتعلق بمستويات تركز الناقل العصبي "السيروتونين" في المخ، ولا يبدو أنثروبولوجيًّا أيضا أن هنالك لحظة لم تقارن فيها الكائنات الإنسانية نفسها بغيرها سلوكيًّا أو تشعر بالفخر حين تتلقى الاعتراف الجماعي.
لكن المهم عند فوكوياما هو أن روسو ومارتن لوثر فلاسفة انعزلوا عن عامة الناس، فمثَّلت أفكارهم انعكاسا لتمزقات عصرهم العنيفة. لقد هيأت مجتمعات غرب أوروبا المنتمين إليها للعيش وفق قواعد اجتماعية جديدة ومختلفة، وكانت الثورة التجارية قيد التطور، مع توسع هائل في التبادل التجاري وأسواقه، فظهرت مهن وطبقات اجتماعية جديدة، وزادت قوة المدن واستقلاليتها عن الريف، وأضحت ملجأ الفلاحين الساعين إلى الهرب من طغيان أسيادهم، فضلا عن انتشار الطباعة وشيوع التعليم وما صاحبهما من الانتشار السريع للأفكار.
عنت هذه التغييرات الاجتماعية والاقتصادية واسعة النطاق أنه توفرت للأفراد فجأة خيارات وفرص أكبر في حياتهم، فمع انفتاح آفاق جديدة للعمل أصبح سؤال "مَن أنا؟ وما قيمة وجودي؟" سؤالا مُلِحّا، مع إدراك الفجوة الهائلة بين العالم الحديث قيد التَشكُّل آنذاك والنفس الداخلية للفرد، أسهمت الأفكار في تشكيل العالم المادي، ثم خلقت تغيرات العالم المادي بدورها ظروفا مواتية لانتشار نوع جديد من الأفكار.
كان مارتن لوثر إذن هو من وضع أقدامه على أول طريق الفردانية الغربية المعاصرة، لكن الظروف والتغيرات المادية في الغرب المسيحي هي التي هيأت استمرار المفهوم وتوسعه ليشمل مساحات جديدة أقل ارتباطا بالدين وأكثر دنيوية وعمومية. كان تبرير مارتن لوثر للإيمان بسيطا، أنه لا معنى لإيمان من أي نوع ما لم يرتبط بقدرة الفرد على الاختيار بحرية، بالنظر إلى أن الإنسان مفطور على التمييز بين الخير والشر والفضيلة والخطيئة، والوصول وحده دون وساطة إلى عتبة الرضا الإلهي.
وسَّع "إيمانويل كانط" وأَنْسَن هذا الفهم المسيحي لأولوية حرية الاختيار، وبحسب كانط فلا معنى للأخلاق والكرامة الإنسانية ما لم تكن مشروطة -أولا- بحرية الخيار الأخلاقي، إذ إن حرية الاختيار عند كانط ليست شرط القبول الإلهي فحسب، بل شرط التحقق الإنساني والكرامة الإنسانية، ولذا تجب معاملة حرية الاختيار على أنها غاية بحد ذاتها، وليست وسيلة لغاية أخرى، دينية كانت أو سياسية.
بعد كانط، أتى الفيلسوف الألماني "هيغل" الذي وضع مفهوم الفاعلية الأخلاقية للفرد أساسا للتحقق والكرامة الإنسانية وفي القلب من تفسيره للحالة الإنسانية في كتابه "فينومِنولوجيا الروح"، إذ جادل هيغل بأن النضال من أجل الاعتراف لطالما قاد التاريخ الإنساني برمته، والمهم لدى هيغل هو أن هذا النضال من أجل الاعتراف لم يَتبدَّ له كما تبدى لروسو على شكل رحلات فردية إلى داخل الذات الإنسانية، بل على شكل نضالات سياسية شبيهة بما قام به الثوار في الثورة الفرنسية والثورات اللاحقة، من أجل ترسيخ الحرية والكرامة لكل فرد بوصفها مبادئ أساسية لكل مجتمع حديث.
أشار هيغل إلى حقيقة أساسية حول السياسة الحديثة، وهي أن الأشجان التي أطلقتها أحداث مثل الثورة الفرنسية والثورات الأوروبية اللاحقة، كانت في أساسها نضالات من أجل الكرامة. لم تعد قضية الذات الداخلية قضية تأمل شخصي إذن، فحريتها وكرامتها وفاعليتها الأخلاقية يجب أن تتجسد في منظومة حقوق وقوانين تحكم المجتمع. وقد قاد المد الديمقراطي الذي تكشف في القرنين اللاحقين للثورة الفرنسية إلى كفاح أناس طالبوا بالاعتراف بكينونة شخصيتهم السياسية، أي الاعتراف بأنهم فاعلون أخلاقيون مستقلون قادرون على المشاركة في السلطة السياسية.
من السعي إلى الاعتراف إلى تفكيك المجتمع
ارتكزت الفردانية في التقليد الغربي المسيحي وما بعد المسيحي إذن على كرامة الفرد وقدرته على اتخاذ الخيارات الأخلاقية المناسبة، سواء عرفها الدين أو العقل العلماني. فتلك الفكرة القائلة بأن الكرامة متجذرة في الاختيار الإنساني الأخلاقي، نالت اعترافا سياسيا واسعا في العالم الغربي، وباتت ركنا رئيسيا في مسار الحداثة، بل وإنجازها الأهم والأثير. وقد ضُمِّنت في عدد واسع من الدساتير الديمقراطية الحديثة بالعديد من الدول المتقدمة والمواثيق الدولية، فضلا عن انتشار ثقافة عالمية واسعة تحتفي بحقوق الإنسان والحق في التعبير والاختلاف وأولوية الفرد على الجماعة.
مَأْسَس التقليد السياسي الغربي أفكار الفردانية الغربية عبر ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان والفصل بين السلطات، لكن الفردانية التي ظهرت وبدأت مع روسو أشارت إلى شيء أعمق لم تستطع نظم الحداثة الليبرالية استيعابه في قوانينها ودساتيرها وثقافتها الحقوقية الكلاسيكية. لقد رأى روسو على وجه التحديد داخل النفس وفرة من المشاعر وإمكانيات السعادة والتحقق التي قمعها المجتمع، وخلقت تلك الفكرة عند روسو أساسا مهما في الوعي الغربي الحديث بالاغتراب عن المجتمع كجهاز قمع واستلاب، وهو وعي ذو طابع مأساوي وتفكيكي يدفع دائما نحو نضال فرداني وتحرري للانعتاق من أي قيود مجتمعية.
غالبا ما يجري التعبير عن هذه المشاعر والعواطف على النحو الأفضل في الفن الأوروبي الحديث، إذ شهد الأدب الأوروبي بعد روسو صعود صنف من صنوف الكتابة، بدأ برواية "دني ديدرو" بعنوان "ابن أخي رامو"، ورواية "يوهان غوته" بعنوان "آلام الشاب فرتر". احتفى هذا الصنف من الأدب بالفنان الذي يسعى إلى التعبير الأصيل عن ذاته وعبقريته الإبداعية، ولا يستطيع إيجاد وطن له في مجتمعه، فصار شخصا لم يقدره عصره حق قدره، مثل "فان غوخ" و"فرانز كافكا"، وغيرهما من رموز أيقونية للفردانية المعاصرة.
عكس ذلك التحول في الحساسية الأدبية انهيارا أعمق وأكثر جوهرية في الإجماع الأخلاقي الأوروبي. وقد قال الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" إن الله المسيحي "عاش ذات يوم ورسخ أفقا أخلاقيا واضحا للمجتمع الأوروبي، لكنه مات آنذاك مع انهيار الإيمان الديني، تاركا فراغا أخلاقيا لم تستطع القيم البديلة أن تملأه". على عكس الأخلاقيين التقليديين، احتفى نيتشه بتلك الحقيقة لأنها وسعت إلى حد هائل مدى فردانية الإنسان، إذ أصبح البشر أحرارا من الداخل، ليس فقط في قبول الحقيقة الإلهية كما عند مارتن لوثر أو في الاختيار الأخلاقي عند كانط، بل أيضا أحرارا في خلق القيم والأخلاق ذاتها دون أي مرجعية مجتمعية أو سياسية أو دينية.
يعلق فوكوياما على هذا التطور قائلا إن "المشكلة في مثل هذا الفهم للفردانية هو أن القيم المشتركة تؤدي وظيفة مهمة في جعل الحياة الاجتماعية ممكنة. وإذا كنا لا نتفق على حد أدنى من الثقافة المشتركة، فلن نستطيع التعاون للقيام بمهمات مشتركة، ولن نعتبر المؤسسات السياسية والاجتماعية -بدءا بمؤسسات الدولة، ووصولا إلى مؤسسة الأسرة- مؤسسات شرعية، بل لن نستطيع في الواقع حتى تواصل أحدنا مع الآخر، في غياب لغة مشتركة ذات معان مفهومة تبادليا".
من السياسة إلى العلاج النفسي
بحسب الأنثروبولوجي "لويس دومون"، تَكمن المشكلة في هذا التحول في أن غالبية الناس ليسوا أفرادا "نيتشويين" فائقين يسعون إلى إعادة تعريف كل شيء وتأسيس عالمهم الخاص، فالكائنات البشرية كائنات عاطفية تدفعها ميولها إلى الوجود ضمن علاقات إنسانية تبحث من خلالها عن مشاعر الحب والتضامن والأمان والدفء الاجتماعي. وحين يختفي أفق أخلاقي مشترك ويُنظَر إلى المحيط الاجتماعي بأنه جهاز قمعي، وتحل محله مجموعة من الأفراد تحمل قيما متنافرة، فإن غالبية الناس لا تبتهج بحريتها السلبية المكتسبة حديثا، بل الأرجح أنهم سيشعرون بقلق وعزلة وخوف.

يقودنا هذا مجددا إلى فرانسيس فوكوياما، وما يشير إليه بخصوص تطور الفردانية في المجتمعات الغربية الصناعية وما بعد الصناعية في الفترة المعاصرة، فهو يتحدث عن ظهور خطاب تحليل نفسي سلوكي وعلاجي لمحاولة تخفيف وطأة الفردانية وما يُصاحبها من شعور بالعزلة والهشاشة.
يشير فوكوياما في هذا الصدد إلى كتاب باسم "الانتصار العلاجي" لعالم الاجتماع "فيليب ريف"، جادل خلاله أن انحسار الأفق الأخلاقي المشترك الذي عرفه البشر بواسطة الدين والأعراف الاجتماعية تحت وطأة الفردانية، ترك فراغا هائلا يملؤه الآن علماء النفس المبشرون بدين جديد هو العلاج النفسي. وبحسب ريف، يقول العلاج النفسي للأفراد المعزولين بأن عليهم تحرير ذواتهم الداخلية، وأن يكونوا أنفسهم وحسب، دون أن يقال لهم ما معنى ذلك، فقد صار المحللون النفسيون الآن يملؤون الفراغ الذي خلّفه الكهنة والقساوسة، مستخدمين أساليب علاجية في مواجهة "إحساس عام بالهشاشة والعزلة يمكن استغلاله والتلاعب به بسهولة".
تكمن هنا تحديدا وجاهة النقد الذي وجهه المؤرخ الأميركي "كريستوفر لاش" أواخر السبعينيات، وجادل فيه بأن الترويج لتقدير الذات لم يُمكِّن للقدرات الإنسانية الكامنة، بل في الواقع لنرجسية مدمرة في طريقها إلى أن تسم المجتمع الأميركي والغربي برمته. لم يتحرر الناس ليحققوا إمكاناتهم إذن، بل وقعوا في فخ تبعية شعورية، وأصبح الجميع في حاجة إلى الآخرين كجمهور يقدم المديح والإعجاب. ويترتب على تلك النرجسية عواقب اجتماعية سلبية كما يصفها لاش، فهي تقود إلى نزع تسييس المجتمع على نطاق واسع، بحيث تنحط نضالاته من أجل العدالة والحقوق والتمثيل السياسي، لتصبح مجرد مشكلات نفسية شخصية.

هذه النرجسية بحسب فوكوياما هي أساس سياسات الهوية بوصفها التتويج المعاصر الأخير للصيرورة الفردانية الغربية. كان كريستوفر لاش على حق إزاء العواقب الاجتماعية لقيام مجتمع علاجي، وكان لا بد لهذا التحول العلاجي في الثقافة الشعبية الغربية من أن ينعكس بالضرورة في سياساتها الداخلية، وفي فهم جديد لدور الدولة. اعتبرت الليبرالية الكلاسيكية، في القرن التاسع عشر، الدولة مسؤولة عن حماية الحقوق الأساسية، مثل حرية التعبير والتجمع وترسيخ حكم القانون وتوفير الخدمات العامة كالشرطة والتعليم، إلخ. واعترفت الحكومة بمواطنيها بوصفهم فاعلين عقلانيين وأخلاقيين ومستقلين عبر منحهم حقوقا فردية، مثل الحق في المشاركة في السلطة وتنظيم أنفسهم، لكن مع سياسات الهوية وتطور الفردانية الغربية، بات يُنظر إلى الدولة باعتبارها مسؤولة عن جعل كل فرد يشعر بالرضا عن ذاته.
نشأ النموذج العلاجي مباشرة من فهم حاد و راديكالي لفرادنية وأصالة النفس الداخلية كمقابل أخلاقي ونقيض للمجتمع، وانتشر الادعاء بأن ثمة فضاءات داخلية عميقة في ذواتنا لا يُعترف بقدراتها الكامنة، وأن المجتمع الخارجي عبر قواعده وأدواره وتوقعاته مسؤول عن لجمنا وكبتنا وتعطيل قدراتنا الكامنة فينا، لكن هذا النموذج لم يكن مهتما بتشكيل أجندة إصلاحية أو ثورية لتحريرنا من القواعد القمعية المعروفة، ولا بالسؤال المجرد عما إذا كان المجتمع المحيط عادلا أم ظالما بالفعل ويحتاج إلى الإصلاح، بل اهتم ببساطة بجعل مرضاه يشعرون بحال أفضل تجاه أنفسهم عن طريق العقاقير والأدوية المضادة للقلق والاكتئاب.
لقد حملت النزعة الفردانية التي خلقت الغرب الحديث الليبرالي كما نعرفه اليوم في ثناياها طاقة تحررية من سلطة الكهنوت الكنسي والتَّزَمُّت المجتمعي والسلطوية السياسية، وعززت الإحساس بالكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، لكنها اليوم تبدو وحشا منفلتا لا عقال له، وتحطم في طريقها جميع شبكات الأمان والتضامن الاجتماعي والفعالية السياسية، وتخلق في المقابل شعورا مؤلما وحادا بالعزلة والهشاشة والخوف، ليقع الإنسان الغربي تحت رحمة الأدوية وسياسات الهوية الشعبوية معا، كتتويج أخير وتراجيدي لمسيرة الفردانية الغربية.
———————————————————————————-
المصادر
- الدولتان: السُلطة والمجتمع في بلاد الغرب والإسلام، برتران بادي، مركز مدارات للأبحاث والنشر
- الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الإستياء، فرانسيس فوكوياما، منتدى العلاقات الدولية والعربية
- مقالات في الفردانية: منظور أنثروبولوجي للأيديولوجية الحديثة، لويس دومون
- منابع الذات: تكون الهوية الحديثة، تشارلز تايلور، المنظمة العربية للترجمة
- دين الفطرة: عقيدة قس من جبال السافوا، جان جاك روسو، ترجمة عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي
- The Culture of Narcissism: American Life in an Age of Diminishing Expectations, Christopher Lasch, W. W. Norton Company