شعار قسم ميدان

"مليش في السياسة".. لماذا لا يُعَدُّ العزوف عن المجال السياسي خيارا متاحا؟

أتت المواجهات الفلسطينية الأخيرة مع سُلطة الاحتلال في سياق بالغ الجدة والخصوصية، حيث دارت الهجمات الاستيطانية الأخيرة على حيّ الشيخ جراح بالقدس وما تبعها من مواجهات داخل فلسطين كاملة بالتزامن مع تصاعد غير مسبوق لحركة التطبيع العربي السياسي والثقافي مع إسرائيل، الذي وصل لدى بعض الأطراف إلى شكل من أشكال التحالف السياسي الصريح مع الاحتلال ضد فلسطين.

تعود الجذور الأساسية لتعقيد وحساسية الظرف التاريخي لفلسطين اليوم في المقام الأول إلى نقطتين رئيسيتين: تداعيات الربيع العربي الجيوسياسية والأيديولوجية، ثم انكسار هذا الربيع نفسه، ما أدَّى إلى تفشي حالة من اليأس والإحباط وصلت أحيانا إلى العزوف التام عن السياسة واحتقارها لصالح أنماط وجودية فردانية متمركزة حول اهتمامات جمالية أو علمية أو حتى صحية، وهي سمة تنطبق على قطاع ليس بهيِّن من شرائح جيل الربيع العربي نفسه والجيل اللاحق له.

ساعد على هذا أيضا أن أحد أهم تداعيات انسكار الربيع العربي هو الانحطاط الشديد الذي وصلت إليه الأنظمة والتنظيمات التي رفعت قضية المُمَانعة وفلسطين عنوانا أساسيا لها من جهة، وحال الأيديولوجيات والحركات التي وضعت فلسطين على سلم أجندتها السياسية والخطابية من جهة أخرى. فمع مستوى القمع والإجرام الذي وصل إليه النظام السوري وميليشيا حزب الله اللبناني في قتل الشعب السوري، والهزيمة الأيديولوجية والسياسية الساحقة التي مُنيت بها جماعة الإخوان المسلمين كُبرى حركات الإسلام السياسي في مصر، مَثَّل كل ذلك هزة نفسية ومعرفية عنيفة لدى جيل كامل تربَّى وتشكَّل وعيه السياسي أثناء هيمنة تلك الخطابات على السياسة العربية.

أتت قضية حيّ الشيخ جراح والحرب في غزة وتصاعد حركة التطبيع العربي الرسمي لتضع الجيل نفسه أمام سؤال السياسة مجددا، بعد أن فقدت كل الخطابات والأيديولوجيات التي رفعت لواء القضية الفلسطينية جدواها ومعناها السياسي. وأصبح سؤال القضية الفلسطينية مرتبطا بعدة أسئلة أخرى حول معنى الحياة والسياسة في المقام الأول، وجدوى النضال في ظل الهزيمة العامة، ومَن هم الأعداء الفعليون، وما الهوية التي تجمعنا لنكون مع فلسطينيي القدس وغزة ورام الله والداخل المحتل في خندق واحد؟

في معرض رده على اتهامات وُجِّهَت له بالعمل مع منصة إماراتية مُطبِّعة مع إسرائيل، علَّق مُقدِّم برنامج "الدحيح" أحمد الغندور قائلا إنّه رغم عدم فهمه للسياسة وأنه لا يحب الكلام فيها، فإنه متعاطف مع الفلسطينيين، ومنحاز لهم ضد الإجرام الذي يُلاقونه، مُردفا في آخر البيان بأن "محتوى البرنامج محتوى علمي وسيظل كذلك، ولن يصبح بوقا لجهة أو يدعو إلى التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي".

الفكرة الرئيسية في بيان أحمد الغندور هنا هي أنه يُقدِّم محتوى غير سياسي، ومن ثمَّ لا معنى لاتهامه بالتطبيع لأنه لا يتحدَّث في السياسة أصلا ولا ينوي فعل ذلك، بغض النظر عن علاقات المنصة الإماراتية التي تبث برنامجه على قنواتها. ويُعَدُّ سَوْق هذا الموقف اللا سياسي تحديدا بوصفه حجة على عدم التطبيع والتعاطف مع الفلسطينيين تعبيرا حقيقيا عن حالة الارتباك العام لأجيال ما بعد الربيع العربي في مواجهة سؤال أخلاقي وسياسي ضاغط مثل سؤال الموقف من فلسطين المحتلة.

من وجهة نظر الفلسفة السياسية، ثمة توجُّهات تأسيسية في محاولة بيان الكيفية التي تتشكَّل بها الانتماءات والمواقف السياسية، أبرزها إسهام الفيلسوف السياسي الألماني "كارل شميت"، الذي يرى أن الهوية السياسية تتشكَّل في لحظة التمييز بين الصديق والعدو. فبحسب شميت، اللحظة التي يظهر فيها عدو لجماعة ما من الأفراد هي اللحظة التي تتشكَّل فيها الهوية السياسية للجماعة نفسها، فيبدأ وعي أفرادها بأنفسهم بوصفهم طرفا في صراع سياسي لا مجرد تجمع بشري عشوائي. ويؤسِّس شميت استنادا إلى هذه الفكرة هجومه الشرس على النزعة الفردانية الليبرالية، حيث لا يرى أي إمكانية لوجود فردي خارج الحيز السياسي، لأن ظهور العدو يجعل السياسة تخترق كل مجالات الحياة.

يبدو الموقف من التطبيع مع سُلطة الاحتلال الإسرائيلي خير مُعبِّر عن هذا المثال؛ ففي الأزمنة القريبة التي شهدت هيمنة الخطابات القومية والإسلامية، كان رفض التطبيع محسوما من الناحية الخطابية، إذ استطاعت خطابات تلك الجماعات خلق ذات وهوية عربية وإسلامية ترفض الاستعمار والإمبريالية والصهيونية وتنادي بتحرير مقدسات المسلمين. هذا التبرير لمعاداة الاحتلال والتطبيع حتى من منطلق ديني سببه الأساسي -وفقا لشميت- ظهور العدو (إسرائيل)، مما يجعل تسييس الدين أو تديين الأيديولوجية القومية في الصراع العربي مع الاحتلال جزءا من إدراك الجماعة السياسية لذاتها بوصفها طرفا سياسيا يخوض معركة سياسية وجودية.

لكن الحال في المواجهة الأخيرة مع الاحتلال وحركة التطبيع يبدو مختلفا، إذ فقدت الخطابات الإسلامية والقومية الكثير من جاذبيتها الأيديولوجية وفعاليتها السياسية، وبالعودة لبيان الغندور الذي يؤكِّد فيه مرارا أنه متعاطف مع الفلسطينيين، وأنه غير مُطبِّع، تظل هنالك وجاهة قوية للحُجة المضادة القائلة إن نشر محتواه العلمي (غير السياسي) على منصة إعلامية يبدو من شراكاتها في الماضي القريب أنها جزء من حملة ترويج للتطبيع هو في حد ذاته موقف سياسي مؤيد للتطبيع أو غير مبالٍ به في أفضل الأحوال، وهو ما يُقرأ بالتوازي مع مقولة شميت إنّه حال ظهور العدو لا توجد مساحة لوجود فردي محايد خارج السياسة.

هذا الارتباك الذي يبدو عليه موقف برنامج "الدحيح" وفريق عمله ليس نتاج خطأ فردي، ولكنه نتاج تآكل الهويات السياسية الجمعية، التي رسمت خطوط الصراع والاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي وحدَّدت كيفية الاصطفاف والمواجهة وما ينبغي عمله وما لا ينبغي تجاوزه. ونتيجة لذلك، يحاول جيل "الدحيح" وجمهوره بلورة خطابات ومواقف سياسية على أُسس جديدة طبقا لواقع ما بعد الربيع العربي، وهي أسس فردية وإنسانية عامة أكثر هشاشة ورخاوة وفردانية من الأيديولوجيات الصلبة القديمة، لكن هل من الممكن تشكيل موقف سياسي على هذه الأُسس؟ وهل توجد سياسة فردانية فعلا؟ بمعنى أكثر خصوصية: هل من الممكن أن نناهض الاحتلال والتطبيع كأفراد دون النظر في ارتباطاتنا المؤسسية ودون أن نكون أمة بالمعنى الأشمل؟

شب جديد

في مقابلة مع مغني الراب الفلسطيني "شب جديد"، أجاب عن سؤال لماذا لا تتمحور كلمات أغانيه حول القضية الفلسطينية رغم كونها أغاني وموسيقى غاضبة، فأجاب الشاب بعبارة حاسمة قائلا: "زمان أحس أن الراب والفن كله يتمحور حوالين القضية كأنه مفيش مجال لإشي تاني، ومحدش حيسمعك بس الأجانب حيدعموك فلازم تعيط.. أنا بغني عن فلسطينية بالعادة والفلسطينية وهما قاعدين بيحكوا ميكونوش قاعدين بيحكوا يا حرام إحنا شو بنحزن، بيكونوا قاعدين بيحكوا إيش بدنا ناكل اليوم مثلا، فاهم كيف؟!".

في كل أغاني شب الجديد والعديد من نجوم مشهد الراب الفلسطيني تختفي كلمات مثل التحرر الوطني والكفاح المسلح والثورة الفلسطينية والصراع مع الاستعمار، ويحضر الفلسطيني الفرد في نضاله اليومي مع سلطة الاحتلال والتنسيق الأمني. في واحدة من أهم الأغاني التي ذاع صيتها وحقَّقت نجاحا كبيرا له، تتمحور الكلمات حول عدم قدرته على استخراج رخصة لقيادة سيارة في الضفة الغربية والقدس بعد تعسُّف سلطة الاحتلال معه ومع العديد من الفلسطينيين، ويرى شب جديد أن هذه هي المواضيع التي تهم الشباب الفلسطيني اليوم.

في كتابهما "ألف هضبة وهضبة"، يرصد الفيلسوف السياسي "جيل دولوز" وعالم التحليل النفسي "فيليكس غواتاري" تحوُّلا في مفهوم "السياسي" وفي التعاطي مع السياسة نحو ما سمّياه السياسة الصغرى (micro-politics). وبموجب هذا المفهوم، فإن السياسة الكبرى التي مارستها المؤسسات والحركات الكبرى في السابق مستندة إلى قضية ما، وعمَّمتها لتصير قضية عامة يصطف الأفراد حولها بحيث تصبح السياسة الوحيدة الممكنة فقط هي الموقف من التطبيع أو من سُلطة الاحتلال أو من الثورة والديمقراطية، لم تعد على هذه الصورة العمومية اليوم، فلم يعد ما هو سياسي مقتصرا على هذه الفضاءات التقليدية لمُمَارسته، لكنه اجتازها إلى فضاءات أخرى عُدَّت خاصة سابقا. على سبيل المثال، تفاصيل الحياة اليومية العادية في التعامل مع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية كالبيروقراطية الحكومية وحواجز التفتيش الإسرائيلي وبيئة العمل والسير في الشارع وسط المستوطنين المسلحين، كل تلك الملامح لحياة الفلسطينيين باتت جزءا لا يتجزأ من طبيعة الصراع السياسية، إذ تُبنى السياسة من الحاجات والمطالب والرغبات والمخاوف الخاصة المُحددة لكل فرد فلسطيني، فتصبح تلك الملفات "الصغرى" هي الملفات السياسية اليوم وليس تحرير المقدسات أو كامل التراب وغيرها من أهداف "كبرى".

في كتابهما "ألف هضبة وهضبة"، يرصد الفيلسوف السياسي "جيل دولوز" وعالم التحليل النفسي "فيليكس غواتاري" تحوُّلا في مفهوم "السياسي" وفي التعاطي مع السياسة نحو ما سمّياه السياسة الصغرى (micro-politics).

المهم في هذا التحوُّل حسب دولوز وغواتاري هو أنها سياسة لا تقوم على الهوية، بل على التدفُّق والاختلاف والتعدد؛ بمعنى أنها لا تفترض وجود جوهر ثابت لذات مُتخيلة ضد عدو واضح بهوية واضحة، ولكن تقوم على مواقف مُتعيّنة مباشرة ويومية. فقضية حيّ الشيخ جراح من هذا المنظور قضية مباشرة محدودة حول الحق في السكن وقدسية الملكية الخاصة لمجموعة محدودة من سكان القدس، وليست بالضرورة صراعا بين قوميتين تاريخيتين. في بيان سابق على صفحة "الدحيح"، وفي المنشور الذي كتبه أحمد الغندور غداة الحرب على غزة واعتداء المستوطنين الإسرائيليين على منازل حيّ الشيخ جراح في القدس، استُخدمت عبارات من قبيل "أرفض اللي بيحصل في فلسطين" و"موقفي واضح من القضية الفلسطينية" دون أي تعيين صريح، والحق أن حتى نتنياهو واليمين الإسرائيلي لهم مواقف سياسية أوضح من ذلك بخصوص القضية الفلسطينية.

هنا يدلف بنا جيل دولوز وفيليكس غواتاري إلى لُب المشكلة. فالحالة الفردانية المعاصرة تقوم على نقيض الهوية، وعلى رفض البُنى الدائمة أو الثابتة الثقافية أو السياسية على السواء، مثل الأمة العربية والشعب اليهودي. ولكن هناك سياقات شديدة المحلية والتغيُّر يُحدَّد الموقف السياسي وفقا لها في شكل ترحالي تتحرَّك فيه المواقف والهويات والخطابات والاصطفافات دون مركز متعالٍ أو تاريخي ثابت، فالمهم هنا هو الحفاظ على الاستقلال الذاتي غاية بحد ذاته، وكل ما يُنحِّي أولوية الفرد أو ينزله إلى مكانة ثانوية يصير مرفوضا بغض النظر عن مدى أخلاقيته.

في كتابه "تحولات مفهوم القومية العربية من المادي إلى المتخيل"، يوضِّح الباحث هاني عواد أن حركات القومية العربية التي مَثَّلت الخطاب السياسي المُهيمن منذ منتصف القرن العشرين ارتكزت على نظرية سياسية مستقاة من الفكر الأوروبي، وهيمنت على أجيال كاملة بفعل النظام التعليمي والكاريزما الشخصية للزعماء القوميين. ورغم أنها أسهمت في منح العرب إحساسا بالاستقلالية بعد سنوات من الحكم الاستعماري، فإنها، حتى حسب معاييرها الخاصة الساعية إلى الحرية وصناعة العربي الجديد وتحرير فلسطين، لم تترك وراءها في الأخير سوى أنظمة عسكرية استبدادية.

جوهر النظرية السياسية التي اعتمدت عليها القومية بحسب هاني عواد هو نتاج تكامل مفهومين كبيرين شكَّلا عماد النظرية السياسية الحديثة. المفهوم الأول (وفق النموذج الأرسطي) هو الذي يرى الهوية السياسية أو القومية انعكاسا لجوهر أصلي لأمة معينة، تتمايز به عن بقية الثقافات والشعوب بحيث تتموضع تلك الجماعة حول هوية مشتركة (لغة، معتقد، أرض، إلخ)، وترسم به الحدود التي تُقصي كل ما لا ينتمي إليها. وهنا يُنظر إلى نزعة الاختلاف أو الفردانية بوصفها انشقاقا عن هذا الجوهر أو تلك الهوية الأصلية، فالاختلاف هنا هو نقصٌ ما بالنسبة لجوهر أصلي ما أو انشقاق عنه.

المفهوم الثاني هو "النموذج الهيجلي الذي ينطلق منه كارل شميت"، وتقوم بموجبه الهوية السياسية على أساس التعارض وليس الجوهر. هُنا تظهر الهوية بوصفها نفيا أو تعارُضا بين عنصرين أو شعبين، فلا يعود هناك جوهر أصلي يُحدِّد هوية الأمة، بل على النقيض، تتحدَّد هوية الأمة بواسطة نقيضها أو عدوها، وما يُولِّد وحدة الجماعة في هذا النموذج هو علاقتها السلبية بعدو مشترك. مجددا، في هذه النسخة من مفهوم السياسي، تظل نزعات الاختلاف والفردانية شكلا من أشكال التخلي والانشقاق، بل وحتى الخيانة.

تلك النظرية السياسية التي تشكَّلت وفقها القومية العربية جعلت منها قومية ذات نزعة شمولية تؤسِّس لمجتمعات لا تقبل الاختلاف أو التعددية، والأخطر أنها لا تحترم حقوق الأفراد في التعبير والتصرف بحرية؛ فتنتهك حرياتهم وفرديتهم لصالح المجموع القومي. وقد شكَّلت هذه النظرية السياسية رأس الحربة في التحدث باسم فلسطين ومعاداة إسرائيل لعقود طويلة، فكان الجوهر الهوياتي هنا هو الأمة العربية الإسلامية ومحل التعارض هو الشعب الإسرائيلي الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين. وعلى ذلك الأساس نسفت الأنظمة القومية الممانعة بنسختَيْها الناصرية والبعثية مفاهيم العقد الاجتماعي وحقوق الإنسان والحق في الاختلاف والحريات الفردية.

تأتي تلك النزعة الفردانية في المشرق العربي، ليس بوصفها فعلَ تحرُّر وانعتاق، ولكن في هيئة انسحاب وهرب من الهزيمة التي لحقت بالثورات

كان طبيعيا بعد الإرث الكارثي لتلك النظرية السياسية أن يأتي جيل الربيع العربي وما بعده بخيال سياسي واجتماعي مضاد؛ خيال سياسي يحتفي بالتنوُّع واللا تجانس والاختلاف ويكره الذوبان في الجموع باسم القضية أو المسيرة الكبرى من أجل التحرير، مع حالة نفور من الانخراط في التنظيمات السياسية التقليدية، ومزاج يرفض تقديم التضحيات باسم السرديات الكبرى والمصلحة العامة. في الأخير، انتهى هذا الجيل لما يسميه عالم الاجتماع البولندي "زيجمونت باومان" بظاهرة مجتمع الأفراد، وهي ظاهرة يهجر أفرادها المجال العام من شدة تمسكهم باستقلالهم الخاص في مواجهة ضغط مضاعف من الأنظمة الاستبدادية وأجهزتها البيروقراطية من جهة، ومن جهة أخرى جراء النزعة الفردانية المتزايدة عند أجيال الشباب الذي بات يرى الخطابات السياسية العامة حول التحرير والثورة وفلسطين خطابات استلابية سيئة السُّمعة، تستخدمها السُّلطة من أجل مزيد من مصادرة الحريات وقمع الأفراد.

في السياق الغربي، برزت تلك النزعة الفردانية مع بدايات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها ردَّ فعل تحرري في مواجهة شمولية الأنظمة السياسية الفاشية والنازية والأبوية المحافظة، التي قادت العالم إلى حرب مدمرة غير مسبوقة. بيد أن تلك النزعة الفردانية لم تكن بلا ثمن رغم المكاسب التي حقَّقتها من ارتفاع أهمية حقوق الإنسان والأقليات وقضايا الاعتراف السياسي والثقافي، فمع استمرار عمليات الفردنة بدأ فقدان الأجيال الجديدة في الغرب لفعاليتها السياسية بالتدريج، وبدأت تحدث عمليات الانفصال التاريخية بين السُّلطة والسياسة؛ ما أدَّى إلى ما يسميه باومان بـ "تشظي المجال العام الغربي". فلم يعد الغربيون قادرين على تجميع وتنظيم أنفسهم في شكل قوى سياسية منظمة لدعم وتنفيذ سياسات عامة جذرية أو إصلاحية؛ رغم وجود الديمقراطيات التي تسمح لهم بذلك.

على النقيض تأتي تلك النزعة الفردانية في المشرق العربي، ليس بوصفها فعلَ تحرُّر وانعتاق، ولكن في هيئة انسحاب وهرب من الهزيمة التي لحقت بالثورات، وردَّ فعل على صعود الثورات المضادة والأنظمة القمعية التي تحارب شعوبها باسم الصالح العام تارة، وباسم فلسطين تارة أخرى. إنه جمع لأسوأ ما في العالمَيْن؛ الفردانية الغربية التي فتَّتت المجال السياسي الغربي وسلَّمته لقوى السوق ورأس المال، والاستبداد والشمولية الصلبة لعالم ما بعد الاستعمار العربي. في هذا الوقت بالتحديد، تزداد وتيرة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي مستغلة تلك الحالة من السيولة والعزوف عن القضايا الكبرى، ويزداد أيضا جنون اليمين الإسرائيلي، فتأتي الأحداث الأخيرة تذكرة لجيل الربيع العربي بحتمية الانخراط في عمل سياسي مباشر جماعي وطويل وممتد من أجل استعادة الفعالية السياسية والتاريخية للدفاع عن حريتهم وحقوقهم وفرديتهم، دون تعارض بالضرورة مع استئناف واجبهم التاريخي العربي والإسلامي بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين.

_______________________________________________________

المصادر:

  1. Dictatorship: From the Origin of the Modern Concept of Sovereignty to Proletarian Class Struggle, Carl Schmitt, Polity Press
  2. تحولات مفهوم القومية العربية من المادي إلى المتخيل، هاني عواد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر
  3. اكتئاب ما بعد الربيع، طارق خميس، موقع متراس
  4. السياسي عند جيل دولوز، حسن خزام، موقع الجمهورية
  5. المفكرون الأساسيون: من النظرية النقدية إلى ما بعد الماركسية، سايمون تورمي وجون تاونزند، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة
  6. الحداثة السائلة، زيجمونت باومان، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر
المصدر : الجزيرة