الاستثمار في الهلع.. كيف يعزز التقدم الخوف لدى البشر؟
في عام 1893، أطلق الرسام النرويجي "إدفارد مونش" صرخته الشهيرة على لوحة حملت في ظهرها أبياتا من الشعر المأساوي، وحمل اسمها هذه "الصرخة"، مُعبِّرا عما اختلجه من الشعور حِيال هذا العصر، وتاركا إشاراته عما أحسَّ به إنسان العصر الحديث. تلك اللوحة التي وُجِّهت لتصوير "الألم الخاص بالحياة الحديثة"، فأصبحت، وفقا لـ "شاكر عبد الحميد"، "أيقونة دالة على العُصاب والخوف الإنساني"[1].
ويُضيف المُتخصِّص في علم نفس الإبداع، في موضع آخر، أنه "من بين كل الفنانين الذين عبَّروا عن معاناتهم بالصراخ، كان "إدفارد مونش" الذي أنتج صورة واحدة شهيرة اخترقت الطبيعة كلها، ونفذت إلى قلبها من خلال صرخة مفاجئة تتردَّد أصداؤها في الأُفق ولا يمكن مقاومة الإحساس بالفزع واليأس الذي تحمله، حيث يسهم كل عنصر في التكوين في خلق الحالة الانفعالية"[2].
وترى المحررة الفنية "مريم عادل"[3] أن شهرة "الصرخة" قد ترجع لسهولة فهمها ووضوحها للجميع، خصوصا لأولئك الذين لا يتمتعون بثقافة فنية خاصة، فبمجرد رؤيتها سيكون من الصعب نسيانها، أو بالأحرى سيكون استدعاؤها من الذاكرة مع كل خاطرة عذاب أمرا يسيرا. حيث سجَّلت هذه اللوحة نقطة تحوُّل مهمة في القرن العشرين، بعدما قطع الإنسان الغربي كل صِلاته بالمُقدَّس، الذي كان يمنحه الارتياح في العصر السابق؛ وأصبح عاريا من الإيمان والتقاليد والعادات، والثوابت بشكل عام، لينقلب مسكينا في لحظة أزمة وجوديَّة مهولة.
تمضي الأيام، وتتوالى السنين على إنسان الحداثة الأول، ويواتينا عالم الاجتماع البولندي "زيجمونت باومان" بعد قرن من الزمان بنقده المتسلسل لحداثة القرنين الفائتين، فيصدر -بنَفَس فرانكفورتي[ب] واضح- سلسلة السيولة التي فكَّكت الحداثة في سبعة مظاهر[أ]، كان أحدها الخوف الذي سال بدوره بين مجتمعات العصر الحديث. وعلى الرغم من ارتباط هذا النقد -بصورة أكبر- بالمجتمع الغربي، فإن، حسب الكاتب والأكاديمي "مدحت الليثي"، ثمة واقعا مشتركا ومختلفا بين واقعنا وواقع ما ينقده "باومان"[4].
المدن المرفَّهة "الكومباوندات"، الأسوار العالية، البوابات الحديدية والعربات المصفَّحة، نُظم المراقبة، الموضة، الاستهلاك النَّهِم، وحتى اللجوء السياسي من خطر الحرب؛ كلها أذرع لأخطبوط الخوف الذي وعدت الحداثة شعوبها أن تقتصَّه من حياتهم، فإذا بها تدور عليهم بعد عقود وتلبسهم عباءته من حيث أرادت أن تريحهم منه. إنه الخوف الذي يأتينا من المستقبل، ساكنا في الحاضر، ومتمترسا على أنقاض الماضي القديم.
في مقدمته لكتاب "الأزمنة السائلة"، يذكر الكاتب والمترجم "حجاج أبو جبر" أن التصوُّر الميتافيزيقي للكون، القائم على سلسلة الوجود الربانية، هو ما ميَّز حقبة ما قبل الحداثة، فكان البشر يلعبون حينها دور الحُرَّاس الذين يحافظون على مواقع كل شيء وكل دور في الكون على الموضع الذي خلقه الله بحسب تصوُّرهم. بكلمات أخرى: كان العالم أكثر ثباتا وأطول استمرارية في هذا الثبات.
ثم مع مجيء الحداثة بزعمها فك السحر عن العالم، جاءت نسختها الصُّلبة لتؤكد مركزية الإنسان وقدرته على بسط سلطان العقل على الطبيعة الجامحة وتسخيرها لخدمة البشرية وتقدُّمها، ومن ثم تحييد المخاوف البشرية من الموت بالمرض أو الكوارث أو العدوان البشري[5]، لتقضي الحداثة، بوصفها تمرُّدا على الكنيسة الأوروبية ونقيضا لمنهجيتها التفسيرية، على مركزية الإيمان وتحارب فكرة الوحي والخلود الأُخروي بتقديسها العلم والعقلانية الوضعية، وتناهض المطلقات كافة بثالوثها الشهير: العمل، الإنتاج، التراكم.
وتحت دعاوى "الفردوس الأرضي"، ارتبطت تلك المرحلة بظهور أهل التخطيط والتنظيم والإنتاج، أو ما اصطَلَحَ عليهم "نيتشه" بالسوبرمان، فكان العمل الاقتصادي هو مصدر الملكية والثروة والماهية الخالصة للإنسانية، على قول "ماركس"، وكانت الرغبة حينها بالاتجاه نحو تحقيق الاقتصاد المستقر ومن ثم نهاية التاريخ بتلبية جميع الحاجات البشرية، وهو الأمر الذي يمكن بنظرة بسيطة على ما يحيط بك أن تعرف إن كان قد تحقَّق أم لا.
تتفكَّك الصلابة إذن، وتتحوَّل إلى سيولة "باومان" التي لم تحمل حُرَّاسا ولا أهل تخطيط، ولكنها قامت على أهل الصيد كما اصطلح زيغمونت باومان، وهم أهل الاستهلاك والسوق واللذة، الباحثين في كل يوم عن فريسة جديدة، والسابحين في حالة من اللا يقين والقلق المزمن من خسارة السباق. والنتيجة؟ ارتفاع رصيد المخاوف بسبب غياب التوقُّع وتآكل العُرف والعادة ومنظومة الأخلاق الاجتماعية، فالفرد لا يمكنه التعويل على دعم الأسرة الممتدة أو الأصدقاء نظرا إلى تفكُّك الروابط وتباعد المسافات وذوبان معنى الالتزام أمام المجموع[6].
إن الحداثة السائلة، عند "باومان"، ليست مرحلة جديدة، "ولكنها الشكل الجديد الذي أخذته الحداثة بعد أن فَشِلَ المشروع الحداثي الصُّلب في أن يُحقِّق النظام الذي ارتآه على الوجه المطلوب"[7]، إنها انفصال السلطة (قدرتنا على الفعل) عن السياسة (ما يجب فعله)، بمعنى أن الحداثة -بشكل أو بآخر- كانت تستهدف تثبيت الأوضاع، أي تفكيك أوضاع قديمة من أجل إعادة تشكيل أوضاع أكثر صلابة وثباتا في المستقبل، فإذا بها لم تنجح في تحقيق هذا الهدف لتدخل في مرحلة من السيولة المزمنة، التي لم تقد إلى نهاية التاريخ ولم تُحقِّق النظام الصلب "الفردوس الأرضي" الذي وعدت به، فانعكست العلاقة وصار المجتمع يتعايش مع المرونة ويتخلَّص من الثبات[8].
لقد تخلَّت الدولة في مرحلة السيولة عن دورها في كبح جماح الأفراد لصالح المجموع، مما فتح السوق أمام رأس المال الحر والاستهلاك والتحديث المستمر الذي لا غاية له ولا هدف إلا المزيد من الربح والإشباع الفوري والمؤقت للرغبات، والنتيجة هي أن يسكننا الخوف وأن نحيا بلا أمن وسعادة[9]؛ فنجد -للمفارقة- أن الإنسان الحديث، الذي ينعم بأفضل راحة وترف يفوقان سابقيه على مدار التاريخ البشري، هو مَن يشعر بأنه أكثر عُرضة للخطر وفقدان الأمان -خاصة في العالم الغربي أو في مجتمعات الرفاه في بلادنا-، فقد قطعت الحداثة عهدها بأن تمنع عنه التهديدات الكبرى عن طريق التقنية والعلم، ولكنها فشلت -حسب "باومان"- في تحريره من مخاوفها التي يُغذِّيها فقدان الأمان[10].
يُفسِّر ذلك قول "روبرت كاستل"، الذي يورده "باومان"، حين يقول إن شعورنا الشديد بفقدان الأمان لا يصدر عن ندرة الحماية، بل عن عدم وضوح نطاقها في عالم اجتماعي يتمركز حول طلب لا نهائي للحماية وبحث مسعور عن الأمن، فكل قُفْلٍ نضعه على الباب يجعل العالم أكثر إثارة للهلع، وصار هوسنا بالأمن وعدم احتمالنا لأي ثغرة بسيطة في التدابير الأمنية هو أخصب مصدر يتغذَّى عليه قلقنا وخوفنا، أي إن الألم صار أثرا جانبيا للتوقُّعات المتزايدة.
إن سرعة البرق التي تتحرَّك بها الموضة -في كل شيء-، مثالا على عجلة التحديث المتسارعة، هي أحد الأمثلة الصريحة التي يضربها "باومان" على نوعية هذا الخوف، فإذا ما أراد الفرد أن يبقى في مكانته، فإنه لا بد أن يجري، ويجري، ويجري، مدفوعا إلى الحركة الدائبة التي إن تخلَّف عنها فسيسبقه المتنافسون، فما هو موجود اليوم يختفي غدا، ولهذا يغرق الإنسان الحديث في القلق، وبهذا يتم استثمار الخوف.
مما سبق، يُخبرنا "باومان"[11] عن التحوُّل الجديد في مسيرة الحداثة -والدولة-، حيث تخلَّت الدولة عن مسؤولياتها تجاه الجموع بعدما تفكَّكت شبكة الرعاية والأمان الاجتماعي من قِبَلِها لصالح السوق. فمع بدايات الحداثة كان الارتباط بين الدولة والمواطنين قائما على علاقة متبادلة طويلة الأجل بين رأس المال والعمالة، يسميها "باومان" -اصطلاحا- المصنع الفوردي، مما أعطى ملاذا آمنا يُخفِّف من حِدَّة المخاوف الحياتية ومخاطر سوق العمل، كما كان التكافل الاجتماعي حينها يُمثِّل حاجزا أمنيا آخر على الطريق.
لكن مع تفكُّك هذه الصلابة المؤقتة تحت وطأة السوق الحر والنيوليبرالية والاستهلاك المقدس، انتقلت وعود الدولة من توفير الأمان المجتمعي إلى دائرة أضيق من توفير الأمن الشخصي للفرد، الذي احترفت هي تخويفه من كل شيء، من المجرمين والإرهابيين والثورات وكل ما يزعجها، ومن ثم استثمار حالة الخوف تلك على الوجه الأمثل، فباعت له سُبل الحماية سياسيا بخطاباتها ووعودها الجديدة.
ذلك الاستغلال الذي ساعدت عليه -أيضا- شخصية الإنسان الحديث التي تميل إلى الحلول السريعة وعدم التفكير في العواقب، والحماس لظهور البطل المُخَلِّص على حساب الحلول الجذرية التي تتطلَّب كثيرا من التدقيق والمراجعة، فأحسن أصحاب الخطاب المتطرف في استثمار مخاوف الشعب، ليخرج علينا أمثال "ترامب"، مُمنيًّا الجماهير بتخليصهم من تلك المخاوف، وتخرج علينا أيضا حكومات تُسوِّق للتقشف وابتلاع ثروات البلاد تحت اسم الحرب على الإرهاب والخروج من عنق الزجاجة، تلك الزجاجة التي خلقتها الدولة من الأصل وأحسنت المتاجرة بها، وهكذا هي السيرة[12].
لكن بشيء من التركيز على آلية من آليات استثمار الخوف تلك، سنجد، بصورة أكثر تماسا مع واقعنا المعاصر، في التقسيمات العُمْرانية المعروفة بالـ"كومباوندات" شيئا من هذا الاستثمار، حيث يرى البعض أن العالم الآن "يتحرَّك من تقسيم الحدود بين القارات والدول إلى تقسيم الحدود بين المواطنين بعضهم عن بعض"، كما أسهمت الحمى الاستهلاكيةُ والرغبة في اقتناص أعلى مكانة مُمكنة في تعريف مكانة المرء الجديدة حسب جودة المكان الذي يسكنه داخل هذه التقسيمات، "وتبقى وظيفة بناء الأسوار في تحديد الخارج من تلك الطبقة والمنتمين إليها".
فيربط المحرر "إسلام كرار" بين هذا الحدث وبين فكرة "ابن خلدون" عن الأثر السياسي للسلطة والدولة على تشكُّلات العمران، فيقول، ووفقا لابن خلدون، إن "عمران العالم يأتي بالعمران البشري، والبشر دائما يتعرَّضون لأحوال من التأنس والتوحش والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، لكنه -أي ابن خلدون- لم يفصل تلك الصفات والتغيرات التي تحدث للبشر عن السياق السياسي والاجتماعي وعلاقات القوة والسلطة التي تُشكِّل ظروف الإنسان وتؤثر على رؤيته للقبيح والحَسن"[13]، وهو الأثر الذي نراه الآن نتيجة لاستثمار الدولة خوف الناس في تشكيل مجتمعهم الجديد.
وتتناول الكاتبة "ناي لين" استثمار الخوف هنا، فتقول: "إن المدن التي شُيِّدت في الأصل لتوفير الأمان لجميع سكانها ترتبط هذه الأيام بالخطر، وقد زاد عامل الخوف في تشييد المدن، ويظهر ذلك في زيادة السيارات المقفلة، وأبواب المنازل المقفلة، والأنظمة الأمنية والشعبية المتزايدة، والمراقبة المتزايدة للفضاءات العامة"[14]، حيث أصبح الهلع والخوف، كما يقول "باومان" في موضع آخر من سلسلته[15]، هاجسين يرتبطان بالاختلاط، "ومع احتمالية التعددية وزيادة عدم الألفة بين أفراد المجتمع تستمر الهواجس في تأجيج الرغبة في الانعزال والتمييز"[16].
يتبدَّى ذلك -أيضا- بوضوح في اسم "اليوتوبيا" أو المدينة الفاضلة، وروايتها الشهيرة للكاتب "أحمد خالد توفيق" الذي تنبَّأ بالعاصمة الإدارية الجديدة في مصر عن طريق تشريح حالة الخوف التي تُوظِّفها الدولة -لدى طبقة الأثرياء- لصنع الفاصل الطبقي المرغوب، ومن ثم استنزافهم ماديا في دائرة الاستثمار المعماري الجديد من أجل الهرب من الغوغاء إلى مجتمعاتهم الآمنة المعزولة.
يقول الكاتب: "يوتوبيا.. المستعمرة المنعزلة التي كوَّنها الأثرياء على الساحل الشمالي ليحموا أنفسهم من بحر الفقر الغاضب بالخارج، والتي صارت تحوي كل شيء يريدونه.. يمكنك أن ترى معي معالمها.. البوابات العملاقة.. السلك المكهرب.. دوريات الحراسة التي تقوم بها شركة "سيفكو" التي يتكوَّن أكثر العاملين فيها من "مارينز" متقاعدين.. أحيانا يحاول أحد الفقراء التسلُّل للداخل من دون تصريح، فتُلاحقه طائرة الهليكوبتر وتقتله كما حدث في ذلك المشهد الذي لا يفارق خيالي". وهكذا يُسوَّق الخوف.
وتُعقِّب "هبة رؤوف" على كل ذلك قائلة إن ما تُوفِّره الأنظمة السياسية، ونظم التأمين، وشركات الحراسة، وكاميرات المراقبة، والأحياء المسوَّرة التي تفصل الأغنياء عن الفقراء -المتهمين بالإجرام- لا يُوفِّر الأمن في النهاية، إنه يُوفِّر الحماية فقط، ولا يعالج أسباب التوتر المستمرة في النزاعات المجتمعية، بل يزيدها. وليست خصخصة الأمن إلا مظهرا من مظاهر الزمن السائل الذي نعيشه.
كما تُعلِّق على ربط "باومان" بين كل ما سبق واستنزاف الموارد في هذا العالم على يد قوى السوق الدولية، التي لا يُبرِّئها من إثارة الحروب، فتقول إنه حين تسعى الرأسمالية خلف الثروة فإن الحرب والتهجير يصبحان أدوات مشروعة، والبشر مجرد نُفايات بشرية تُلقي بها الصراعات في أتون المعاناة، أو تُلقي بها السوق وأزماتها الاقتصادية في أتون الفقر[17]، ومن هنا نرى استثمار الخوف -من وجهة أخرى- في قضايا المعاناة واللاجئين لتخويف مواطني دول اللجوء وتمرير المزيد من الحروب والنزاعات.
"مع أن الرأسمالية تحتاج إلى منظومة اجتماعية غير رأسمالية لتكون بيئة تشهد تطورها، فإنها تتقدم بالتهام البيئة نفسها التي يمكنها وحدها أن تضمن وجودَها".
[روزا لوكسمبورج]
كحيّة تتغذَّى على ذيلها، يشرح "باومان" تناقض الرأسمالية البادي في المقولة السابقة، مؤكدا أن المسافة بين هذا الذيل والمعدة، أي المسافة بين الآكل والمأكول، صارت أقل وضوحا من ذي قبل، فالرأسمالية الحديثة، بنصّ قوله، تستمد طاقتها من تجريد الشركات من أصولها، مما يعني الحاجة الدائمة إلى أصول تلتهمها، ومن ثم بلوغ المرحلة التي لا توجد فيها أصول يمكن تجريدها.
فقد استشرفت "روزا" رأسمالية تحتضر بسبب اختفاء الطعام، لأنها التهمت الأرض الخَضِرَةَ الأخيرة التي كانت ترعى فيها عن طريق استنزاف المبيدات والكيماويات، ومن ثم تلوث المياه، إضافة إلى استيلاء الحكومات -من جهة أخرى- على الأراضي لاستثمارها زراعيا أو معماريا أو حتى ترفيهيا في أراضي الجولف، كلها أمور تصف كيف تأكل الرأسمالية ذيلها، وتقضي على المجتمع الذي أقامت أُسسها عليه.
إن الفقر -في هذا السياق- يصبح في حركة دائبة، ليس لأن الثروة تطارده، بل لأنه يتعرَّض للإجلاء عن مناطق داخلية نائية مُستنزفة تغيَّرت أحوالها، لنجد أن معدل البشر الذين يتحوَّلون إلى زيادة فائضة -بسبب ممارسات الرأسمالية- يزداد باستمرار، وأوشك على تجاوز مقدرة الكوكب على إدارته، وربما تختنق الحداثة الرأسمالية من نفاياتها التي لا يمكنها استيعابُها من جديد[18].
النفايات البشرية، ذلك هو المصطلح الذي أطلقه "باومان" على ضحايا العولمة التحديثية ممن لا حاجة للرأسمالية في وجودهم، فثمة فائض سكاني "لا يمكن إعادة دمجه في أنماط الحياة الطبيعية ولا يمكن إعادة تكييفه بحيث يصبح مرة أخرى من الأعضاء النافعين في المجتمع، وما إن تُسَّدُ قنوات تصريف الفائض البشري حتى تصبح الحروب والمذابح القبلية والميليشيات المسلحة ومهربو المخدرات الذين يدَّعون النضال من أجل الحرية هم أنابيب التصريف الجديدة، فهم يستوعبون ذلك الفائض السكاني ويُدمِّرونه أيضا في الوقت المناسب"[19].
تلك الحروب والمذابح التي أنتجتها آلة الحداثة، وهذه الأسواق التسليحية التي تُتاجر بها الرأسمالية في الحروب، لا يصدر عنها إلا تشريدُ آلافِ البشر وقتلُهم، بل الملايينِ منهم، فيضطرون للهرب من البلاد، "وربما تكون الصناعة الرائجة الوحيدة في أراضي أعضاء الحداثة المتأخرين -أو ما يسمى كذبا وتضليلا بالدول النامية- هي إنتاج اللاجئين بالجملة"[20]، وما سوريا عن الذِّكر ببعيدة.
وفي الطريق إلى المخيمات، المُسمَّاة ادعاءً بالملاذات الآمنة، يصف لنا "باومان"، قبل عقد من الزمان ،كيف يُجرَّد الناس من كل عنصر فريد من هوياتهم، ما عدا عنصرا واحدا وهو "اللاجئ غير الشرعي" الذي لا وظيفة له، ولا مكان له، ولا دولة له. فداخل أسوار المخيم "يصير اللاجئون كتلة مضغوطة مجهولة، بعدما حُرِموا من المزايا الاجتماعية الأساسية التي تُستَمد منها الهويات.. فإذا أصبح المرء لاجئا، فإن ذلك يعني فقدان الناس والأشياء الحاملة للمعاني، مثل الأرض والمنزل والقرية والآباء والممتلكات والوظائف، إلخ". فهؤلاء البشرُ المنجرفون لا يملكون حينها سوى حياتهم العارية، "وهي حياة تعتمد استمراريتها على المساعدات الإنسانية".
كما أنهم معزولون عن أهل البلد التي لجأوا إليها خلف حجاب منيع من الشك والكراهية، فهم "معلقون في فراغ مكاني توقَّف فيه الزمن، فلا هم مستقرون ولا هم مُتنقِّلون، ولا هم من أهل القعود ولا هم من أهل الترحال"[21]، وعلى هذا تقول "هبة رؤوف: "إن مخيم اللاجئين هو معسكر الآخر الذي أنتجته ثُكْنَةُ القوات المسلحة، التي تخوض حروبها وتترك خلفها تلك المآسي، ثم تعود لتستغلَّها في دعم شرعية النظم التي تتخذ الحرب مصدرا للقوة والثروة"[22].
هكذا قدَّم "باومان" أطروحته عن الخوف، بتفاصيل أكبر من ذكرها في هذا المقام. لكن لعل من أبرز الانتقادات الموجهة لفكر السوسيولوجي البولندي تتمثَّل في أن أكثر تفاصيل مجموعته النقدية مُستقاة من تطوُّر الحياة داخل المجتمعات الغربية، لكن هذا الفصل التام بين عالَمين غربي وغير غربي "ربما يكون غير مناسب للوقائع التي يعيشها عالمنا المعاصر، فكما بيَّن "باومان" نفسه كيف تعتاش الرأسمالية على أكل ذيلها، فكل تقدُّم وتراكم اقتصادي في ركن ما من العالم يعني بؤسا ونُفايات بشرية في ركن آخر"[23]، ومن ثم مزيدا من الخوف، ومزيدا من الاستثمار فيه.
——————————————————————
الهوامش
أ: يمكن مراجعة التقرير السابق: "مجموعة السوائل".. طريقك إلى نظرية "باومان" في علم الاجتماع.
ب: مدرسة فرانكفورت: هي مدرسة فلسفية ذات نزعة نقدية، تأسست في الثلاثينيات في القرن العشرين، وبلغت ذروتها عام 1968، وسُمّيت بهذا الاسم لاتخاذ معهد الأبحاث الاجتماعية في فرانكفورت مركزا لها آنذاك قبل خروجها من ألمانيا بعد وصول هتلر للحكم، ثم عودتها لها بعد انتهاء الحرب.
ج: الحداثة
—————————————————————————-
المصادر
- شاكر عبد الحميد، عصر الصورة.
- شاكر عبد الحميد، الفن والغرابة.
- مريم عادل، «الصرخة»: القلق الوجودي للإنسان الحديث.. قصة اللوحة الأشهر بعد الموناليزا.
- سمينار لمناقشة كتاب الحداثة السائلة لزيجمونت باومان.
- زيجمونت باومان، الخوف السائل.
- هبة رؤوف عزت، مقدمة الأزمنة السائلة.
- زيجمونت باومان، الحداثة السائلة.
- سمينار لمناقشة كتاب الحداثة السائلة لزيجمونت باومان.
- شوكت غرز الدين، مراجعة الخوف السائل، مركز حرمون للدراسات.
- زيجمونت باومان، الخوف السائل.
- زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة.
- زيجمونت باومان، الخوف السائل.
- إسلام كرار، شعب الكومباوند المصري.. مجتمعات راقية أم فصل عنصري؟
- Architecture of Fear, Nan Ellin
- زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة.
- هبة رؤوف عزت، مقدمة الأزمنة السائلة.
- المصدر نفسه.
- زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة.
- أحمد عبد الفتاح، الأزمنة السائلة: استثمار الخوف في المجتمع الحديث.
- زيجمونت باومان، الأزمنة السائلة.
- المصدر نفسه.
- هبة رؤوف عزت، مقدمة الأزمنة السائلة.
- أحمد عبد الفتاح، الأزمنة السائلة: استثمار الخوف في المجتمع الحديث.