الشعبوية ستمتلك الزمام.. هل تتحول أوروبا لعصر الكوابيس؟
منذ نصف عقد يسود جدل عام في الولايات المتحدة وأوروبا وأميركا الجنوبية وحتى الصين حول مستقبل الديمقراطية الليبرالية الغربية، أو ما يُعرف بإجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد وصول زعماء وتيارات سياسية من أقصى اليمين إلى صدارة المشهد السياسي، بداية من اليونان ثم سائر أوروبا الشرقية والوسطى مع صعود فيكتور أوربان في المجر والسلوفاكي روبرت فيكو وياروزلاف كاتشينسكي في بولندا، ثم جان ماري لوبان وحزبها في فرنسا، وصولا إلى قلب العالم الليبرالي حيث صعود دونالد ترامب وبوريس جونسون في كلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا، هذا فضلا عن تنامي شعبية كلٍّ من حزب البديل من أجل ألمانيا وحركة بيغيدا في ألمانيا.
أتى هذا الصعود المتلاحق بمنزلة ضربات متوالية للنظام السياسي العام في الغرب وأميركا اللاتينية، ولم تكن المنطقة العربية استثناء، ففي الديمقراطية العربية الوحيدة صعد المرشح المستقل قيس السعيد إلى الرئاسة في تونس متنافسا مع المرشح المستقل أيضا ورجل الأعمال نبيل القروي، ليتفوق الاثنان على كل مرشحي الأحزاب والقوى السياسية التقليدية، وأمام هذا التراجع العالمي للقوى السياسية الديمقراطية التقليدية، عادت من جديد أصداء مصطلح قديم في العلوم السياسية والاجتماعية، حيث بات جميع المعلقين في الصحف والمنصات الإعلامية يتحدثون أن كل هذه التغيرات نتيجة لعودة ظاهرة قديمة في ثياب جديدة، أي عودة الشعبوية.
أحد أبسط تعريفات الشعبوية كظاهرة سياسية هو أن الشعبوية هي "معاداة النُّخَب"، وأن سبب الصعود السريع لهؤلاء السياسيين الشعبويين هو أن المجتمعات فقدت الثقة بنُخَبها وأحزابها السياسية والتقليدية، ووجود رجل مثل دونالد ترامب مثلا على قمة السلطة السياسية بالولايات المتحدة الأميركية، والذي هو في الأساس رجل أعمال حقق شهرته من خلال قطاع الترفيه، وهو حاليا في البيت الأبيض، مرده الأساسي أن قطاعا واسعا من المواطنين الأميركيين لم يجدوا في كل مرشحي الحزب الديمقراطي والجمهوري التقليديين مَن يستحق ثقتهم وأصواتهم، الأمر نفسه ينطبق في تونس في حالة قيس السعيد، رغم البَوْن الشاسع بينه وبين ترامب، فإن صعود الرجلين هو تعبير عن فقدان الثقة في القوى والنُّخَب السياسية التقليدية.
ورغم صحة هذا التعريف للشعبوية فإن الكاتب يان فيرنر مولر يكشف عن بُعد آخر لتعريف الشعبوية، وهو "معاداة التعدد"، "إذ يجب علاوة على معاداة النخبة إضافة عنصر آخر وهو المتمثِّل في معاداة التعدد. إن ما يُمثِّل جوهر كل الشعبويين في نظري يكمن في التعبير عنه تقريبا كالآتي: نحن، ونحن فقط، مَن يُمثِّل الشعب الحقيقي"، الشعبوية هي بالأساس ممارسة خطابية تدّعي تمثيل قيم ومصالح وهوية الشعب ضد خصومه، قد يكون هؤلاء الخصوم هم النخب السياسية الليبرالية أو النخب الثقافية والمالية مثلا، وقد يكون الخصوم هم الأقليات الثقافية والدينية أو المهاجرين، الأهم هو أن الشعبوية هي حديث باسم صورة شعب موحد متماسك لا فروقات أو اختلافات بينية داخله ضد آخرين لا ينتمون إلى هذا الشعب.
يتّفق عزمي بشارة مع فيرنر مولر في تعريف الشعبوية بأنها معاداة للتعدد، لكن ثمة إضافة مهمة لبشارة وهي أن العداء للتعدد الثقافي والسياسي ترتّب عليه عداء الشعبوية لكل أشكال البنى المؤسسية داخل النظام الديمقراطي، والمؤسسات البرلمانية والقضائية ومنظمات المجتمع المدني والمحاكم الدستورية وحتى المنظمات الدولية والإقليمية، حيث تميل الشعبوية لكي تشعر بالتجانس إلى شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة على الطريقة البدائية (ديمقراطية الجموع)، ويرى الشعبويون في تلك المؤسسات ضروبا من التزوير للإرادة الشعبية وعرقلتها، حيث يتصوّر السياسي الشعبوي والجماهير الشعبوية العلاقة بين الشعب وممثليه علاقة مباشرة دون أي وسيط سياسي مؤسسي أو دستوري، مما يتطلّب تواصلا مستمرا بين الشعب وزعيمه الشعبوي من خلال المؤتمرات الجماهيرية الحاشدة وحتى مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا.
في كتابه "ما الشعبوية؟"، يُنبّه الباحث يان فيرنر مولر إلى خطأين شائعين يقع فيهما العديد من الليبراليين والنشطاء الحقوقيين، والعديد من المعلقين أو المهتمين بالشأن السياسي بصفة عامة:
أولهما هو اختزال الشعبوية في أسباب نفسية واجتماعية فقط، كالقول مثلا إن مؤيدي اليمين الشعبوي في أوروبا هم من شرائح توجد أسفل الطبقة الوسطى، تلك الشريحة العريضة المهددة دائما بكوابيس السقوط الاجتماعي، فيلجؤون إلى خطابات شعبوية تعِدهم بحل مشكلاتهم ويُحرِّكهم الغل والغضب من المهاجرين والأقليات والنخب المالية والمشاهير والأغنياء.
الخطأ الثاني، وبكيفية الخطأ الأول نفسها، هو اختزال تنامي الشعبوية في بلد ما لأسباب ثقافية فحسب، كالقول مثلا إن انتخاب المصريين لأحزاب الإسلام السياسي هو تجلّي احتقار الثقافة الإسلامية للقيم الليبرالية وقيم التعدد والاختلاف.
هنا يُرجِع يان فيرنر جذور الشعبوية إلى توتر بنيوي كامن في الديمقراطية الليبرالية، بين التقليد الديمقراطي الأصلي القائم على المساواة بين جميع أفراد الشعب الواحد، المتمركز حول مقولات أساسية مثل: "حكم الشعب" و"السيادة الشعبية" و"إرادة الجماهير" باعتبارهم كلًّا واحدا متساوين أخلاقيا، وبين التصور الليبرالي للديمقراطية القائم على الحرية، الذي -حسب وجهة النظر هذه- ربما اختزل الديمقراطية في العناصر الليبرالية فقط "حريات سياسية، حقوق فردية، حرية التعبير، مركزية المؤسسات والأحزاب في الممارسة السياسية، الفصل بين السلطات".
يُفصِّل عزمي بشارة أكثر موضحا أن الديمقراطية التي تعني حكم الشعب، أو للدقة حكم الأغلبية من الشعب، تُقيَّد ليبراليا ومؤسسيا بعدة قيود دستورية ومؤسسية، فمن ناحية ينص الدستور الليبرالي على قداسة الحرية الفردية، وحماية الأقليات من إرادة الأغلبية، وعدم دستورية أي قانون تقترحه الأغلبية يمس الحريات والأقليات والملكية الخاصة أو حرية الإعلام والرأي، ومركزية مؤسسات غير منتخبة وغير تمثيلية في صنع القرار السياسي والقانوني مثل المحكمة الدستورية والهيئات القضائية العليا ولجان الأمن القومي، ومن ناحية أخرى تُمارَس السياسة عبر مؤسسات وسيطة كالأحزاب والمجالس النيابية وعبر سياسيين محترفين، مما يسمح بنشوء طبقة سياسية تكون بمنزلة الوسيط بين الشعب ورأس السلطة السياسية.
هذه التوترات في حد ذاتها -يضيف بشارة- لا تؤدي تلقائيا وبالضرورة إلى غضب قطاعات اجتماعية واسعة من النظام أو نشوء خطاب شعبوي، فنادرا ما يفكر عوام الناس في مثل هذه الأمور، لكن تلك التوترات تبدأ في الظهور على السطح مع ظهور صراعات تتعلق باختلال أحد ركني النظام على حساب الآخر، أي الركن الديمقراطي القائم على المساواة والركن الليبرالي القائم على الحرية، مع ظهور التفاوتات الاجتماعية الكبيرة وفجوات توزيع الثروة والدخل وازدياد النفوذ السياسي لفئات أو طبقات بعينها، أو ازدياد الشعور عند قطاعات واسعة من الأغلبية بالاغتراب وبالتهديد على مستوى الهوية والرموز والحقوق الجماعية المادية والرمزية، فضلا عن تزايد استقلال الطبقة السياسية عن شرائح المجتمع المفترض من تلك الطبقة السياسية تمثيلها في أجهزة الدولة المختلفة.
تؤدي تلك الاختلالات في النظام إلى تعميم حالة من الاغتراب السياسي عند قطاع واسع من المجتمع، ومن صلب هذا الاغتراب تأتي الشعبوية ويظهر الزعماء الشعبويون، يُقدِّمون للكتل القلقة وعودا بسيطة تغلب عليها الشعارات، وينشرون فكرة أنهم قادمون لتخليصهم من كل مشكلاتهم اليومية بقوة الإرادة. فيُعَدُّ شعار دونالد ترامب "Make America great again" شعارا بسيطا، لكنه في السياق السياسي الأميركي الحالي يحمل دلالات متعددة كلها تخاطب شرائح اجتماعية تشعر بالتهميش والاغتراب. الأمر ذاته ينطبق على دعاة البريكست في بريطانيا وشعارهم "We want our country back"، شعار بسيط ويبدو أنه يلخص العديد من الإشكالات للعامة من الناس الذين ملوا الحوارات السياسية العقيمة بين الأحزاب والقوى السياسية التقليدية.
ولدينا مثال قريب وهو تونس الديمقراطية العربية الوليدة والوحيدة، حيث أدّى استغراق النخبة السياسية لما بعد الثورة في صراعاتها الأيديولوجية، فضلا عن الاستقلالية المتزايدة لنواب البرلمان الذين باتوا ينتقلون بين الأحزاب ببراغماتية متناهية بشكل أثار إحباط ناخبيهم، كل هذا أدّى إلى تنامي الإحساس بفقدان الثقة بين قطاعات اجتماعية وبين الطبقة السياسية، التي استقلت تماما عن قواعدها الاجتماعية والانتخابية وأصبحت تدور في فلك مصالحها وتحالفاتها الخاصة فقط. هكذا، بات البرلمان التونسي في نظر قطاع واسع مجرد مكان يلتقي فيه ممثلو الأحزاب ليُعلنوا قراراتهم التي اتخذوها سلفا خلف الأبواب المغلقة، وحين أتت الانتخابات الرئاسية خسر كل مرشحي الأحزاب الرئيسية وتنافس اثنان من خارج المشهد السياسي لمجرد أنهما قدّما نفسيهما كمرشحين من عوام الناس بلا أي انتماءات سياسية، ليفوز أحدهما بأهم منصب سياسي في البلد.
ويرى عزمي بشارة أن هذا التوتر أو الجدل بالأحرى بين مكونات الديمقراطية الليبرالية، أي بين الحرية والفردانية وبين المساواة والهوية، لن ينتهي طالما ظلت الديمقراطية الليبرالية هي نظام الحكم المعياري الموجود في العالم، لكن مستقبل هذا النظام مرهون -بحسب عزمي- باستيعاب الليبراليين الدرس واحترام النُّخب والنشطاء والمنظمات الليبرالية للثقافات المحلية للمجتمعات وشبكة الرموز والمقدسات التي يستقون منها معاني وجودهم والتعهدات العلنية والضمنية التي تربط السياسيين بقواعدهم، حتى لا تشعر القطاعات المتوسطة في المجتمع بالاغتراب وتقع فريسة الخطاب الشعبوي، والأهم هو سؤال العدالة والمساواة الذي فجّرته السياسات النيوليبرالية التي فصلت بين المساواة وقيم التعاقد الاجتماعي الديمقراطي وبين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والتي كانت جزءا لا يتجزأ من الديمقراطية الليبرالية في السابق، وبروز ظاهرة العودة إلى الهويات الإثنية المحلية في مواجهة الهوية الكوزموبوليتانية الاستهلاكية التي تسوقها النيوليبرالية وتدعمها في ذلك النُّخب الليبرالية والنشطاء في الإن جي أوز المدعومة من المنظمات الدولية.
بهذين الاستجابتين تحديدا (احترام الثقافة المحلية للمجتمعات، وتقييم ضرر النيوليبرالية) يرهن عزمي بشارة مستقبل الديمقراطية الليبرالية حول العالم، مردفا أن الميزة الأهم في الديمقراطيات الراسخة هو أنها تستطيع أن تستفيد من الأخطاء والأزمات لإصلاح نفسها وتوسيع تمثيلها ودمجها لقوى سياسية مختلفة، حيث يمكن النظر للشعبوية بشكل إيجابي بأنها من الممكن أن تدفع الأنظمة لتحقيق زيادة واسعة وذات معنى في المشاركة الشعبية في المؤسسات السياسية، "حيث يمكن للنظام الديمقراطي أن يستوعب في أُطره المؤسسية الحركات الشعبوية السياسية ذاتها ويحتويها، فيؤثر هذا الاحتواء في تعديل خطابها، ولكنها ليست الوحيدة التي تتغير خلال احتواء النظام الديمقراطي التعددي لها، بل يتغير النظام الديمقراطي نفسه في عملية احتوائه لها".
___________________________________
المصادر:
- في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟، عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- ما الشعبوية؟، يان فيرنر مولر، ترجمة رشيد بوطيب، منتدى العلاقات العربية والدولية.