شعار قسم ميدان

تكشف حقيقة البشر وتغير طبائعهم.. كيف تؤثر الأوبئة على حياتنا؟

"إننا نهاب جدا فكرة موتنا"

(رواية العمى، جوزيه ساراماغو)

حسنا، ربما مللنا انتظار الإيجازات الصحفية حول فيروس كورونا المستجد (Covid-19)، والبحث المتوالي عن أعداد الإصابات في بلادنا، أخبار أسعار النفط العالمية والبورصات، قرارات فتح أو إغلاق المحال التجارية، أو إغلاق المدارس والجامعات. جميعنا ندعو لاستعادة حياتنا بتلك الصورة التي تخلو من الخوف الذي يتّصل بأبسط سلوكياتنا التي اعتدنا عليها؛ الخوف من ملامسة سطح ربما وقع عليه بعض الرذاذ الملوث بالفيروس، أو حتى مصافحة صديق طال غيابه. جميعنا ننتظر اللحظة التي ينتهي فيها هذا الكابوس وتتوقف أفكار الخوف من الإصابة بالمرض، أو إصابة قريب أو عزيز، لأننا جميعنا نهاب فكرة الموت، ونخاف فكرة المرض والفقدان.

 

فالمجتمعات الإنسانية، على اختلافها، واجهت على مر التاريخ موجات من الأمراض التي أثّرت على خبرات الأفراد ونفسياتهم وسلوكهم، وجعلتهم يطرحون الكثير من الأسئلة الوجودية التي لم تكن لتخطر عليهم لولا تلك الفترات العصيبة، الأمر الذي دفعَ عددا غير قليل من الأدباء والشعراء للتطرق لها في أعمالهم، فخصوصية تجربة المرض وانتشار الأوبئة تتمثّل في تأرجح الفرد بين احتمالية المرض والموت أو فقدان أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء، أو ربما فقدان العمل، أو فقدان القدرة على الحصول على أدنى الاحتياجات التي تُمكّن الإنسان من البقاء على قيد الحياة. وبنظرة بانورامية لوضع العالم هذه الفترة، ستلحظ مثلا المقاطع التي انتشرت لفيضانات المُستَهلكين الذين سُرعان ما أغرقوا مراكز التسوق عَقِبَ إعلان الحكومات موعد حظر التجول مدفوعين بخوفهم من القادم.

الازدحام في المحلات التجارية بعد تفشي فيروس كورونا

وربما يتشابه ما نعيشه حاليا مع الواقع الذي نلحظه في رواية "العَمَى" المنشورة عام 1995، والتي تحدّث فيها الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو عن قصة وباء غير معلوم الأسباب ينتشر في مدينة مجهولة الاسم، فيُصاب معظم أبنائها بالعمى، وما ترتب عليه من آثار نفسية واجتماعية (1). جاءت الرواية لتُعبِّرَ عمّا يعتري قلوب المرضى وغير المرضى من مشاعر وأفكار في فترات المرض القاسية. هذه الرواية بالتأكيد ليست الرواية الأولى التي تحدّثت عن فترات الأوبئة، إذ سبَقها وتلاها الكثير من الروايات التي تركت بصمتها الواضحة في أذهان قُرّائها، كرواية "الطاعون" للكاتب الفرنسي ألبير كامو على سبيل المثال.

الخوف في زمن الأوبئة

"بالنسبة إلى الخائف، كلّ شيء يُصدِر حفيفا"

(الروائي اليوناني سوفوقليس)

في الواقع، يُعَدُّ فراغ بعض رفوف مراكز التسوق بالكامل بشكل هستيريّ مؤشّرا واضحا إلى مقدار التأثير الذي تلعبه هذه الفترات العصيبة على سلوكنا، حيث يصبح الرهان على عقلانية الإنسان أمرا غير معقول، وهي السلوكيات والانفعالات التي يمكن أن نعدها تجسيدا لما أسماه عالم الاجتماع ألفريد شوتز بـ "العقلانية الهشة"، حيث يُشير هذا المصطلح إلى الازدواجية في سلوكيات الإنسان باعتبارها مُغلّفة بقشرة من العقلانية، والتي سُرعان ما تذوب في فترات الأوبئة، لتحل اللا عقلانية باعتبارها الانفعال المُمسك بزمام الأمور، ويتحكم الخوف والقلق والارتياب بالإنسان، ويدفعه إلى ممارسات "مبالغ فيها"، كمحاولة تخزين كميات هستيرية من السلع الضرورية وحتى غير الضرورية مدفوعا بانفعالاته وخوفه، ويستعيد الفرد بشكل أو بآخر نمطا قريبا من الحياة البدائية التي تُحرّكها الاحتياجات الأولية من طعام وشراب، والانفعالات العشوائية، فتشلّ تفكيره وحركته وتُسيطر عليه كليا (2).

الأرفف فارغة بالمحلات بعد تفشي فيروس كورونا

الأمر ذاته، بما يحمله من كثافة، يحدُث مع الإنسان في فترات الأوبئة، لأنها ذات طابع خاص، فالإنسان هنا يواجه عدوا خفيا، وغادرا، من الممكن أن يخرج له حتى من قُبُلات الأبناء أو مصافحة الآباء، لذلك فتأثيره استثنائيّ، إذ جميعنا مُعرَّضون لأن نكون ضحايا هذا الكائن غير المرئي، الأمر الذي ينعكس علينا ذعرا وخوفا، ويصل حدَّ الهلع.

 

ومما اهتم به العلماء والفلاسفة سابقا، وما زالوا، العلاقة التي تربط بين خوف الإنسان وبين ممارسته لسلوكيات عدوانية واستثنائية. من هذه الأرضية، وضَعَ عالم الاجتماع الإنجليزي توماس مقولة مفادها "الخوف بين البشر يتراكم جرّاء الخوف"، وهذا ما يدفع الإنسان الخائف إلى حماية نفسه بالتسلح مثلا، ويدفع الآخر الخائف منه إلى مزيد من التسلح، وهكذا، حتى يصبح الجميع عدو الجميع، ويصبح أقرب الناس إلينا محل شك، فتتغير أنماط التعامل حتى داخل العائلة نفسها. (3)

 

وأثناء انتشار الأوبئة، لا يقف الفرد في مواجهة مُسبب المرض أو أعراضه الصحية ومضاعفاته فحسب، بل يواجه أيضا انعدام يقينه المرتبط بالأساس باحتمالات الإصابة بالمرض أو إمكانية كونه حاملا أو ناقلا له، وكذلك مخاوفه من الطرق التي ستتعامل فيها الطواقم الطبية معه فيها، أو إمكانية وجوده في مكان موبوء، وجميع تلك الطبقات المكثّفة من غياب اليقين تدفع الفرد لأن يكون غير قادر على الوثوق حتى في الطريقة التي يسير عليها، مما يُولّدُ ضغطا إضافيا عليه (2).

 

وبالابتعاد قليلا عن التفسيرات النظرية لمخاوفنا وارتيابنا في فترات الأوبئة، سنجد أن التاريخ يُعزِّز هذه المخاوف، فتاريخنا يفيض بالأوبئة التي فتكت بالبشر وقتلت أعدادا عظيمة منهم وغيّرت عوالم سياسية واقتصادية، حيث وضع تفشي مرض الطاعون في القرن السادس حدا لفترة حكم إمبراطور بيزنطة جستنيان الأول، وقتل ما بين 30 و50 مليون شخص، أي ما يعادل نصف سكان العالم في ذلك الوقت (4)، وبالرغم من التقدم التقني والطبّي الذي نعيشه اليوم، والذي يختلف جذريا عمّا كان عليه سابقا، فإننا ما زلنا نشعر بذلك الخوف، وانعدام اليقين، حتى وإن كنّا نعيش على أمل بانحسار الأوبئة بقيادة القاطرة التقنية العالمية.

الطاعون

غريزة البقاء وإشاعات مواقع التواصل الاجتماعي

"يُناضِل الناس من أجل البقاء على قيْدِ الحياة"
(باولو كويلو)

على الضّفة الأخرى، بتنا نعيش في عصر مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح شغل عدد كبير من حسابات الفاعلين فيها متّجها لنشر الأخبار والإشاعات حول أعداد الإصابات وسبل الوقاية والتعافي، وبدلا من كونها وسيلة ناقلة للخبر والمعلومة من مصدرها الرئيسي، تحولت إلى أدوات ضغط جديدة نحتت الذعر والأوهام في عقول الكثير من روّادها (5).

 

ربما يميل نسبة لا بأس فيها من جمهور مواقع التواصل الاجتماعي إلى تصديق الإشاعات، خاصة تلك التي تتحدث عن طرق الوقاية والتعافي، أو تلك التي تتحدث عن انحسار الفيروس بدرجة حرارة معينة -والتي ثبت عدم دقة معظمها-، إلا أن هذا الميل نحو التصديق مدفوع بالارتباك والخوف من جهة -كما سبق وذكرنا-، ومن الجهة الأخرى هو مدفوع بنضال الإنسان ورغبته في الحياة أو ما يسمى بـ "غريزة البقاء"، التي تنشط داخلنا في الأزمات وتجعلنا نقنع أنفسنا بصدق هذه الإشاعات، وقد أكّد وجودها ونشاطها علماء التحليل النفسي، حيث يرى سيغموند فرويد أن لدى الإنسان غريزتين هما غريزة الحياة وغريزة الموت وهو في صراع دائم بينهما (6).

 

وفي فترات الأزمات، يصبح للحياة طعم، ويصبح التشبث بالعيش أقوى لدى الأفراد على اختلاف بيئاتهم ودياناتهم وواقعهم، فتتفوق غريزة الحياة والبقاء (7)، وهي لا تقتصر على البشر كأفراد بل تطول أيضا المجتمعات والدول، حيث تسابق الدول اليوم الزمن من أجل الوصول إلى علاج أو لقاح لفيروس الكورونا، وتحتل عناوين إيجاد الدولة الفلانية لعلاج الفيروس وسائل الإعلام، وهذا كله ليس إلا انعكاسا لرغبة الإنسان بالاستمرار في هذه الحياة.

لكن ما كشفه الوباء أيضا بشكل علني هو تلك النزعة الأنانية للأفراد والتي تدفعهم للبحث عن كل ما يحافظ على حياتهم دون تفكير بالآخر، وهي غريزة تجد مشروعيتها انطلاقا من إحساس الإنسان بتهديد بقائه (8)، وهذا يُفسِّر حمى شراء السلع التي أصابت الأفراد مع بداية جائحة كورونا، حيث نفدت كميات كبيرة من السلع بشكل حرم البعض الآخر من الحصول عليها، والسبب في ذلك يعود إلى حرص الأفراد على البقاء على قيد الحياة وتحقيق احتياجاتهم، دون مراعاة كثير منهم لأثر نفاد هذه السلع على غيرهم، وبالطبع هذا كله مدفوع بذعرهم مما ينتظرهم وضبابية الأيام أمامهم (9).

الأوبئة والمجتمعات

وفي سبيل سعي الفرد نحو الحفاظ على بقائه ووجوده في فترات الأوبئة، فإنه يحاول بناء مسافات أمان مع الآخرين، تُمكِّنه من البقاء محميا قدر الإمكان، وتصبح العزلة ملاذه، ففترات الأوبئة تُعزِّز محاولات الأفراد الابتعاد عن بعضهم، والاقتصار على ما هو ضروري فقط، الأمر الذي يُهدِّد العلاقات الاجتماعية خاصة في مجتمعاتنا العربية التي تعتمد بالأساس على العلاقات الاجتماعية والمشاركة في المناسبات وما إلى ذلك (8). من هنا، يرى مؤرخ العلوم الفرنسي لوران هنري – فينيو أن "انتشار وباء يُشكِّل دوما امتحانا لمجتمع وحقبة"، ويوضح أن الأوبئة "تُهدِّد الروابط الاجتماعية وتُطلق العنان لشكل خفي من حرب أهلية يكون فيها الجميع حذرا من جاره" (10)، وهذا الأمر يمتد لما بعد الأوبئة ويؤثر على سلوكات الأفراد واتجاهاتهم.

 

وبالعودة أيضا للتاريخ، فقد عَلِقت تجارب الأوبئة في عقول البشر بسبب قساوتها من جهة، وبسبب ما تركته بصماتها في المجتمعات والحياة الاجتماعية من جهة أخرى، حيث خاض الإنسان تجارب أوبئة كالطاعون أو الإنفلونزا الإسبانية أو الكوليرا كما خاض الحروب، وأدّت إلى تغيرات جذرية في أنماط الحياة والقيم والأفكار، وقد اجتمع علماء النفس الاجتماعي على أنها وإن اختلفت أزمنتها وأماكنها وأشكالها فإنها كانت قادرة على نقش أنماط سلوكية ونفسية واجتماعية ارتبطت بتلك الفترات واستمرت بعدها، وجميع هذه التغيرات والسلوكات -وفق الدراسات- تأتي تحت وقع الخوف الجماعي والمعاناة والتفسيرات المرتبطة بها، إضافة إلى التناقضات القيمية، والإستراتيجيات المتّبعة لمواجهة الأوبئة (11).

الإنفلونزا الإسبانية

ومن المثير للاهتمام حول الأوبئة أن هذه الأمراض لديها القدرة على إصابة جميع البشر على اختلاف أماكن وجودهم، أو أرصدة البنوك أو الحالة الاجتماعية أو السلالة البشرية، وكلما قرأنا أكثر عن الأوبئة وسبل انتشارها أو حتى وجودها من البداية، سندرك أنها ظاهرة نفسية سلوكية بالأساس، فهي وإن كانت قد تشكّلت من فيروسات، فإنها أخذت قالب الوباء المنتشر عبر سلوك الناس وطرق تصرفهم. نظرا لذلك، يرى علماء النفس أن مواسم الأوبئة ترتبط بشكل كبير بالعنصرية وإلقاء اللوم على مجموعات معينة من الناس (12)، خصوصا أولئك الذين ينتمون إلى البلدان التي ظهر فيها المرض أول مرة، كما حدث في الصين في زمن الكورونا، فهذه الأوبئة وإن كانت قادرة على التسلل إلينا جميعا، إلا أننا نفكّر، عادة، بلوم الآخر الذي نقلها إلينا أو تسبّب بها.

 

هذا اللوم والممارسات المدفوعة بالخوف والقلق بالأساس هي انعكاس لأفكار لم تكن قادرة على الخروج إلى الملأ في الأوقات العادية، لتطفو على السطح في الأزمات، وقد تحدث الكاتب البرتغالي ساراماغو عن هذا الأمر في رواية "العمى" على لسان واحدة من الشخصيات التي قالت: "لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون"، في إشارة إلى هشاشة المبادئ التي تدعو إلى احترام الآخر ودعمه والتكافل معه أمام العوز البشري (13).

 

ختاما، اجتياز فترات الأوبئة لم يكن سهلا على أسلافنا، والأمر ذاته ينطبق علينا جميعا، إذ علينا ألّا نُسلّم أنفسنا للخوف، وأن نبتعد، قدر الإمكان، عن الأنانية، فنحنُ جميعا في المركب ذاته، ولا نعلم شكل الحياة الجديد الذي ينتظرنا، أو ما إذا كنا قادرين على تقبُّله أو العيش فيه، شكلا ربما تصبح فيه حتى المصافحة بالأيدي ترفا، ونفقد معه كثيرا مما اعتدنا عليه. لذا، علينا التفكير بتروٍّ، لنكون قادرين على تجاوز الجائحة التي سبّبها كائن لا نستطيع حتى رؤيته بعيوننا، لكنه فعل بنا ما لم تفعله أعتى الأسلحة.

_________________________________________________-

المصادر:

  1. In Saramago’s Blindness "A Vision of Human Nature".
  2. ماذا يحدث للمجتمعات عند تعرضها لوباء مفاجئ؟
  3. سيكولوجية البشر في أزمنة انتشار الأوبئة.
  4. الحب في زمن الكورونا.
  5. "إمبراطورية الذعر".. كيف ساهمت الإشاعات في نشر فايروس كورونا؟
  6. غريزة البقاء.. لماذا يريد الإنسان أن يعيش؟
  7. الحياة في زمن الكورونا.
  8. كورونا وغريزة البقاء وغزة.
  9. Psicosi da coronavirus e assalto ai supermercati: cosa dice la psicologia?
  10. ما الآثار التي تتركها الأوبئة الكبرى في المجتمعات؟
  11. سيكولوجية الأوبئة، تونس والتونسيون زمن الكورونا.
  12. أوبئة نفسية في الأساس.. كيف تغذي جائحة كورونا الكراهية في أميركا؟
  13. ما بين الكورونا والرواية الفنتازية "العمى" رائعة البرتغالي جوزيه ساراماغو.