شعار قسم ميدان

هل أصبح التحرش الجنسي حقًا للرجل في الثقافة العربية؟

 

في ليلة رأس السنة، في حين كان الكثيرون في جميع أنحاء العالم يحتفلون بقدوم عام جديد، خرجت فتاة برفقة صديقها وصديقتها للاحتفال. حتى الآن لا شيء يبدو غريبا، لكن في مدينة المنصورة شمال مصر، انقلب الاحتفال إلى ليلة لن تُمحى من ذاكرة هذه الفتاة، إذ عِوضا عن أن تحظى بوقت ممتع، حظيت بحادثة تحرش جماعيّ وأجساد هائلة لاحقتها لتخترق حُرمة جسدها من كل حدب وصوب، وقد تصدّرت صفحات المواقع الاجتماعي والأخبار بحادثة التحرش الجديدة في مصر، التي سُمِّيت بحادثة "فتاة المنصورة"، وهي واحدة من عدد لا ينتهي من حالات التحرش المتجددة على الدوام في مصر، آخرها حادثة "فتاة المعادي" التي لقيت حتفها تحت سيارة نقل جماعي، مما أثار حالة غضب عارم على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا مع وجود روايات حول تعرُّض الفتاة للمضايقة والتحرش من المتهمين، رغم أن بيانات النيابة العامة لم تُفِد بأنها تعرضت للتحرش، فالتهمة المُوجَّهة لهم هي القتل المقترن بالسرقة بالإكراه، لكن ردود الأفعال الغاضبة حول احتمال تعرُّض الفتاة للتحرش هي ببساطة انعكاس لحالة غليان مستمرة ومخاوف وتساؤلات بشأن سلامة النساء في مصر.

 

كثرت الأقاويل عن أن ظاهرة التحرش توسعت وذاع صيتها في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 م، من خلال التحرشات الجماعية التي حدثت في الميادين العامة ومراكز تجمعات الثورة، عبر فيديوهات شاهدها الجميع ونُشِرت عبر القنوات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، وهناك مَن يُرجِع الانتشار في الحديث عنها في هذا التوقيت بالذات إلى أهداف سياسية، كما كتب د. أحمد بدوي في مقاله "التوظيف السياسي: ظاهرة التحرش الجنسي في مصر"(1)، ولكن ما يخبرنا به بدوي وغيره من التقارير السابقة لثورة يناير أن ظاهرة التحرش بهذا الحجم ظاهرة موجودة ومسكوت عنها منذ وقت طويل في المجتمع المصري، ولكن التوقيت السياسي هو ما منح الفرصة للحديث عنها بهذا الشكل بعد أحداث الثورة، ففي دراسة أعدَّها المركز المصري لحقوق المرأة عام 2008، أي قبل ثورة 25 يناير، بعنوان "غيوم في سماء مصر"، فإن 83% من المصريات و98% من الأجنبيات تعرَّضن للتحرش الجنسي بأشكاله المختلفة(2).

 

وبالتزامن مع حالة التحرش الجماعي التي حدثت في المنصورة، ظهرت أغنية في اليوم ذاته من العام الجديد، أغنية "عشان تبقي تقولي لاء"، التي تلقاها الكثيرون باعتبارها تدعو للتهديد بأي فتاة ترفض التقرب من الرجل الشرقي، في حين أن تميم يونس صرّح بأنها مجرد سخرية من هذا النموذج للرجل. ولكن في حين يمكننا تقبُّل الآراء المختلفة حول الأغنية وفهمها باعتباره شيئا "فنيّا" نوعا ما -على خطورته-، فإننا لا يمكننا استيعاب ما صدر من ردود أفعال بعض الناس على حادثة تحرش المنصورة، التي وضعت الفتاة محل تهمة، وأنها السبب فيما جرى لها، خاصة من النساء أنفسهن، كما استعرض برنامج "بي بي سي ترندنغ"(3) الحدث والآراء المتباينة حوله، فيقول محمد عبد الله: "هي بنت نازلة كده ازاي الساعة 12 بالليل وهي عارفة هي نازلة فين، كانت فاكرة ايه لما الشباب حيشوفها هيعملوا فيها ايه؟ هيغمضوا عنيهم مثلا؟ اللي حصل فيها حلال يابا"، كما تقول يارا: "طبعا اللي حصل للبنت في ليلة رأس السنة ده طبيعي، إحنا بمجتمع شرقي وما علينا من الناس اللي بتقول اللبس ده حرية شخصية.. بس اللبس اللي هي كانت لبساه ده لبس كباريهات، ميتنزلش بيه الشارع عادي كده، الغلط الكبير عليها، ومحدش يقول الله أعلم بظروفها". ومن خلال هذه المواقف نتساءل: هل أصبح التحرش الجنسي حقا للرجل في الثقافة العربية؟

 

التحرش الجنسي في مصر

يُجيب أستاذ علم النفس الإجتماعي د. عزام أمين في حوار لـ "ميدان" عن سؤالنا له عن التحرش ومفهوم حُرمة الجسد، وما تفسير فكرة التحرش الجماعي، ولماذا يحدث في الثقافة العربية من منطلق الحق والطبيعي، فيقول: "يظل للتحرش الجنسي والاغتصاب أثره الدائم والعظيم على الجسد، وذلك لاختراقه مناطق خاصة جدا وحميمية في الإنسان، فمثلا، قد يكون الضرب أو العنف -دون أي تبرير- ذا أثر أقل على الإنسان من فكرة الاغتصاب، وذلك لأن الجنس هو اختراق للجسد بالمعنى الحرفي للكلمة، هو انكشاف كامل وتعرٍّ لا نمنحه لأي شخص، إلا إذا امتلك مكانة ما لدينا وقدَّم قربانا روحيّا سابقا لهذه المكاشفة، لذلك فإنه يصير في مكانة المهانة والاعتداء إذا ما حصل بشكل خاطئ أو بالإجبار، فكل شخص يحتاج إلى مسافة أمان حول جسده ليشعر بالارتياح (personal space)، وهذه المسافة لا نحترمها بشكل كافٍ في ثقافتنا العربية، وكلّما حُوصِرَت هذه المسافة أو تُعُدِّيَ عليها يبدأ الجسد بالقلق وعدم الارتياح، فقد تلاحظين أن الأشخاص الغرباء الذين يلتقون في المصعد لمدة طويلة يعتريهم شيء من الارتباك والقلق، ويبدؤون بالنظر إلى الأعلى والأسفل أو يصطنعون الالتهاء بأمر ما، وذلك بسبب وجودهم على مسافة قريبة جدا من أشخاص غرباء يحاصرونهم، فيشعر الجسد بالتهديد والارتباك تلقائيّا".

 

"أما علاقة الرجل سواء كان عربيا أو فرنسيا أو غيره بجسد المرأة" في الثقافات القديمة جميعها منذ انقلاب المجتمعات من مجتمعات أمومية إلى مجتمعات ذكورية أبوية، وتَشكُّل مفهوم العائلة، ومفهوم العائلة يقوم على أب واحد، وما تُنجبه المرأة هو من سلالته، وبالتالي صار هناك رجل واحد ولديه أكثر من امرأة ونسل واحد له وحده فقط، بينما في السابق، أي المجتمعات الأمومية، كانت علاقة الرجل بالمرأة علاقة متساوية، وما يُنْجَب من أطفال هم أفراد من قبيلة أو مجتمع واحد، فلم يكن شخص يمتلك شخصا آخر، ومن هنا بدأ يتشكَّل جسد المرأة في هيئة الملكية والبضاعة، وصار هناك تملُّك للجنس، فصارت المرأة شيئا، وصارت ملكا لرجل واحد، وصارت وسيلة للرغبة والتملُّك والشهوة، وهذا يندرج تحته كل المجتمعات وليس فقط المجتمعات العربية، ولكن بالطبع هناك درجات في التعبير عن هذه الشهوة من مجتمعات غربية أو شرقية.

 

في المجتمع العربي هناك حالة هستيرية بجسد المرأة، فالكثير من التراث الثقافي يدور حول هذا الجسد، ومتى يُختَرق هذا الجسد وكيف وما المبررات، وهذا يتناسب طرديا مع الكبت الجنسي، وبالتالي التفكير بالجنس يكون أكبر وحالات التحرش تكون أكثر مع ظرف يسمح بذلك". ويُفسِّر أمين حالة التحرش الجماعي بقوله لـ "ميدان": "حين تكون مقهورا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وجنسيّا، فكل تلك عوامل مُفسِّرة للاعتداء على الآخر لتفريغ هذا القهر، من جانب آخر، الفعل الجماعي له دور كبير على سلوك الفرد، وهو ما نسميه بعلم النفس الاجتماعي بـ "الامتثال"، فحين يكون شخص واحد موجودا ضمن خمسة أشخاص آخرين، فغالبا تضعف فرديته ويتصرف مثلهم، حتى ولو كان التصرُّف خاطئا، وإذا أخذت ذلك الشخص وانفردت به وراجعته بالأمر ولماذا فعل ذلك، ربما يندم ويقول: "صحيح، التصرف خاطئ، ولا أعلم لماذا قمت بذلك"".

 

واتباع الجماعة ينجم عن الخوف من النبذ أو الغربة، أو الرغبة بالشعور بالهوية والقوة المستمدة من هذه الجماعة، فيُعلِّق على حالة التحرش الجماعي قائلا: "يكونون جماعة، يرى أصدقاءه قد بادروا بفعل الهجوم، فيهجم معهم، يقلدهم، ففي حالة الامتثال يضعف العقل والعقلانية الفردية، فالجماعة تقتل الشخصية، وهذه تجربة معروفة في علم النفس الاجتماعي، وهذا ما يحدث كذلك في الحروب، جماعات تقوم بالقتل والنهب والاغتصاب، من خلال الامتثال أو المجاراة، وحين يعود الجندي من الحرب يعود لفرديته، وتُصيبه تلك الحالات النفسية المعروفة للجنود بعد الحرب حين يُدرك ويستذكر ما فعله".

 

التحرش الجنسي بمصر

بعد توضيح أمين حالة الهستيريا الجماعية التي تحدث في التحرش الجماعي، علينا أن نعود للثقافة التي شكَّلت هذا التصرف الجماعي وشرّعته ليصير عاديّا، فكيف أصبح التحرش الجنسي فعلا عاديا للرجل في هذه الحالة؟ طرح الفيلسوف البارز ليوتار عام 1979 مقولته حول السرديات الكبرى التي تحوَّلت إلى مصطلح عام يُتَداول على نطاق واسع في حقل الدراسات الثقافية، وسرعان ما أصبحت السرديات الكبرى مفهوما مرجعيّا يسمح للباحث الثقافي بدراسة وتحليل ونقد مختلف المظاهر الثقافية والفكرية التي تظهر في مجتمع معين وتؤسس لنمط شمولي والتمركز الهوياتي، والسرديات الكبرى هي ذلك النمط من الخطابات التي تتمركز حولها افتراضاتها السابقة، ولا تسمح بالتعددية والاختلاف، حتى تنوع السياقات الاجتماعية والثقافية، فضلا عن أنها تُنكر إمكانية قيام أي نوع من أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها، وتقاوم أي محاولة للتغير أو النقد أو المراجعة.

 

وفي مقابل السرديات الكبرى يقترح ليوتار مفهوم السرديات الصغرى بوصفه بديلا نظريّا ومعرفيّا، والسرديات الصغرى هي الخطابات التي تتشكَّل من قِبَل جماعات أو تجمعات معينة لتحقيق أهداف محددة ذات طبيعة مرحلية ووقتية وبراغماتية ولا تحمل الطابع الشمولي ولا السلطوي القسري للسرديات الكبرى(4)، ونستطيع أن نرى أن السردية الكبرى حول الجسد والجنس والمرأة في مجتمعاتنا الشرقية هي سردية ذكورية بامتياز، فقد كانت الهيمنة التاريخية على مختلف القطاعات هيمنة ذكورية، والمركزية فيها للرجل، بوصفه السلطة الأقوى، والسلطة الأقوى يعني أنها السلطة القادرة على صياغة المعرفة والحكاية التاريخية، كما يصفها عبد الله غذامي بقوله: "احتفظ الرجل في تاريخنا بحق الكتابة، واحتفظت المرأة فقط بحق المكاتبة"(5)، أي كان الرجل طوال الوقت مَن يصوغ الحكاية ويقوم بدور الفاعل، وكانت المرأة تتلقّى تلك الرواية، وتلعب دور المفعول.

خلافات زوجية غيتي

وكما نرى فإن الثقافة الدينية المنتشرة أو المستخدمة باعتبارها نصا مقدسا يُسلَّط على رقاب النساء في كثير من المواضع تحطُّ من قيمة المرأة وصورتها بالعقل الجمعي – العربي، أو تعاقب جسدها وطبيعته الجنسانية، بينما إن بحثنا في أصول الدين فسنجد أن الحكاية هي صياغة ذكورية للدين وحسب وليست من الدين نفسه، فكما تورد ليلى أحمد حول المرأة والجنوسة في الإسلام: "إن العفة والحياء هي سمات للمسلم والمسلمة وليست مقتصرة على المرأة المسلمة وحسب"، بينما ما نجده في ثقافتنا الحالية هو مطالبة للمرأة دون الرجل بهذه العفة وذلك الحياء، كل ذلك كان بفعل ثقافة المجتمع تجاه جسد المرأة ورغبة المرأة، وتشكيل ذلك الجسد وإعادة تركيبه بما يوافق تلك الثقافة وليس النص الديني الأصيل(6).

 

يُلخِّص جورج طرابيشي الحالة بقوله: "في مجتمع شرقي، مُتخلِّف ومتأخر، مشحون حتى النخاع بأيديولوجيا طهرانية، متزمتة وحنبلية، يغدو مفهوم الرجولة والأنوثة مفهوما مُوجَّها لا للعلاقات بين الرجل والمرأة فحسب، بل أيضا للعلاقات بين الإنسان والعالم، ولئن يكن تشويه عظيم قد طرأ على طبيعة العلاقات بين الرجل والمرأة بحكم خضوعها لثنائية الرجولة – الأنوثة الأيديولوجية، فإن تشويها أعظم يطرأ على طبيعة العلاقات بين الإنسان والعالم متى ما رضخ تسييرها للثنائية ذاتها، …وهي دائرة محكمة الإغلاق وتكرر نفسها وتتعدد حلقاتها إلى ما لا نهاية حيثما وجدت علاقات اضطهاد وسيطرة وعنف، فالحرب رجولة والسلام أنوثة، القوة رجولة والضعف أنوثة، السجن للرجال والبيت للنساء، وحتى ألعاب الأطفال، فالبنادق البلاستيكية للصبيان والعرائس وأشغال الإبرة للفتيات، وللمراهقين قصص البطولات والمغامرات وللمراهقات قصص الحب والعاطفيات والجنيّات"(7).

________________________________________________________

المصادر

  1. التوظيف السياسي: ظاهرة التحرش الجنسي في مصر.
  2. رانية -الكيلاني، التحرش الجنسي بالمرأة واختلال منظومة القيم بالمجتمع المصري، 2014.
  3. حادثة تحرش جماعي بفتاة في مدينة المنصورة تثير غضب المصريين
  4. معن الطائي، السرديات المضادة بحث في طبيعة التحولات الثقافية، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014.
  5. عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، بيروت : المركز الثقافي العربي، ط1، 1996.
  6. ليلى أحمد، المرأة والجنوسة في الإسلام: الجذور التاريخية لقضية جدلية حديثة، (ترجمة منى إبراهيم وهالة كمال)، القاهرة:  المجلس الأعلى للثقافة. 1999.( 5-29 )
  7. جورج طرابيشي، شرق وغرب رجولة وأنوثة، بيروت : دار الطليعة.1971.