جيل الـ "أنا".. لماذا لا يعد جيل الثمانينيات والتسعينيات أسوأ جيل على الإطلاق؟!

قال مدرس جامعي غير مشهور ذات مرة: "تسلّق الجبل لترى العالم، لا ليراك العالم"، كان ذلك أثناء حفل تخرج لطلاب إحدى المدارس الثانوية الأميركية. وفي حفل آخر، وبينما كان الجميع ينتظر أن يتحدث ديفيد ماكولوج(1) عن الشغف والفرص المستقبلية الكثيرة، والإمكانات المتاحة، والقدرات التي يمتلكها كل طالب منهم وتميزه عن الآخر، إذ به يقول لكل واحد منهم: "أنت غير مميز على الإطلاق، هكذا تقول الإحصاءات"، ثم يشير بعد ذلك إلى أن إحدى المشكلات التي تواجهنا في العالم المعاصر هي أننا أصبحنا أكثر التفافا حول ذواتنا، أكثر رغبة في لفت انتباه الآخرين، أكثر اقتناعا بأننا مركز الكون كله، لكننا للأسف لسنا كذلك، في الواقع -من ناحية فيزيائية- فإنه لا يوجد ما يمكن أن نسميه "مركز الكون"!
كانت أول إشارة لتلك الحالة من الالتفات حول الذات وعلاقتها بتطور مجتمعاتنا قادمة من الولايات المتحدة الأميركية، حينما كتب(2) توم كيني وولف، وهو صحفي أميركي شهير، أن هناك نوعا من النرجسية يتنامى شيئا فشيئا في المجتمع الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، وكان وولف يرى أن هذا شيء إيجابي، يُعبّر عما سمّاه بـ "الصحوة الكبرى الثالثة" ويُمثّل أعظم عصر للفردانية في التاريخ الأميركي، لكن كريستوفر لاش، وهو المؤرخ والناقد الأميركي من جامعة روتشيستر، كان يرى العكس تماما.
فعلى الرغم من اتفاقهما أن هناك نوعا من النرجسية يتنامى شيئا فشيئا في المجتمع الأميركي، فإن لاش كان يرى(3) أن الأمر يقترب من الحدود المَرَضية لتعريف "النرجسية" وليس مجرد أن يكون شخص ما "أنانيا" و"نرجسيا" بالتعبير الشائع بين الناس، يصل ذلك إلى درجة تجعل من علم الأمراض الخاص بالنرجسية حالة أوضح من الحالة الطبيعية للشخصية الأميركية. في كتابه "ثقافة النرجسية" (The Culture of Narcissism) افترض لاش أن هناك تأثيرا قويا للتغيرات السياسية والاقتصادية على شخصيات أفراد المجتمع، وضرب أمثلة على ذلك بأفراد بعض الجماعات الدينية والسياسية المتطرفة.
لهذا السبب كان أحد أشهر التعريفات التي تشير إلى مواليد السبعينيات من القرن الفائت هو أنهم ضمن أبناء "جيل أو عقد الـ "أنا"" (Decade\Me Generation)، بعد ذلك جاء مواليد الثمانينيات والتسعينيات، والذين يُمثّلون غالبية قُرّاء هذا التقرير لا شك، ليُطلق عليهم جيل الألفية (Millennials)، هؤلاء أيضا لاحقتهم تُهم "النرجسية" و"الأنانية" والالتفاف حول الذات، لكن هذه المرة على مستوى عالمي ليس منحصرا في الولايات المتحدة الأميركية أو أوروبا، حيث ارتبط الأمر بالانتشار المتسارع لعالم الوسائط، بداية من برامج الواقع التلفزيونية، وصولا إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي اجتاحت كل العالم، لدرجة تجعل عدد حاملي الهواتف الذكية أكبر من عدد هؤلاء الذين يمتلكون مرحاضا خاصا بهم!
هل مواليد الثمانينيات والتسعينيات هم الجيل الأكثر نرجسية في تاريخنا؟ حسنا، ترى جين توينج، أستاذة علم النفس من جامعة شيكاغو، أن ذلك حقيقي، نحن نقف الآن في مواجهة الجيل الأكثر أنانية ونرجسية في تاريخنا البشري، تستدل(4) توينج بمقاييس النرجسية السيكولوجية والتي سجلّت قيما ترتفع تدريجيا بداية من العام 1982 حتى وصلت إلى نحو 60% أكبر بحلول العام 2009، بينما ارتفع معدل الإصابة باضطراب الشخصية النرجسية ليصل إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بمن هم الآن في الخامسة والستين من أعمارهم.
يمتد الأمر إلى ما هو أعمق من ذلك، حيث أظهرت(5) دراسة حديثة أن 40% من مواليد الثمانينيات والتسعينيات يعتقدون أنه ينبغي أن يحصلوا على ترقية كل عامين بغض النظر عن جودة أدائهم، كذلك فإنهم أكثر كسلا، بحسب الدراسات. في الثمانينيات من القرن الفائت كان 80% من الشباب يرغبون في وظيفة ذات مسؤولية كبيرة، لكنهم أصبحوا 60% فقط الآن، مع رغبات متصاعدة في العمل بوظائف تجعلهم مشهورين أو حتّى مساعدين لأشخاص مشهورين.
تعتقد توينج أن السبب في تصاعد تلك النزعة هو التركيز القوي من المعلمين والمفكرين على دعم السلوك الفرداني من سن صغيرة، بحيث يتربى الشخص على الاهتمام بمصالحه الشخصية في إطار القوانين المنظمة للمجتمعات البشرية، من جهة أخرى -ومع وصول وسائل التواصل الاجتماعي- فإن الأزمة قد تفاقمت، حيث يرى جون سولر النفساني من جامعة نيويورك، وصاحب كتاب "سيكولوجيا العصر الرقمي"، أن انتشار النرجسية والسلوك المعادي للمجتمع في العموم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بصورة غير مسبوقة يعتمد في أساسه على قدرة الإنترنت على حجب هوية الشخص، ما يترتب عليه من تكسر كل العوازل الاجتماعية بينه وبين الآخرين، ليصبح كل شيء ممكنا.
كذلك فإن هناك ملاحظات مثيرة للانتباه حول علاقة جيل الألفية بالعمل(6)، فهم أكثر اهتماما بالتوازن بين الحياة العملية والحياة الشخصية، على عكس الأجيال السابقة التي كانت أكثر اهتماما بالعمل، كذلك فإنهم أكثر اهتماما بالعطلات الأسبوعية والسنوية، ويبذلون جهدا أكبر في التفكير والتخطيط للعطلات، كما أنهم يميلون إلى اختيار وظائف أسهل، تعطيهم الكثير من الوقت لفعل أشياء أخرى في الحياة غير العمل، يمكن أن نتصوّر ذلك كتطور طبيعي لفكرة الأنانية التي تحدّثنا عنها قبل قليل.
أضف إلى ذلك أن دراسة(7) من جامعة ميسوري، صدرت قبل عام واحد فقط، كانت قد أشارت إلى أن أبناء جيل الألفية لا يفكرون في المستقبل كسابقيهم، فبمتابعة حسابات التقاعد، تلك التي يفتحها أحدهم في البنك كي يدّخر لتقاعده، وُجد أن هناك تراجعا كبيرا في اهتمامات الشباب بها، ما يعني أنهم لا يوفرون نقودهم للفترة التي تلي توقّفهم عن العمل، وأشارت الدراسة إلى ضرورة تحفيز هذا الجيل وتثقيفه ماليا حول هذا النطاق بحيث لا يواجه أفراده مشكلات مستقبلية.
من جهة أخرى فإن تقريرا(8) صدر عن جامعة ستانفورد، قبل عدة أسابيع فقط، أوضح أن جيل الألفية هو الأكثر تعرضا للانتحار، وبالتالي الإصابة بالاكتئاب من قبله. في الواقع يرى الباحثون في هذا التقرير أن ارتفاع معدلات الوفيات في الفئات العمرية التي تقع بين 25-34 سنة بأكثر من 20% من الأجيال السابقة مدفوعة بشكل رئيسي بارتفاع عدد حالات الانتحار وتعاطي جرعات زائدة من المواد المخدرة.
بالطبع، قد يدفعك ما سبق لتصوّرات سلبية عن هذا الجيل. في الحقيقة، منذ اللحظة التي صدر فيها تحقيق جول ستين حول جيل الألفية وسلبياته، بمجلة "تايم" في العام 2013 تحت عنوان(9) "جيل الـ أنا أنا أنا"، ارتفعت تلك النبرة المعادية لجيل الألفية والتي تتصور أنه -بجانب الأنانية- الجيل الأكثر كسلا ورعونة مقارنة بالأجيال السابقة، فإنها بالفعل عادة كل جيل أن يتصور أن الجيل التالي له أكثر طيشا وأقل مسؤولية، لكن الأمر هذه المرة تخطّى ذلك ليتحول إلى أشبه ما يكون بالعِلم، حتّى إن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بـ "خبراء التنمية البشرية" و"المتحدثين التحفيزيين"، أمثال سيمون سينك بشكل خاص، قد بدأوا في الحديث عن أمور مثل "كيف تحفز جيل الألفية للعمل؟" أو "كيف تتعامل مع أبناء جيل الألفية؟" أو "إذا كنت من جيل الألفية: كيف تقاوم كسلك في العمل؟"، ثم -بالطبع- انتشرت المساقات والمحاضرات والكتابات عن هذا الموضوع وكأننا نتحدث عن جنس بشريّ جديد!

على الرغم من ذلك، يرى(10) بيتر كابيلي، من كلية وارتون لإدارة الأعمال، أن هناك مبالغة واضحة في إظهار الفروق بين الأجيال، من الطبيعي أن تكون بعض الأجيال أكثر التفافا حول ذاتها من أجيال أخرى، لكن ذلك لا يمكن أن يُفضي إلى تصورات تقول إن جيل الألفية -على سبيل المثال- يود أن يحصل على معاملة خاصة في العمل أو أنه يريد دافعا أقوى للعمل، ثم -نقطة إضافية مهمة- ما الذي يجعل من موضوعات مثل "أهمية الموازنة بين الحياة العملية والشخصية" أمرا سيئا؟! أضف إلى ذلك أن دراسات موسّعة كانت قد أُجريت في الولايات المتحدة وأوروبا قبل عدة أعوام كانت قد أشارت إلى أن بعض التغيرات التي تظهر بين الأجيال لها علاقة بالأزمات الاقتصادية العالمية المعاصرة، وهو رد فعل طبيعي، سوف تخشى المغامرات مثلا كلما كانت الأجواء أكثر توترا، كذلك أظهرت تلك الدراسات أن جيل الألفية ليس أكثر كسلا أو أسرع غضبا.
من جهة أخرى، فإن هناك مجموعة موازية من الدراسات(11) تشير إلى أن جيل الألفية قد لا يكون أكثر نرجسية من غيره، ربما فقط تُفسّر الجمل المستخدمة في تلك الاختبارات بصور مختلفة بين الأجيال، أضف إلى ذلك أن هناك بيانات أخرى تشير إلى أن جيل الألفية هم الأكثر اندماجا بشكل تطوعي في مؤسسات غير ربحية، ما يناقض النتائج التي تتحدث عن درجات "كبيرة" من النرجسية أو الالتفاف حول الذات في جيل الألفية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك مزايا أخرى لجيل الألفية لا يلتفت لها الكثيرون، أو قل لا تُذكر كثيرا في الأحاديث والمساقات والكتب التي تنتشر لتقدح في جيل الألفية وكأنه ابتلاء البشرية، وهي أنهم كذلك أكثر الأجيال اهتماما بالممارسات الصحّية، كالرياضة والحميات الغذائية المفيدة، كما أنهم الجيل الأكثر اهتماما بالعائلة والأصدقاء، مقابل أنانيتهم في التعامل مع الآخرين في المجتمع.
كما أظهرت بعض الدراسات أن هناك سمات متميزة لجيل الألفية، فهم يريدون الحصول على تجربة شراء(12) تميزهم عن الأصدقاء والناس كلهم بحيث يبدو أن ما يمتلكونه مختلف عن العالم وقريب من شخصياتهم. نعم، يصب ذلك في مصلحة الادعاء بأنهم أكثر أنانية، لكن درجة ليست كبيرة من الأنانية قد تكون مفيدة، على سبيل المثال يضيف ذلك إليهم بمنحهم ذوقا أفضل في الطعام، ورغبة في المشاركة بصنع منتجهم، ما يحفز التنوع والإبداع.
كذلك فإن هناك بعض الملاحظات الإضافية حول اختياراتهم الشرائية، بحسب تقرير(13) صادر من مؤسسة تكنولوجيا الطعام قبل عدة أعوام، وهي أنهم يرغبون دائما في نشر آرائهم حول المنتجات وتوعية الناس بالجيد وغير الجيد منها، كما أنهم يتخذون قرارات الشراء بناء على ما إذا كان المنتج يأتي من شركة مسؤولة اجتماعيا أم لا، بمعنى أن لديهم ضميرا اجتماعيا وبيئيا، يقومون بعمليات شراء يشعرون بالرضا عنها، ولكنها في الوقت ذاته يجب أن تكون مفيدة للبيئة.
من جهة أخرى، فإن جيل الألفية يبدو أكثر انفتاحا على العالم، وأكثر ميلا للذهاب إلى المكتبات، في الواقع فإن دخولنا إلى العالم الرقمي جعله أيضا الجيل الأكثر تعاملا مع المعلومات كمصادر للقوة، وذلك يجعل آليات وأسباب حصولهم على الأخبار مختلفة عن الأجيال السابقة. على سبيل المثال(14)، يتحصل 70 من أبناء هذا الجيل على الأخبار مرة واحدة على الأقل في اليوم، لكن 40% منهم يتحصّلون على الأخبار مرات متعددة وبشكل أكثر كثافة، كذلك فإنهم يتحصلون على الأخبار لأغراض متنوعة بداية من التوجهات السياسية وصولا إلى حاجتهم إلى حل المشكلات الخاصة بهم، لكن رغم أننا أمام الجيل الأكثر تعرضا للمعلومات في تاريخ البشرية، فإنه لا توجد بعد مؤشرات واضحة حول ما إذا كان ذلك يعني أنه الجيل الأكثر ثقافة، أم الأكثر سطحية بسبب تشتت انتباهه.
في النهاية، دعنا نوضح عدة نقاط مهمة، الأولى تتعلق بالفروق بين الأجيال، إنها بالفعل موجودة، لكنها ليست كبيرة أو جذرية بالصورة التي يتحدث عنها مدربو التنمية البشرية أو بعض تجّار التحفيز بحيث تظن أن هناك أنواعا مختلفة من البشر! من جهة أخرى فإن الجدل العلمي لا يزال قائما حول طبائع وسلوكيات مجتمع جيل الألفية، والأجيال الحديثة كذلك من المواليد بعد العام 2000، ولكل جيل بالتأكيد نقاط قوة وضعف تتعلق بالسياقات السياسية والاقتصادية التي أحاطت به، جيل الحرب يختلف عن جيل السلام، وجيل الإنترنت يختلف عن جيل الكتب والصحف الورقية. على سبيل المثال، يرى(15) لوتشيانو فلوريدي، فيلسوف المعلومات البارز من جامعة أوكسفورد، أن المراهقين في العالم الرقمي سيكونون أول جيل يقوم بتعليم آبائه، فالتغير التكنولوجي سريع لدرجة أن التكنولوجيا الجديدة ستظهر وتختفي أكثر من مرة في حياتك.
بالتالي فإن ابنك هو من سيعلّمك كيفية التعامل مع الهاتف ومع الويندوز ومع الطابعة ومع التلفزيون الذكي، وعلى العكس تماما من ذلك، فقد تعوَّد الآباء أنهم هم مَن يُعلّمون أبناءهم الجديد في هذا العالم، كيفية قيادة السيّارة، كيفية قيادة الدرّاجة، كيفية النقر على لوحة المفاتيح، إلخ، فهل سيؤثر هذا في الأجيال الجديدة؟! بالطبع سيفعل، يرى قطاع كبير من الباحثين أن شخصية الإنسان، وصولا إلى مستوى عصبي وجيني دقيق، تتأثر بالسياقات البيئية.
لكن المؤسف في هذا الإطار هو أننا لا نجد الكثير من الدراسات القيّمة التي تناقش التغيرات الواضحة في شخصية شباب جيل الألفية العربي، خاصة مع تحولات سياسية واقتصادية هي ربما الأعنف في تاريخ تلك المنطقة من العالم، ورغم أن الاختلافات ليست كبيرة بين عيّنات من المجتمعات البشرية المختلفة، فإن الظروف القاسية التي تمر بها مجتمعاتنا تجعلها حالة خاصة في بعض الجوانب، حالة تتطلب الكثير من الدراسات الدقيقة، ربما تساعدنا تلك الدراسات على فهم ما يحدث حولنا وداخلنا، وتعطي دليلا للأجيال القادمة. وبالتأكيد، فإنه من دون انتشار هذا النوع من البحث العلمي في المنطقة العربية، فنحن أشبه ما يكون بأعمى يعيش في خضم عاصفة هوجاء.