شعار قسم ميدان

جاريد دايموند.. كيف لأمة أن تدير أزماتها وتخرج منها عظيمة؟

ميدان - جاريد دياموند وأزمة الأمم

أجرى مدير تحرير Global Viewpoint ناثان غاردلز ورئيس معهد Berggruen نيكولاس بيرغروين، حوارًا مع المؤرخ جاريد دايموند ناقشا فيه كتابه الجديد "الانقلاب: نقاط التحول في مسارات الأمم في مواجهة الأزمات".

   

كتاب
كتاب "الانقلاب: نقاط التحول في مسارات الأمم في مواجهة الأزمات" للمؤرخ "جاريد دايموند" (مواقع التواصل)

   

ناثان غاردلز: لما كتبت هذا الكتاب في هذا الوقت عن نقاط التحول في مسارات الأمم في مواجهة الأزمات؟

جاريد دايموند: لم أكتبه بسبب شيء مرتبط بهذه الفترة تحديدًا من التاريخ. فكل كتبي عن مواضيع مُثارة منذ مدة طويلة. عندما أتأمل في حال كل بلد عشت فيها وتحدثت لغتها على مدار الـ 50 أو الـ 60 سنة الماضية، ألاحظ أنها إما كانت في أزمة، أو خرجت للتو من إحدى الأزمات. شغلني التفكير منذ مدة طويلة بشأن سبب سقوط الدول في الأزمات أو انجرارها إليها تدريجيًا وكيفية حدوث ذلك. إضافة إلى ذلك، تعمل ماري، زوجتي، طبيبة نفسية سريرية، لذا كثيرًا ما تتناقش هي وزملائها عن العلامات والمؤشرات التي تنذر بالأزمات في حياة الفرد الشخصية. بإمكان البعض التعامل مع هذه الصعاب وتجاوز الأزمة، في حين يظل آخرون عالقون فيها، حتى أنها تودي ببعضهم إلى الانتحار. جال بخاطري أن هذه التجارب الفردية قد تمثل نموذجًا تفسيريًا مقبولًا عند تطبيقها على أزمات الأمم. 

    

غاردلز: في تقييمك لكيفية إدارة الأمم للأزمات وحسن تعاملها مع نقاط التحول الفيصلية من عدمه، تمرر تجارب هذه الدول عبر مجموعة من المرشحات. بعض أهم هذه المرشحات التي تستخدمها هي التقييم الواقعي للذات والتبني الانتقائي لأفضل الوسائل والممارسات من أماكن أخرى والقدرة على التعلم من الغير والحفاظ على القيم المركزية في الوقت نفسه والمرونة التي تسمح بتقديم تنازلات سياسية واجتماعية. هل لك أن تذكر بعض أمثلة نجاح أو فشل الأمم التي أوردتها في الكتاب؟

دايموند: كل الحالات التي ذكرتها في كتابي هي حالات نجاح نسبي. لم أناقش حالات الأمم التي فشلت في مواجهة الأزمات. لو أنني فعلت ذلك، لذكرت حالة بابوا غينيا الجديدة، التي لم تتحسن أوضاعها منذ الاستقلال. إذ فشلت البلاد في تشكيل هوية وطنية جامعة، تمكنها من استغلال شعبها ومواردها ضمن سياسات مشتركة، وذلك بسبب الصراع الأناني بين أصحاب المصالح المختلفة الذين يرفضون التنازل والتفاوض مع بعضهم البعض. هناك الآلاف من القبائل العرقية التي تسعى كل منها لمصالحها الخاصة، وهناك ما يقرب من 700 لغة مختلفة.

  

على النقيض منها، يمكننا أن ننظر إلى إندونيسيا، فبالرغم من عدم وردية أوضاع البلاد، إلا أنها تمكنت من تشكيل هوية وطنية جامعة لأعراقها المختلفة على امتداد آلاف الجزر التي تتكون منها الدولة عقب استقلالها في 1949. يعود الفضل في هذا النجاح للنضال الوطني ضد الاستعمار الهولندي، الذي أنتج رؤية محددة للعالم وللذات، صاغت سياساتها التوحيدية من قلب ذلك النضال.

    

  

كما تحتل ألمانيا مكانة مرتفعة في قائمتي للتجارب الناجحة. فقد تمكنت من التعامل مع إرث الحرب العالمية الثانية بروية على مدار عقود، ومهدت الطريق لتوحيد البلاد، حتى تم لها ذلك عند نهاية الحرب الباردة. اعترفت ألمانيا بالهولوكوست بطريقة مقنعة وعميقة، شملت حتى نظامها التعليمي، بما لا يدع مجالًا للشك في صدق كل تعهداتها بأن "الأمر لن يتكرر". يتذكر المرء ويلي براندت الذي انحنى تواضعًا وندمًا عام 1970 أمام تمثال يخلد ذكرى انتفاضة غيتو وارسو. في المقابل، فشلت اليابان على هذا الصعيد رغم نجاحها في جوانب أخرى. ورغم أن الوحدة الألمانية لم تتحقق بجهود مستشار واحد فقط ممن تولوا السلطة في ألمانيا الغربية، إلا أن "سياسة الانفتاح على الشرق" التي صاغها ويلي براندت في السبعينيات مهدت الطريق. إذ لو لم ينفتح على الشرق، لما قبلت روسيا ولا حتى فرنسا وبريطانيا بالوحدة لاحقًا. وهنا يبرز عنصر آخر من عناصر مواجهة الأمم للأزمات: سمات القيادة في أوقات التحولات. إذن فقد تمتعت ألمانيا بخصائل النظرة الواقعية للذات ولدورها التاريخي وحس الهوية الوطني المنبثق من هذا الدور، وفي نفس الوقت تمتعت بمرونة التكيف مع الظروف الجيوسياسية المتغيرة.

   

غاردلز: بالحديث عن اليابان، مرت البلاد بتجربة مرتبكة نوعًا ما. إذ شهدت أولًا إصلاحات ميجي في القرن التاسع عشر، والتي تميزت بالنظرة الواقعية للذات والتبني الانتقائي لأفكار الغير، فقد فهم قادتها أنهم متخلفون عن الغرب في مسائل التحديث الصناعي، وأعادوا اختراع نظامهم وتجديده تدريجيًا عبر الاقتداء بالغرب في بعض النواحي وإدراك قيود المقاومة الداخلية التي يفرضها النظام السياسي التقليدي. لم يكن سعيهم للإصلاح سريعًا أو مبالغًا فيه.

    

الإمبراطور ميجي (مواقع التواصل)
الإمبراطور ميجي (مواقع التواصل)

  

ثم وخلال عقدين، دخلت البلاد في مرحلة تالية، اتسمت بالصلف الشديد والثقة الزائدة لدى النخب العسكرية بعد الحرب الروسية اليابانية، التي تفوقت فيها ولأول مرة، دولة آسيوية على قوة أوروبية. وهو ما أدى إلى التمادي والطغيان في توجهاتهم التي قادتهم لكارثة الحرب العالمية الثانية، لتلحق بهم هزيمة ساحقة ودمار نووي حل بهيروشيما وناجازاكي. ثم بعد الحرب والاحتلال الأميركي شهدت البلاد مرحلة جديدة من تبني الأفكار، قائمة على تقييم واقعي للذات، مما جعل اليابان واحدة من الدول المتقدمة. هل هناك نمط متكرر يظهر هنا؟

دايموند: أجل، بمعنى أن النمط يتمثل في الأزمات المتكررة. فنجاح اليابان الهائل في فترة ميجي لم يضمن لها النجاح أوالفشل في فترة ما بين الحربين. وما زال علينا الانتظار لمعرفة الكيفية التي ستجتاز بها اليابان المرحلة المقبلة. لكن هناك مجالات رئيسية تتأخر فيها اليابان تأخرًا ملحوظًا. كما ذكرت، سارت اليابان في اتجاه مضاد لألمانيا فيما يخص تحقيق مصالحة مجدية مع كوريا والصين. ويبدو لي أن العداوات والتصرفات العدوانية المتبقية من تلك الفترة، ستشكل خطرًا في المستقبل. نتيجة لذلك، تظل اليابان منزوعة السلاح نسبيًا في محيط يعج بالدول ثقيلة التسليح، التي تمتلك أسباباً مقنعة لكراهيتها لليابان.

     

علاوة على ذلك، فإن اليابان لم تتصالح حتى الآن مع دور المرأة في المجتمع الحديث. وهناك أيضًا سياسة اليابان تجاه الهجرة، أو المعادية للهجرة. يحق لكل دولة أن تقرر إن كانت تريد استقبال مهاجرين أم لا، ولكل خيار تبعاته الإيجابية والسلبية. لكن في ظل تناقص عدد السكان، من سيقدم الرعاية اللازمة للأطفال لمساعدة الأمهات على العودة إلى صفوف القوى العاملة؟ أو من سيقدم الرعاية لكبار السن في بلد يعيش سكانه في المتوسط أكثر من أي دولة أخرى في العالم تقريبًا، بمتوسط يبلغ 84 عامًا؟ ثم هناك بالطبع، المشاكل المالية المعقدة، المتعلقة بكيفية دفع أموال المعاشات ورواتب التقاعد في ظل تناقص القوى العاملة. أرى أن اليابان لا زالت تمر بمرحلة تحول.

   

    

غاردلز: في نقطة ما في كتابك، ذكرت العامل الجيلي في قضية التغيير، مشيرًا إلى أن الجيل الجديد إما سيكمل مسيرة التغيير التي بدأها الجيل السابق، أو سينقلب عليها بالكلية.

دايموند: ليس تمامًا. هذا النمط ليس متسقًا أو متكررًا دائمًا. لنتمعن في حالة ألمانيا على سبيل المثال، حيث شهدت البلاد أربع فترات من التحولات الجيلية. تعلَّم أوتو فون بسمارك، رجل الدولة البروسي المحافظ الذي عرف بـ "المستشار الحديدي"، من ثورة 1848 أن ألمانيا، التي كانت عبارة عن اتحاد فيدرالي مكون من دويلات صغيرة، لن تصبح أمة موحدة ما لم تتحول إلى قوة عسكرية. وهو ما صرح به بوضوح في خطاب "الحديد والدم" الذي ألقاه عام 1862. إلا أن صعود ألمانيا اللاحق كقوة عسكرية واقتصادية في أوروبا أدى إلى حروبها ضد فرنسا والنمسا، وحتى مشاركتها في الحرب العالمية الأولى.

  

واستغرق الأمر جيلًا كاملًا ليحاول هتلر والنازيون قلب هزيمة الحرب العالمية الأولى. ثم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، استغرقت ألمانيًا جيلًا كاملًا ليصل جيل الطلاب المتمردين الذين ولدوا بعد 1945 من أمثال يوشكا فيشر، الزعيم الطلابي المتمرد في الستينيات ووزير الخارجية عام 1998، إلى السلطة. لذا فإن ألمانيا هي أوضح مثال على تأثيرات تبدل الأجيال. مع ذلك، لا أعتقد أن بإمكان المرء إطلاق القول على عمومه عند الحديث عن أسباب وتأثيرات نجاح جيل في مقابل فشل آخر. في حالة اليابان، أنت محق في أن اليابانيين تعلموا الدرس الخاطئ من انتصارهم في الحرب الروسية اليابانية. لكن هناك حالة معاكسة، فالولايات المتحدة بعد هزيمتها في فيتنام تجاهلت الدرس وغزت العراق وعانت من نفس العواقب.

    

غاردلز: لم يخطئ قادة الجيش الياباني في توقعهم لرد الفعل الأميركي على هجوم بيرل هاربر فقط، بل أخطؤوا في تقدير القوة الصناعية التي قد تخصصها أميركا لدعم المجهود الحربي. مثلما ذكرت في كتابك قصة رجل الأعمال الياباني الذي زار الولايات المتحدة في السنوات التي سبقت الحرب ودهش من قدرتها على إنتاج الصلب التي تفوق اليابان بخمسين مرة. لقد علم هذا الرجل حينها أن اليابان لن تنتصر أبدًا. جوهر التقييم الواقعي للذات هو معرفة الآخرين وكيفية الوصول إلى حالة من التوازن مع القوى الموجودة على الساحة. كيف فات هذا الدرس على قادة اليابان قبل الحرب؟

دايموند: كانت تنقصهم المعرفة الواقعية بالذات لسبب محدد هو سفر قادة الإصلاح جميعهم إلى الغرب في فترة ميجي بعد الانفتاح في عام 1853. إذ كانت أولى الخطوات التي اتخذتها اليابان في عصر ميجي هي إرسال فريق مراقبة قضى عامًا ونصف في جميع أنحاء الغرب لجمع ودراسة أفضل الممارسات والأنظمة. وبذل الفريق جهدًا كبيرًا وواعيًا للتعلم من الغرب. في ثلاثينيات القرن العشرين، لم يقض الكثير من القادة العسكريين الذين تولوا زمام القيادة في الجيش الياباني، الكثير من الوقت في الغرب. ياماموتو الذي كان مبعوثًا بحريًا في واشنطن قبل الحرب وعلم بشأن القدرة الصناعية الأميركية التي تتقازم أمامها الصناعة اليابانية، حذر مرارًا وتكرارًا من عواقب هجوم بيرل هاربر دون طائل. ومع ذلك صمم الهجوم ونفذه كما قضت التعليمات. ما يهم في الحقيقة هو إن كانت الطبقة الحاكمة تؤمن برؤية عالمية مبنية على معرفة واقعية بالعالم، بدلًا من معرفة تتلائم مع ميولهم وأهوائهم.

    

  

غاردلز: من الواضح أن القادة العسكريين اليابانيين أخطؤوا في تقديرهم للتحدي الذي يواجهونه بسبب نقص فهمهم للعقلية الأميركية وعمق قدرتها الصناعية. يدهشني تشابه هذا الموقف مع ما نشهده اليوم. ففي حين اتبع الرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ، نظرية "تروَّ واخف قوتك" أثناء تقدم الصين وتطورها، تخلى شي جينبينغ عن هذه الضوابط وتباهى بعودة المملكة الوسطى إلى قلب المسرح العالمي وبقدرتها على التفوق التكنولوجي الأميركي. وهو ما استرعى انتباه مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، إضافة إلى ترامب وفريقه الذين شنوا بدورهم  حربًا تجارية ضد الصين. تكمن المعضلة في أن تشي استعجل التحرك نحو المسرح العالمي في الوقت الذي ما تزال تعتمد فيه صناعة التكنولوجيا في الصين اعتمادًا كبيرًا على الغرب في صناعة شرائح أشباه الموصلات. وهو ما يبدو سوء تقدير لا يختلف كثيرًا عن سوء تقدير العسكريين اليابانيين للتباين بين قدرة بلادهم والولايات المتحدة في إنتاج الصلب قبل الحرب العالمية الثانية.

دايموند: ما يصح بالنسبة للقادة اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية قد يصح بالنسبة للرئيس الصيني كما تقول، لكنه يصح أيضًا بالنسبة للولايات المتحدة اليوم. فعقلية الناس ووجهة النظر التي يختارون اعتناقها، غالبًا ما تؤثر في منظورهم للواقع وتطغى على الحقائق الماثلة أمام وجوههم. وهو ما ينطبق على البارانويا الظاهرة التي يشعر بها كثير من الأميركيين اليوم تجاه الصين والتوجس من احتمالية هيمنتها على العالم. لكن قصور الصين يكمن في أنها، وبسبب غياب الممارسات الديمقراطية عنها، تواجه صعوبة أكبر في التخلي عن التصورات المغلوطة عن الواقع. مهما كانت عيوب الديمقراطية، فهي تمكن الناس من مناقشة الأفكار الكبرى وبدائلها. وهو ما لم تخض المؤسسة السياسية في الصين غماره من قبل، إذ تقتصر مناقشة القضايا الفكرية الكبرى على القيادة العليا فحسب.

  

لآلاف السنين ومنذ ظهور فكرة الحكومة في الهلال الخصيب، يظهر لنا التاريخ أن بإمكان الأنظمة الديكتاتورية إنجاز الأمور أسرع من غيرها، إلا أن أحدًا لم يتمكن من معرفة كيف يمكن لتلك القرارات السريعة أن تتسم بالصواب تحت مظلة الأنظمة الديكتاتورية، والصين هي مثال على هذه المشكلة. بالطبع، تتخذ الأنظمة الديمقراطية قرارات سيئة كذلك، إلا أن بإمكانها تصحيح هذه الأخطاء بسهولة أكبر، أو على الأقل كنا قادرين على فعل ذلك في الماضي بسبب الضوابط والتوازنات التي فرضتها مؤسسات الحكم.

  

غاردلز: مع ذلك كما تذكر في كتابك، يمكن للأنظمة الديمقراطية أن تنهار بين عشية وضحاها. تمثل تشيلي أكثر السيناريوهات رعبًا، إذ حولها الاستقطاب في غضون سنوات قليلة من أعرق نظام ديمقراطي في أميركا اللاتينية، إلى دولة متصدعة مجتمعيًا، رزحت تحت نير انقلاب عسكري وحشي لمدة 17 عامًا.

دايموند: هذا صحيح. رأيت النظام ينهار سريعًا في تشيلي بين الفترة التي عشت فيها هناك عام 1967 وانقلاب عام 1973، لكن هذه الاستقطاب لم يكن وليد اللحظة بل نتج عن تراكمات استغرقت وقتًا طويلًا قبل هذه السنوات. في عام 1967، كانت الأوضاع بالغة التوتر بالفعل، إذ كان إدواردو فراي، الرئيس التشيلي الذي حظي باحترام كبير حينها ولا زالت ذكراه تحظى بالاحترام حتى الآن، محافظًا متشددًا من وجهة نظر الراديكاليين وراديكاليًا من وجهة نظر المحافظين. وصل سالفادور أليندي إلى السلطة بهامش 36% من الأصوات مقابل 35% لأقرب منافسيه، و28% للمرشح الثالث. ورغم أنه فاز بثلث الأصوات فقط إلا أنه ارتكب خطأً كبيرًا حين حاول قيادة تشيلي في اتجاه يرفضه معظم التشيليين.

   

   

لربما ساور أليندي وهم بأن شعبيته أثناء توليه وزارة الصحة العامة ونجاحه المبكر حين انتخب في 1970، سيمكنانه من دفع البرلمان التشيلي للتصويت على إجراءات ضخمة مثل تأميم مناجم النحاس في غضون أشهر قليلة من توليه السلطة. لذا مثَّل توجهه جزءًا من السبب. إضافة إلى ذلك، شهدت صفوف أنصار أليندي انقسامًا داخليًا، فيما يشبه الولايات المتحدة اليوم، التي لا تشهد خلافًا بين الديمقراطيين والجمهوريين فقط، بل داخل الأحزاب نفسها. شعر أليندي أن عليه إرضاء الجناح المتطرف في حزبه، حتى مع علمه أن الجيش التشيلي لن يتقبل الأمر بسهولة.

  

غاردلز: لكن الدرس المستفاد من هذه التجربة، بالنسبة للولايات المتحدة أو أي نظام ديمقراطي آخر يعاني من الانقسام الشديد، هو أن الخطر يلوح في الأفق عندما تغيب روح التسوية والحلول الوسط. وأن القدرة على التفاوض والتسوية وإيصال البلاد إلى إجماع سياسي تختفي مع تدهور الحوار المدني وانحطاطه وغياب الثقة في المؤسسات المستقلة غير المتحيزة.

دايموند: أرى إمكان حدوث ذلك في الولايات المتحدة اليوم. الأمر أشبه بعملية تآكل تصل في مرحلة ما إلى نقطة اللاعودة. إذا انتهت الديمقراطية في الولايات المتحدة، فلن يكون ذلك على الطريقة التشيلية عبر انقلاب عسكري. بل ستنتهي عبر تآكل بطيء، وبسبب استمرار نزعات نراها اليوم، مثل القيود المفروضة على تسجيل الناخبين أنفسهم بغرض التصويت وفي الإقبال المنخفض على الانتخابات، وتداخل السلطة التنفيذية مع القضائية والصراع بين السلطة التنفيذية والكونغرس. ليس هناك ضمانات من وجهة نظري على أن الديمقراطية في الولايات المتحدة ستتغلب على كل هذه العواقب. بل إني أشعر بخطر داهم في حقيقة الأمر.

 

صحيح أن التغييرات تسارعت منذ انتخاب دونالد ترامب، لكن غياب التسويات والحلول الوسط في الولايات ظاهرة ممتدة مذ كان نيوت غينغريتش متحدثًا باسم مجلس النواب من 1995 إلى 1999. فقد اعتنق علانية سياسة "لا لا لا" في علاقته بإدارة كلينتون. بالطبع كان غينغريتش شخصًا واحدًا فقط، لكنه استغل الانقسامات الحادة في الثقافة السياسية وضخمها.

     

الرئيس الأميركي
الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" (رويترز)

   

لذا علينا أن نتساءل، ما أسباب هذا الانهيار؟ أفضل تحليل توصلت إليه بعد كل هذه السنوات هو أننا في الولايات المتحدة كنا قد دخلنا بالفعل في مرحلة شهدت انخفاضًا حادًا في التواصل المباشر أكثر من أيّ دولة أخرى وقبل أيّ دولة أخرى. يرجع هذا في تقديري إلى سببين، أولهما ثقافة التنقل -ارتحال الأشخاص من مواطن نشأتهم أكثر مما يحدث في أيّ مكان آخر من العالم، عادة إلى الساحل الآخر من هذا البلد الشاسع- وثانيهما اللا مساواة المتزايدة الناجمة عن تراجع الصناعة في منطقة راست بلت (نطاق الصدأ) وازدهار الاقتصاد العالمي، اللذين نتج عنهما تقسيم المجتمعات المحلية ومناطق أخرى من البلاد على أساس الاختلافات الطبقية والتعليمية.

   

غاردلز: أود إضافة أن لدينا في الحاضر عنصرين يدعم أحدهما الآخر، وهما: زوال المؤسسات الاجتماعية وصعود المؤسسات الاستقطابية. على سبيل المثال، لم يعد لدينا تجنيد إلزامي في الجيش، أو تمثيل شبه شامل لأطياف المجتمع في المدارس الحكومية، حيث اندمجت سابقاً، بفضل التفاعل مباشر جميع الأعراق والإثنيات والطبقات. في الوقت ذاته، تستحوذ وسائل الإعلام الرئيسية على المنابر الثقافية في سوق شديدة التنافسية بينما تعزز شركات التواصل الاجتماعي الكبرى متعددة الأنشطة مبدأ التفاعل بين الأوساط متماثلة التفكير.

دايموند: أتفق معك. حدثت أمور سيئة في تشيلي، وتحدث اليوم في الولايات المتحدة أمور أسوء. لكن كان لدى الجيش في تشيلي تاريخ من التدخل في الشؤون السياسية من حين لآخر. لذلك كانت هناك سوابق للجيش، وإن لم تكن بحجم ونطاق ما فعله الجنرال بينوشيه عام 1973. أما في الولايات المتحدة، لم يسبق وأن تدخل الجيش في السياسة على الإطلاق، وهذا أمر في صالحنا.

   

لكن في الولايات المتحدة نشهد منذ فترة طويلة تدنيًا في مستويات الثقة والرصيد الاجتماعي (رأس المال الاجتماعي) مقارنة بباقي الدول، يرجع ذلك جزئيًا إلى طول المسافات الجيوغرافية لدينا. وكما ذكرت سابقًا، عندما يرتحل الأميركيون من الساحل الغربي إلى الساحل الشرقي، فإنهم يقطعون مسافة 3 آلاف ميل (5 آلاف كيلومتر تقريبًا). لكن لا يقطع الألمان سوى مسافة قصيرة للسفر من هانوفر إلى برلين. وسيظل بإمكانهم ركوب القطار والذهاب إلى هانوفر لمقابلة أصدقائِهم في نفس اليوم.

  

مثلًا: خلال احتفال لمّ الشمل الخامس والستين الخاص بمدرستي الثانوية هذا العام، لم يحضر أي من زملاء فصلي الثلاثة والعشرين والذين كانوا يعيشون في نطاق 600 ميل (حوالي ألف كيلومتر) عن مكان سكني. فقد تبعثروا في جميع أرجاء البلاد. بات هذا وضعاً ثابتاً ومستقراً في الولايات المتحدة. فنحن كثيرو الترحال، ونرتحل لمسافات طويلة. في حين قلما يرتحل الألمان والإيطاليون عن أماكنهم، كما أن بلدانهم صغيرة لذا فهم يقطعون مسافات أقصر منا. أؤكد على مسألة الترحال تلك لأن الانتقال الجغرافي في أميركا شائع للغاية لدرجة أننا نعتبره من المسلمات ولا ندرك عواقبه الاجتماعية. وها قد بدأت تلك العواقب الوخيمة تلوح في الأفق.

      

خريطة الولايات المتحدة الأميركية (الجزيرة)
خريطة الولايات المتحدة الأميركية (الجزيرة)

   

غاردلز: في الانتخاب الرئاسية الأخيرة، أظهرت التحليلات أن مدى ابتعاد الناخبين عن مسقط رأسهم كان من المؤشرات الدالة على التعاطف مع أجندة ترامب الشعبوية. وفي ولايات الغرب الأوسط الأميركي الشمالية، كان هناك ارتباط واضح بين المصوتين لترامب وأولئك المرتحلين عن مسقط رأسهم. كما اكتشف الصحفي البريطاني ديفيد غُودهارت نفس العلاقة في تصويت بركست بين "اللا مكانيين" -النخب المتنقلة- و"المكانيِين" الذين مكثوا في مجتمعاتهم المحلية. صوت أنصار الحركية والتنقل بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، بينما صوت المحليون بالخروج منه.

دايموند: لا يثير هذا الدهشة على الإطلاق. ويزداد الأمر سوءًا بما أن "اللا مكانيين" و"المكانيِين" قلما يتبادلون خبراتهم الحياتية اليومية.

   

غاردلز: بالعودة إلى الحالة التشيلية، هل ترى أية أوجه تشابه بين مُضي سلفادور أليندي قدمًا في أجندة أكثر ثورية وراديكالية لا يدعمها معظم المجتمع وسياسات ترامب الراديكالية، مثل السياسات المتعلقة بالبيئة والهجرة والعلاقات الدولية؟ في نهاية المطاف، خسر ترامب الأصوات الشعبية ولم يفز سوى ببضع عشرات آلاف قليلة من الأصوات في ولايات الغرب الأوسط الأميركي الرئيسية.

دايموند: يمكنني القول أن أليندي كان أبعد عن الواقع من ترامب، فأنى لدولة صغيرة كتشيلي أن تتحدى الولايات المتحدة والشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات وتثير مخاوف المؤسسة العسكرية المحافظة. لدى ترامب حاليًا فرصة أفضل لتمرير سياساته مما كان عليه الحال مع أليندي.

  

نيكولاس بيرغرين: كيف يمكن تدارك أخطاء السياسات الأميركية الحالية؟

دايموند: لن أقول إن المسألة بسيطة، لكن دعنا نرجع إلى الأساسيات. الحل الذي أراه مناسبًا هو حث المزيد من الناس على التسجيل في اللوائح الانتخابية، ومن ثم تشجيعهم على التصويت. لما نُصعب الأمور؟ أعتقد أن في إيطاليا، عندما يظهر اسمك للدولة مثلًا عند استخراج رخصة القيادة أو عند دفع الضرائب، فإنك تتلقى رسالة من الحكومة الإيطالية تُطلعك على مكان التصويت في الانتخابات القادمة.

   undefined

   

لكن حاليًا في الولايات المتحدة، لا يقدم أغلب المسجلين بالفعل في اللوائح الانتخابية على التصويت، باستثناء في حالة الانتخابات الرئاسية. ومع ذلك، كانت أعلى نسبة مشاركة في جميع الانتخابات الرئاسية حوالي 61% وذلك في انتخابات عام 2008. على النقيض من ذلك، عندما استعادت إندونيسيا النظام الديمقراطي عام 1999، بلغت نسبة المشاركة في أول انتخابات حوالي 93%. وفي إيطاليا، تتراوح نسب المشاركة ما بين 85% و 93%. أما هنا في لوس أنجلوس، لم يشارك سوى حوالي 20% من المصوتين المسجلين في انتخابات رئاسة البلدية! المنصب الذي يُعد واحدًا من أهم المناصب في الولايات المتحدة، لذا عندما يشتكى الأميركيون من حكومتهم، فإن ذلك خطأهم إلى حد كبير لأن معظمنا لا يكترث بالتصويت. تعلمنا خلال انتخابات ترامب والمواجهة بين بوش وغور عام 2000 أن التصويت مهم. يمكن أن تتحول أوضاع المدينة أو الولاية أو حتى البلد بأسرها بطريقة ما بناءً على اختيارات عدد قليل من المصوتين.

   

غاردلز: لننتقل إلى أزمة تغير المناخ. أشرت في كتابك إلى أن الدول والأفراد ممن سبق لهم التعامل مع الأزمات والتغلب عليها تكون قدرتهم على تقييم الحقائق كما ينبغي واتخاذ الإجراءات المناسبة أكثر فاعلية. كما ورد في الكتاب أنه "واجهتنا تحديات فيما سبق وتغلبنا عليها، لذا يمكننا فعل ذلك مرة أخرى"، وهكذا يقول المنطق. واجهت بعض الإمبراطوريات والقوى العظمى والمؤسسات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين تحديات دولية. لكن على مستوى الكوكب، لا توجد سابقة لمواجهة جميع الأمم والمجتمعات لأزمة مشتركة ومحاولة التغلب عليها. ما المصادر أو التجارب التي يمكن لنا الاسترشاد بها للتغلب على هذا التحدي الحالي الذي يواجه الحضارة الإنسانية قاطبة؟

دايموند: عندما تناولت هذه القضية في أول طبعة من الكتاب، كنت متشائمًا لأنني فكرت أنه لا توجد سابقة لمثل هذا الأمر: إذ لم يسبق وأن واجه العالم أجمع أو تعامل مع تحد بحجم أزمة تغيُّر المناخ. إلا أنني أعدت النظر في طريقة تفكيري عندما انتهيت من الكتاب. لكن في الحقيقة، لدى العالم سجل حافل من التصدي لأزمات صعبة وبأساليب شائعة وبسيطة، مثل القضاء على الجدري. فمن أجل للقضاء على انتشار عدوى الجدري. كان علينا القضاء عليه في كل بلدٍ في العالم مهما كان نائيًا، بما في ذلك الصومال حيث ظهرت آخر الحالات.

   

ثم كان الاتفاق بخصوص تحديد المناطق الاقتصادية في المياه الضحلة. فلدى العديد من الدول حول العالم مناطق متداخلة تدعي كل دولة سيادتها عليها. ورغم أن حل القضية استغرق وقتًا طويلًا، تم التوصل في النهاية إلى اتفاق بموجب معاهدة دولية. وانضمت جميع الدول أيضًا إلى اتفاقية للتخلص من مركبات الكلوروفلوروكربون -المعروفة تجاريًا باسم الفريون- في الجو للحد من تآكل طبقة الأوزون. كما تم التوصل إلى اتفاق دولي حول مسألة التعدين في أعماق البحار والمحيطات، وبمشاركة الدول غير الساحلية أيضًا. ربما استغرق الأمر 20 عامًا لصياغة إطار تنظيمي، لكن في النهاية تم التوصل إليه كجزءٍ من نفس الإطار الخاص باتفاق تقسيم المناطق الاقتصادية في البحار الضحلة. وبدأ العمل بالإطار القانوني في التسعينات، والآن مع وجود الإطار القانوني بالإضافة إلى الإطار التقني، سيبدأ قريبًا تطبيق قواعد موحدة لعملية التعدين في أعماق البحار والمحيطات.

   undefined

  

لنتمعن في حالةً أضيق نطاقًا. تبين لنا أنّ الطيور سببٌ رئيسيّ لحالات تحطّم الطائرات في كلٍّ من إسرائيل ولبنان، الواقعتان في طريق الطيور المهاجرة شرق المتوسّط، حيث تسلكه في الخريف مجموعات كبيرة من الطيور مهاجرةً من أوروبا إلى أفريقيا؛ ثم يسلكونه في طريق عودتهم أثناء فصل الربيع. يستغرقهم الأمور سنواتٍ للقيام بهذا، لكن في نهاية المطاف توصّل مراقبو الطيور الإسرائيليّون واللبنانيّون إلى اتفّاق، حيث لا يناقشون الأمور السياسيّة وإنما يجتمعون للإدلاء بتقاريرهم حول أوضاع هجرة الطيور. قد يتّصل مراقبو الطيور الإسرائيليّون بنظرائهم اللبنانيّين قائلين ”شاهدنا سربًا من 72 بجعةً قادمين إليكم“، ثم في الخريف يتصّل اللبنانيّيون بالإسرائيليّين قائلين ”لدينا سرب كامل من الكركيّات ستمرّ بكم“. هذا مثال على كيفية الوصول إلى اتفاقٍ ما بين تلك الدولُ التي ما زالت على عداءٍ لأسباب أخرى. إلّا أنّه، في نهاية المطاف، ما مكّن الدول من مواجهة الأزمة والتغلّب عليها هو شعورٌ ما بهويّة مشتركة يمكنها تعبئة الجهود في مسار محدد لتحقيق هدف ما. اليوم، خاصة مع عودة النزعات والمشاعر القوميّة، لا نجد هويّة العالميّة الراسخة، وهذا هو التحدّي الرئيسيّ في مواجهة التغيّر المناخيّ.

    

غاردلز: هل تحقّق الدول أيّ طفرةٍ قبل انهيارها؟ أو هل يتطلّب الأمر وجود أزمة لكي يتحرّك مسار العمل وتتشكّل جبهة مشتركة لمواجهة التحدّيات؟

دايموند: إنّ الأمر تمامًا كما هو في حَيَواتنا الشخصيّة، كالزواج الفاشل، ليس هناك شيء يشبه الأزمات في قدرتها على جذب الانتباه. إنّ قولَ أحد الشريكين ”أرغب في الطلاق“ هو قطعًا محاولة لإصلاح الأمور أكثر من كونه تعبيرًا عن تعاسة مزمنة على مدى الأيّام. فالدول أيضًا تكون غالب تفاعلاتها رد فعل على الأزمات. إلّا أنّ هناك بعض الحالات لدول تتصرّف بشكل مسبق لتجنّب الأزمات قبل وقوعها. وأنا أعتقد أنّ فكرة الاتحاد الأوروبيّ في مجملها هي مثال على ذلك. منذ بدايات ”الجماعة الأوروبيّة للفحم والصلب“ في خمسينيّات القرن العشرين وإلى تكامل 28 دولة اليوم، فإنّ الهدف كان دومًا هو منع وتفادي الحروب التي دمّرت القارة مرّتين في القرن العشرين. أستشهد هنا بمقولة لرجل دولة أوروبيّ صاغَ ببلاغةٍ المنطقَ المسيِّرَ للاتحاد الأوروبيّ قائلًا ”نريد مسدّسًا صنِعَت أسطوانتُه في بلجيكا، ومخزنُه في فرنسا، وأعيرتُه في ألمانيا، وزناده في إيطاليا؛ كي يكون من المستحيل علينا إشعال فتيل الحرب مرّة أخرى“.

   

غاردلز: المرونة هي مرشّح آخر يُستخدَم لبحث كيفيّة اجتياز الأمم والدول نقاطَ التحوّل. عادةً ما لا نفكّر في المجتمع الاستهلاكيّ نفسه باعتباره تعبيرًا عن الجمود، ولكن في حالة التغيّر المناخيّ يمكننا اعتباره كذلك. في الديموقراطيّات الاستهلاكيّة، يريد الشعب والعامّة إشباعًا فوريًّا. تتغلّب شعور الراحة واليسر على أيّ رغبة في التفكير في المستقبل البعيد؛ إذ ينظر البعض إلى التغيّر المناخيّ باعتباره ضربًا من الشائعات، لا واقعًا ملحًّا. ولذلك يصعب كثيرًا انتزاع المجتمع من عاداته المؤدية لظاهرة الاحتباس الحراريّ.

دايموند: أنت محق في هذه النطقة، وهي تشير إلى سبب صعوبة تحقيق  المرونة في سلوك الأمم. لسذاجتي، اعتدت الاعتقاد أنّ اليابان بلد جامد. لكن على غرار ألمانيا، قد يكون الناس محافظين وضيّقي الأفق في عاداتهم على المستوى الشخصي، لكنّ المجتمع بشكلٍ عام طور نزعة سلمية في عالَم ما بعد الحرب (العالميّة الثانية) بدلًا من المزاج العدوانيّ.

  

المجتمع الياباني (مواقع التواصل)
المجتمع الياباني (مواقع التواصل)

         

غاردلز: يزعم كاتو شويتشي، المختص في تاريخ الأدب الياباني، أنّ اليابانيّين حين يفكّرون في مصطلحاتٍ يبحثون عن سياقيّة ملموسة، عِوَض التفكير في الواقع عبر مفاهيم مجرّدة؛ حتّى أنّ معاني الكلمات في اللغة اليابانيّة تعتمد على السياق التي تُنطق فيها تلك الكلمات. ولذلك فإنّ اليابانيّين ليسوا جامدين أيديولوجيًّا، بل عمليون في مواجهة التحدّيات.

دايموند: رغم أنّهم كمجتمع استهلاكيّ، قد يعانون من الجمود الناجم عن قصر النظر كما ذكرت، فإنّنا هنا دائمًا ما نتحوّل بين الأحزاب السياسيّة بسيولة تنقلنا طرفَي نقيض، كما هو الحال عند انتقالنا من إدارة أوباما إلى إدارة ترامب. يزداد المجتمع المدنيّ الأميركي مرونة بشكل كبير مع مرور الوقت. فكّر في مدى تحوّل وتبدّل الاتجاهات المواقف في العقود الأخيرة حول أمور مثل العِرق، ودور المرأة وزواج الشواذ. نشهد اليوم تحوّلًا كبيرًا جدًّا عما كان عليه الوضع في خمسينيّات القرن الماضي.

  undefined

      

غاردلز: كيف تصف المنهجيّة الأساسيّة في جميع أعمالك؟

دايموند: لستُ مؤرّخًا من النوع المعتاد، ولم أحصل على درجةٍ جامعيّة في التاريخ. مقاربتي للتاريخ مفادها البحث الدؤوب عن الأسباب العميقة والأسباب المباشرة والتمييز بينهما. مرَّ كتابي ”بنادق وجراثيم وفولاذ“ بثلاث مراحل. الأولى هي البحث عن السبب المباشر لكون العالَم على صورته التي نحياها اليوم هو عالَم عام 1492. لو أنّ أيّ شخصٍ استطاع زيارة العالَم في عام 1492، لتيقن من أنّ أوروبا تتجه إلى أن تصبح في موقع الصدارة. من أين إذن جاء عالَم 1492؟ لقد كانت نتيجة الازدهار الكبير في منطقة الهلال الخصيب الذي حدث بالفعل في العام 3500 قبل الميلاد؛ ولكن من أين جاء هذا الازدهار الكبير؟ لقد كان وليد نشأة الزراعة. لذا، فإنّ الأسباب المباشرة القريبة مشتقّة وناتجة عن الأسباب الجذريّة العميقة.

   

كانت الصيغة الأولى التي أعرفها لهذا الأمر هي ما كتبه ثوسيديديس عن الحروب البيلوبونيزية. هناك مقطع رائع ووجيز للغاية. فكما يشير ثوسيديديس، كان السبب المباشر للحرب هو انجراف أثينا وإسبرطة إلى صراع دفاعًا عن حلفاء يعدّون هامشيّين نسبيًّا. غير أن السبب الجذريّ للحرب – السبب الحقيقيّ لها – هو خوف إسبرطة من تزايد قوّة أثينا وصعود نجمها. من أجل تقييم تلك التحولات الكبيرة في تاريخ العالم، علينا أن نركّزَ على الأسباب الجذريّة العميقة.

 

بيرغريون: ماذا عن الصفات الثقافيّة الأساسيّة التي تُسهِم في نجاح أو فشل الأمم؟ من الأمثلة التي أفكّر فيها كيفيّة صعود مجتمعات شرق آسيا ذات الثقافة الكونفوشيوسيّة – مثل سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان والصين – من الفقر والتخلف إلى الازدهار والنماء في العقود الأخيرة؛ في حين يبدو أنّ هناك شعوب كثيرة في أفريقيا وأميركا اللاتينيّة خابت مساعيها وتوقّفت عن اللحاق بركب التنمية.

دايموند: هذه نقطة صائبة؛ رغم أنّ التيارَ السائدَ في الأنثروبولوجيا يترفّع عن أيّ حديثٍ عن ”مجتمعات مريضة“، وإنّما يعزو الاختلافاتِ إلى اختلاف الجذور والممارَسات الثقافيّة. مقارنةً بثقافاتٍ أخرى، تتمتّع الثقافات الكونفوشيوسيّة بمستوىً منخفض من الفرديّة ومستوىً أعلى من مركزيّة الجماعة. هناك زعم مثير للاهتمام يَعزو هذه النزعة إلى نشأة زراعة الأرز في تلك المجتمعات، وهو نشاطٌ اقتصاديّ يتطلّب تعاونًا وجهودًا جماعيّة، مقارَنةً بزراعة القمح الذي لا يحتاج سوى إلى مزارعين منفردين.

     

زراعة الأرز في اليابان (رويترز)
زراعة الأرز في اليابان (رويترز)

   

وبصفتي جغرافيًا، لديّ أفكار أخرى عن أميركا الشماليّة وأميركا اللاتينيّة/الجنوبيّة. في المساق الذي أدرِّسه لطلّاب البكالوريوس في اختصاص الجغرافيا، أقدِّم محاضَرة للطلاب عن أميركا الشماليّة تعقبها محاضرةٌ أخرى عن أميركا الجنوبيّة، وأناقش فيهما سبب تفوّق أميركا الشماليّة اقتصاديًّا. هناك العديد من العوامل التي تشترك في إنتاج هذا الوضع. أحد العوامل هو أن المناطق المعتدلة أنجح من المناطق الاستوائية على المستوى الاقتصادي بسبب ارتفاع الإنتاجية وخصوبة التربة الزراعية في المناطق المعتدلة، والتي ترتبط بدورها بأعباء الصحة العامة. نلاحظ في هذا السياق أن أميركا الشمالية تقع بأكملها ضمن المناطق المعتدلة. أما أميركا الجنوبية فلا تضم سوى منطقة معتدلة صغيرة في أقصى جنوب تشيلي والأرجنتين وأوروغواي، وهذه هي أغنى بلدان أميركا اللاتينية. حتى أغنى المناطق في البرازيل تقع في المنطقة المعتدلة.

  

أما العامل الثاني فتاريخي، إذ يرتبط بمسافة الإبحار بين أوروبا والأميركيتين. فبينما كانت مسافة الابحار قصيرة نسبيًا من بريطانيا إلى أميركا الشمالية، كان الإبحار يستغرق وقتًا طويلًا من إسبانيا إلى الأرجنتين أو من إسبانيا إلى البيرو بالالتفاف حول القارة. أدت مسافة الإبحار الأقصر إلى انتشار التكنولوجيا والثورة الصناعية في أميركا الشمالية، القادمة من مهدها في بريطانيا، بشكل أسرع من انتشارها في أميركا الجنوبية عبر إسبانيا. وتضم قائمة العوامل المؤثرة كذلك إرث الحكومة الإسبانية مقابل إرث الحكومة البريطانية. فبغض النظر عن الأسباب، فقد تطورت الديمقراطية في بريطانيا وليس إسبانيا، ومن ثم ورثت أميركا الشمالية نظام الحكم البريطاني والديمقراطية البريطانية، في حين ورثت أميركا اللاتينية نظام الحكم الإسباني المركزي والسياسات الاستبدادية.

 

علاوة على ذلك، مثَّل استقلال الولايات المتحدة انفصالًا جذريًا أكثر راديكالية مقارنة بما جرى في أميركا الجنوبية. فبعد حرب الاستقلال الأميركية، قُتل كل أنصار الملكية في الولايات المتحدة أو فروا من البلاد. لذا كانت هناك قطيعة واضحة نسبيًا مع بريطانيا العظمى. لم تشهد كندا مثل هذه القطيعة. كما جاء الانفصال في أميركا اللاتينية أقل حدة وتأخرًا عن الولايات المتحدة.

  

غاردلز: دائمًا ما أضاف أوكتافيو باث، الشاعرالمكسيكي الحاصل على نوبل، كذلك بعدًا ثقافيًا للأمر وذلك بحديثه عن "حدود الزمن" بين الشمال والجنوب. فقد اعتاد القول بأن الولايات المتحدة ربيبة الإصلاح البروتستانتي والتنوير، بينما أميركا اللاتينية هي ربيبة الإصلاح المضاد (الإصلاح الكاثوليكي). وهو ما صبغ عقلية كل منهما بطابع ثقافي مميز، إحداهما منفتحة تجاه المستقبل وأقل تقبلًا للسلطة وأخرى أكثر انغلاقًا وتقليدية.

——————————————————————

ترجمة: فريق الترجمة

هذا الموضوع مترجم عن Berggruen Institute ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة