قرى الياسمين في مصر.. زهور مليئة بالبهجة الزائفة
في حقيقة الأمر، لم يكن الدكتور إرنست فيدر، أو أرني كما يحب أن يناديه أصدقاؤه، محبا للفراولة، فهذه الحبات ذات البثور الصغيرة شديدة الحمرة لم تغره بالتهامها، خاصة أنه أصيب بداء الحساسية بعدما وصل لسن الأربعين حينما بدأ بحوثه حول الاقتصاد الزراعي في أميركا اللاتينية، فقد كتب إرنست فيدر الخبير السابق في شؤون فلاحي أميركا اللاتينية بمنظمة الأغذية والزراعة عن الزبدة وعن ديون الفلاحين وعن الفراولة.
يوضح فيدر في كتابه "إمبريالية الفراولة: تحري آليات الاعتمادية الزراعية في المكسيك" أنه لا يجب أن نتحدث عن صناعة فراولة مكسيكية، بل عن صناعة الفراولة الأميركية الواقعة في المكسيك. رسميا، يُنتج المكسيكون الفراولة، وواقعيا تُسيطر الشركات الأميركية وتُجّار الجملة على هذه الصناعة، حيث تتحكم في تحديد كمية الإنتاج وأنواعه، ومتى يُزرع، ومتى يُحصد، وفي أسعاره طبعا، ووفق هذا المنطق، لا تتم زراعة ما يحتاج إليه المكسيكيون، بل ما يُفضّله المستهلكون الأوروبيون.
ففي 1970 كان ما يزيد على 150 مليون رطل ثلاثة أرباعها مجمدة تُصدّر إلى الولايات المتحدة سنويا عن طريق الموردين من الشركات الكبرى، فلا تسيطر المكسيك على شيء في هذه الزراعة رغم غزارة الإنتاج، لأنها تحصل على شتلات الفراولة من مشاتل الولايات المتحدة، ولأجل استمرار الزراعة التجارية بالمكسيك يستلزم عليها الإبقاء على عناصر التخلف: الأجور والأرض الرخيصة.
فقد انجذبت الشركات الأجنبية إلى المكسيك لسهولة الحصول على الأراضي بثمن زهيد والزراعة بأقل التكاليف، فالأرض -وفقا لفيدر- يتم نهبها فتستخدم الشركات الكبرى أساليب مدمرة للري ومبيدات تستنزف التربة، ولا تعبأ الشركات بذلك، لأنها -ببساطة- حينما لا تصلح الأرض للزراعة، ستتخذ قرارها بالانتقال إلى بلد جديد. [1]
والأمر لا يقتصر على المكسيك ولا على صناعة الفراولة، وإنما هذه خطة عمل الشركات الكبرى، الباحثة عن الربح وليس عن احتياجات السكان أو أولوية حياتهم ومعيشتهم. ولكن لا ينتشر الوعي بهذا الدور لهذه الشركات والحلقة المفرغة التي تسقط الدول فيها استجابة لدوافع هذه الشركات، فبعض الدول أفقر من أن تستغني عن المقابل الأدنى الذي توفره الشركات لتكلفة التصنيع أو العائد المادي مقابل التصدير.
في الآونة الأخيرة، احتفى الكثيرون على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وعلى برامج التلفزيون بالقرى المصرية الصغيرة التي تُصدّر أزهار الياسمين إلى أوروبا، فتساهم في صناعة العطور العالمية، متعجبين من قدرة هذه القرى على نشر الجمال في العالم.
وعليه، تباهت بعض منشورات فيسبوك بصور الفلاحين من كبار السن والأطفال الصغار المبتسمين تجاورهم الفتيات الحسناوات والنساء ذات الضحكات الراضية يحصدون معا أزهار الياسمين في قرية شبرا بلولة بمحافظة الغربية. وخرجت بعض الصحف المحلية لتفتخر بأن قرية محمد صلاح "نجريج" الواقعة على الطريق الممتد بين طنطا وبسيون هي المصدر الأول للياسمين لفرنسا وروسيا وأوكرانيا، فنسمات الياسمين التي تنتشر في سماء القرية، ويتنسمها الأهالي مع إشراقة كل صباح، تبعث فيهم السعادة، وتملأ روائحها الطيبة طرقات القرية، فهل هي السعادة حقا؟ وما واقع الفلاحين الفعلي في قرى الياسمين؟
قرية شبرا بلولة هي إحدى قرى محافظة الغربية بالدلتا، يقطنها نحو 55 ألف نسمة، تشتهر بأنها "مملكة إنتاج العطور في مصر"، حيث يصل حصاد القرية من الحقول الطبيعية للزراعة بشكل يومي ما يقرب من 10 أطنان صافية من الزهور.
يعمل أهل القرية بزراعة الياسمين منذ عام 1976، وتطورت المهنة على مدار السنوات الماضية، وأصبحت مهنة متوارثة، فشجيرات الياسمين من الأشجار المعمرة، تستمر الشجرة في الأرض لمدة تصل إلى ثلاثين سنة، وتعيش القرية كلها أجواء حصاد الياسمين خلال ستة أشهر من العام تبدأ من ديسمبر/كانون الأول حتى أواخر مايو/أيار في العام الذي يليه، تلك الشهور التي يسميها أهل القرية شهور الخير.
يمكن أن نعايش يوما من أيام العمل في حصاد الياسمين من خلال حكايات بعض الأهالي، فيبدأ أهل القرية العمل بالاستيقاظ من قبل أذان الفجر بساعتين، والتجمع مع نسمات الندى على أوراق الزهر لقطف الزهر، فيروى أحد فلاحي القرية يومه قائلا:
"نقوم بجمع أزهار الياسمين من الساعة الثالثة فجرا، لمدة 4 ساعات كاملة، ونجمعها داخل دلاء (جرادل) بلاستيكية أو أقفاص خشبية، ثم نقوم بوزنها عند وسيط صاحب مصانع العطور، فالوسيط بين المزارعين والمصنع يحصل على أربعة جنيهات، ونحصل نحن على مبلغ يتراوح ما بين 11 جنيها حتى 20 جنيها في الكيلو الواحد من الزهور"3.
ولأن متطلبات جمع أزهار الياسمين بسيطة، لا تستلزم الكثير من الشروط، فيخرج الأطفال من سن الخامسة حتى العجائز في السبعين للمشاركة في الحصاد، وتشارك عائلات بأكملها في الحصاد، فتخرج أم مع أطفالها الثلاث وتترك رضيعها مع الجيران حتى تعود، ويترك بعض التلاميذ دراستهم لأيام محتملين رطوبة الجو وحساسية الرائحة لأجل العيش، وليس كما وصف أحد محرري الصحف المحلية لحلاوة المهنة!
تفتقر هذه المهنة إلى وجود تأمينات صحية رغم انتشار مرض الحساسية بين أهل القرية، وقد لا يتحمل بعضهم تكاليف علاج الحساسية، ولكنه العمل المتوفر. ويدفع قلة الأجور بعض الفلاحين إلى الغش وخلط الزهر بالماء لزيادة وزنه، وهو ما يؤثر على جودة العجينة النهائية.
ويعادل إنتاج "شبرا بلولة" ما يقارب من خمسة أطنان في اليوم من زهور الياسمين، وطن الزهر الذي يورده المجمع للمصنع تصل قيمته إلى عشرة آلاف جنيه، وهذا الطن ينتج ما يتراوح بين اثنين ونصف إلى ثلاثة كيلوات من العجينة، ويصدر كيلو العجينة بمقابل 15 ألف دولار، أما محليا فقيمته 15 ألف جنيه. ولا تعتمد السوق المحلية على هذه العجينة لاعتمادها على المواد الكيماوية في صناعة العطور.
كما أن مصانع القرية لا تخرج أكثر من عجينة الياسمين، ولا تشجع الحكومة الاستفادة من هذه القرية والأيدي العاملة المتوفرة بها في توسيع عملية التصنيع وتطوير البنية التحتية وبناء المصانع، رغم قدرة هذه العجينة الزهرية على منافسة نظيرتها من الدول الأخرى، بدلا من الاقتصار على تصديرها كمادة أولية لفرنسا لصناعة العطور التي تحمل أشهر العلامات التجارية.
فمع جمع الزهور تنتشر أغاني الحصاد ويمتدح المزارعون الأجرية العرق الممزوج بالشقاء ليس لسعادة العمل بقدر ما هي طاقة الفرج المنتظرة خلال ستة أشهر من العام. لا يتعدى الاستفادة من القدرة على العيش اليومي، أو توفير مال لتجهيز الفتيات للزواج، ولكن لم تتغير البنية التحتية للقرى، ولا يتاح الكثير من الخدمات لأهلها.
هؤلاء الفلاحون المصابون بأمراض الحساسية من الياسمين لا يبتهجون بروائحه، ولا يتمنون شراء العطر الباريسي الثمين، ولكنهم يشبهون فلاحي كولومبيا غير القادرين على شراء الدجاج والبيض، ولكن بإمكانهم تزيين أكواخهم بالأزهار المقطوفة.
فكولومبيا هي البلد المفضل للزهور، فتكاليف إعداد الأرض لزراعة الأزهار بها أقل 10% من تكاليف زراعتها بفلوريدا، وخلال 1966 ازدادت قيمة الأزهار المقطوفة المستوردة إلى الولايات المتحدة بما يفوق ستين مرة لتبلغ 20 مليون دولار. فتحقق زراعة القرنفل ربحا أعلى من زراعة القمح أو الذرة، ويسيطر على 70% من الأراضي الزراعية في كولومبيا مجموعة صغيرة من المزارعين الأثرياء ليسوا بحاجة إلى التفكير في الأرض وعلاقتها بتوفير الغذاء لأجل المعيشية اليومية، لذا لا غرابة أن تأتي أزهار الزينة على قائمة أولوياتها الزراعية ويعقبها علف الماشية.(2)
في واقع الأمر، لا يختلف الياسمين في قرى مصر عن صناعة الفراولة في المكسيك، ولا يبعد كثيرا عن زراعة الورود في كولومبيا، فزراعة الياسمين لا تعبر عن احتياجات أهل القرية، ولا تعتبر مؤشرا على جودة صناعة العطور في مصر بقدر ما تعتبر مؤشرا على احتياجات السوق العالمي من هذه الزهور.
لم نكن لنعرف محمد صلاح حينما كان طفلا يشارك في حصاد الياسمين مع أطفال قريته نجريج، ولم يفتخر أهل البلد بأن صلاح يمتد نسبه وتتلاقى جذوره في هذه القرية إلا حينما أصبح لاعبا عالميا وليس طفلا يشاركهم حصاد الياسمين، كما أصبحت نجريج الأغلى بين قرى محافظة الغربية في أسعار العقارات لشهرة محمد صلاح، فازداد حماس أهالي نجريج لتدريب أولادهم على لعب الكرة ليكونوا مثلا صلاح!
إن غاية الشركات الكبرى الربح لا حساسية فلاحي شبرا بلولة ولا مزارعي المكسيك ولا ساكني الأكواخ بكولومبيا، فهذا ما أكده مدير إحدى الشركات الزراعية العالمية بقوله: "إن خط الربح ما يهمنا، ولو غاب ذلك عن بصرنا، مهما كان أداؤنا جيدا، فلن نبقى طويلا".(3)