خديعة مواقع التواصل.. هل يحولنا الإنترنت إلى بلهاء؟
"إن نسيان الناس لوجودي هو ما يؤثر فيّ حقا". بتلك الكلمات الساخرة، الحزينة بما تخفيه، أبدى الكاتب الشاب "ريان أوكونيل" تخوّفه السيبراني[*]، الممتد على أرض الواقع، من شبح النسيان: أن ينساك الناس لكونك غائبا عن محيطهم الافتراضي، فيقول: "إذا ذهبت إلى حفلة، أو كنت في عطلة، ولم أوثقها في حسابي على الفيسبوك، فهل حدث ذلك حقا؟ هل يمزّق هذا وجودي بوصفي إنسانا ويجبرني على ارتداء عباءة الإخفاء؟"[1].
ذلك السؤال الذي يتوافق مع تحليل "باومان"[2] حين وصّف حالنا مع وسائل التواصل الاجتماعي، ليصبح غياب المرء وحضوره يتحدّدان بعدد الساعات التي يتوفر فيها على تلك المواقع. أو كما عبّر -أيضا- في موضع آخر[3] عن ذلك التبدّل الغريب الذي يصبح فيه العالم الافتراضي حقيقيا على غفلة من الأشخاص. لقد سيطر هذا الفضاء على حياتنا اليومية، كما يرى "أوكونيل"، من خلال "فرض قواعد اجتماعية جديدة وآداب يجب علينا الالتزام بها"[1].
"مارك، لماذا تحمل لنا كل هذا الازدراء؟!"، كان هذا هو سؤال "أوكونيل". هل ترى في استفهامه وجاهة؟ أم أنها محض مبالغة ساخرة والسلام؟ بكلمات أخرى: هل تحمل فعلا شبكات التواصل أثرا ملموسا على حيواتنا؟ أم أننا نُفرط في التحليل للدرجة التي تتجاوز الحقيقة في بعض الأحيان؟ يبدو أن "أوكونيل" لم يكن وحيدا في ملاحظته تلك؛ لأن الكاتبة والباحثة "سوزان غرينفيلد" كانت ترى شيئا شبيها في كتابها "تغيُّر العقول"، والذي أضحى نتيجة لانخراطنا في عالم ثنائي الأبعاد مؤلّف من البصر والصوت فقط.
فترى "سوزان" أننا غارقون في "مكان يصبح مفعما بالقلق المزعج أو الابتهاج المظفّر" الحادثين نتيجة الاندفاع "في دوامة الشبكات الاجتماعية للوعي الجماعي"[4]. إن معضلة هذا العالم ثنائي البُعد، كما رأت "غرينفيلد"، تتبدّى في كونه عالما موازيا "حيث يمكنك أن تكون متحركا في العالم الحقيقي، ومنجذبا في الوقت نفسه دائما إلى زمان ومكان بديلين"، الأمر الذي يُنشئ فِصاما يفصل بين ذاتك الحقيقية وذاتك المتخيلة تارة، وبين انتباهك القديم وانتباهك الحديث تارة أخرى. هو فصام عقلي في المقام الأول، وربما هو فصام آخر بين أخلاقنا الواقعية والافتراضية، وربما في الأمر متسع لكثير من أنواع الفصام.
بخمسين مليونا -تقريبا- من الحسابات الجديدة، أنهى العالم العربي عام 2017 على "فيسبوك" برصيد لا يهدأ على الإطلاق[5]، في حين بلغت الحسابات الجديدة على موقع التغريدات الأشهر "تويتر" قرابة 4 ملايين وستمئة ألف[6]، مقابل 6 ملايين وثمانمئة ألف حساب جديد على "إنستغرام"[7]. تلك الأرقام المطّردة تأتي في خلفيتها تعليقات "مارك زوكربيرج"، مؤسس "فيسبوك" و"إنستغرام"، القائلة بأن "هناك حاجة كبيرة وفرصة هائلة لضمّ الجميع في عالم مترابط، ومنح الجميع فرصة للتعبير عن أصواتهم، والمساعدة في تحويل المجتمع استعدادا للمستقبل"[8].
لكن، هل كان الشاب الأميركي على دراية بما اجتذب به اختراعه العقول؟ إن النموذج التفسيري الأكثر شيوعا لهذا التزايد يتبدّى، كما يرى "أندرسون فاجان"[9]، في كونها تساعدنا على التواصل عبر الإنترنت مع أصدقائنا غير المتصلين (أي في العالم الحقيقي)، مع تسهيل الاحتفاظ بالصداقات عبر المسافات البعيدة. لكن ألا تعتبر برامج البريد الإلكتروني والتواصل الصوتي كـ"سكايب" وسائل تقوم بالغرض نفسه؟ إذن لِمَ ينفرد "فيسبوك" وطائفته بهذا الإقبال الشديد؟
يبدو أن الأمر لا يتوقف فقط على التواصل مع الأصدقاء، وإنما يتعلق -بصورة أعمق- بكُنه هذا التواصل وماهية هؤلاء الأصدقاء. ففي دراسة للباحثَيْن "ماناجو تايلور" و"جرينفيلد بي. إم"[10] وُجِد أن الأشخاص الذين يستخدمون فيسبوك لجمع شبكة أكبر من العلاقات الافتراضية مع أصدقاء متزايدين، يبلغون درجة عالية من الرضا عن الحياة مقارنة بنظرائهم ممن يستخدمونه للحفاظ على صداقات حقيقية ودائمة.
لكن تبدو الإجابة عن سؤالنا السابق كامنة فيما توصّلت إليه الدراسة بعد ذلك، والمتعلق بالتضخم الحادث في مقدار الرضا عند الفريق الأول، إذ وجدت أنهم يشعرون بالرضا بصورة أكبر عندما يعتبرون أصدقاءهم على فيسبوك جمهورا شخصيا لهم، يبثونهم خطاباتهم أحادية الطرف، بعيدا عن الحوارات والنقاشات التي تحدث في الواقع الحقيقي.
كما يفسر عالم الاقتصاديات العصبية "بول زاك"[11]، وعالمة النفس السلوكية "سوزان وينشينك"[12] ذلك الارتباط بيننا وبين العالم الافتراضي بالخوف الدائم من الوحدة، إذ تعزز المحاكاة السيبرانية للواقع مستويات "الأوكسيتوسين" و"الدوبامين"[**]، في أجسادنا، على الترتيب، فقد أظهرت النتائج البحثية، كما هي عند "بورك مارلو" و"لينتو تي"[13]، أن الأشخاص الذين ينخرطون في نشاط في فيسبوك، عن طريق مراسلة الأصدقاء والنشر على صفحات الأصدقاء، يذكرون مستويات أدنى من الشعور بالوحدة من أولئك الذين يشاركون في المقام الأول عن طريق المتابعة السلبية لصفحات الأصدقاء.
فضلا عن وجود نوع من الارتباط بين الإفراط في استخدام التواصل الاجتماعي من جهة، وبين افتقاد المرء لعلاقات طبيعية خارج إطار الشاشة المستطيلة، الأمر الذي يجعل تلك الحياة الافتراضية بمنزلة التعويض المجزئ عن هذا الفقد، أو كما يقول "ريتشارد واتسون" بكلمات أخرى: "أعتقد أن أحد الأسباب الرئيسة للرواج الكبير لموقعَيْ فيسبوك وتويتر هو أننا نشعر بالوحدة… إذ تعني هذه الارتباطية العالمية بهما أننا ننزع إلى أن نكون بمفردنا حتى عندما نكون معا"[14]، كأن يخرج الزوجان لقضاء وقت لطيف معا -نظريا- بأحد المطاعم، لكنهما في واقع الأمر منشغلان بعالمهما الافتراضي وهواتفهما، فهما "وحيدان معا" بتعبير "شيري توركل"[15].
كما يرى "أندرسون"[4] أن الهروب إلى الإنترنت لتفاقم مشكلات العالم الواقعي هو سبب قد تفاقمت نتائجه بالفعل. الأمر الذي تؤكده دراسة "أولدميادو" و"كيونن"[16] التي وجدت أن الأفراد الذي يُظهرون مستويات عالية من الارتباط القَلِق يستخدمون فيسبوك بصورة أكثر تواترا، تزيد كلما اعتراهم شعور سلبي، فيكونون أكثر اهتماما بشأن الكيفية التي يراهم بها الآخرون على فيسبوك.
وقد أثبت مجموعة من العلماء في جامعة "هارفارد"، وفقا لـ"غرينفيلد"، أن مشاركة المرء للمعلومات الشخصية عن نفسه، كما يحدث على مواقع الشبكات الاجتماعية، ينشط أنظمة المكافأة في الدماغ بالطريقة نفسها التي يفعلها الغذاء والجنس. ومن المثير للدهشة، كما تكمل الباحثة البريطانية، أن المشاركين في هذه التجربة كانوا على استعداد للتخلي عن المكافآت المالية مقابل الحصول على فرصة أكبر للحديث عن أنفسهم.
نتيجة لذلك، ترى "سوزان" أن جاذبية الشبكات الاجتماعية متأصلة في محفّز بيولوجي، نجهله إلى حد كبير، مما يُصعِّب السيطرة عليه بشكل طوعي. لكن، على الرغم من ذلك، يمكن إرجاع الأمر للحنين الواعي للتعبير عن النفس والإفصاح الذاتي عنها، إذ قد يكون عامل الجذب الحقيقي كامنا في "تجربة نقل المعلومات الشخصية على نطاق لم يسبق له مثيل"، كما تقول "غرينفيلد".
فغياب التواصل المباشر، وجها لوجه، يتناسب طرديا مع الرغبة في الإفصاح عن الذات؛ لأننا حينها لا نمتلك تلميحات بصرية أو جسدية لتفضحنا بصورة أكبر أو تُحجّم رغبتنا التعبيرية على منصات التواصل. الأمر الذي أكّده استطلاع للرأي أُجريَ على 488 من مستخدمي الشبكات الاجتماعية في ألمانيا[17]، مرتين خلال ستة أشهر، حيث أظهر الأفراد الراغبون في الإفصاح عن ذواتهم ميلا أكبر للمشاركة في هذه الشبكات، علاوة على الأثر التفاعلي لهذه الرغبة، إذ وُجِد أنها تتعزز عند أصحابها مع زيادة رأس المال الاجتماعي على منصات التواصل، فأصبح المرء يشارك للتعبير عن نفسه وتكوين العلاقات، وتزداد رغبته في التعبير لأنه مشارك بالفعل ويمتلك العلاقات.
قبل خمسة عشر عاما من الآن، وتحديدا في فبراير/شباط 2004 بولاية "ماساتشوستس" بالولايات المتحدة، أطلق المبرمج الأميركي الشاب "مارك زوكربيرج"، ومجموعة من زملائه، أيقونتهم الزرقاء في الفضاء الإلكتروني العالمي، ليتبعها رفيقها العصفور المغرّد "تويتر" في مارس/آذار 2006، وما بين التاريخين وحتى لحظتنا تلك لا تبدو أن الأمور بقيت على ما كانت عليه قبل هذه الأعوام. الأمر لا يتعلق بالسياسة، ولا يتعلق بالاقتصاد. الأمر الذي يثير قلقنا يتعلّق بالعقول.
لو أننا نمتلك مِرآةً للعقل، فما الصورة التي سنلقاه عليها بعد عقد وأكثر من هذه المحاكاة؟ المواطن الرقمي، ذلك المصطلح الذي صكّه خبير التقنية الأميركي "مارك برينسكي"[18] لوصف الشخص الذي تتحدد هويته بناء على البراعة والألفة التلقائية في التعامل مع التقنيات الرقمية. هذا هو مواطن التقنية الحديثة على ما يبدو، وفي الجانب الآخر يقبع المهاجرون الرقميون.
أولئك الذين تبنّوا العديد من جوانب التكنولوجيا في مرحلة متأخرة، تماما كمن يتعلمون لغة جديدة في مراحلهم الأخيرة، فهم وإن كانوا على دراية باللغة الجديدة، فإنهم لا يزالون محتفظين بلكنتهم الأم؛ لأنهم ما زالوا يحتفظون بإحدى قدميهم في الماضي، بتعبير "برينسكي"، الأمر الذي يعطينا ومضة على الفارق بين إنسان وسائل التواصل الأسير وغيره من المهاجرين جزئيا إلى عالم الشاشات.
ذلك الفارق تبرز محوريته، كما ترى "غرينفيلد"، في أنه يخلق نمطا يجهل البشر معه أي سبيل آخر للحياة خارج ثقافة الإنترنت. كما يرى الكاتب الأميركي البريطاني "أندرو كين"[19] أن مواقع مثل "فيسبوك" وفصيلته، تخلق ثقافة شابة من النرجسية الرقمية والرغبة في التعبير عن الذات وإبرازها بدلا من التعرّف على العالم.
نظرة أخرى إلى المِرآة ستعطينا لمحة عن الشيب الذي تخلل أذهاننا، وهذا ما تشرحه السيدة "سوزان" في "تغيُّر العقول". فتضرب المثل بنسخة "I" المختصرة التي تصدرها صحيفة "الإندبدنت"، وتحديثات الأنباء المؤلّفة من 90 ثانية في شبكة "بي بي سي" (BBC)، وترى أنها أمور قائمة على مطالب الجمهور من القرّاء والمشاهدين، والتي تعتبرها "سوزان" أكبر الدلائل على ضمور قدرة المرء على الانتباه طويل الأمد بفعل ثقافة التغريدات والمنشورات قليلة الأسطر.
فهي تربط بين النظريات العصبية المتعلقة بضمور القدرات المهملة، من جهة، وبين انتباهنا الذهني وقدراتنا العقلية والفكرية من جهة أخرى. فكما أن فاقدي البصر في مراحل مبكرة من العمر يتمتعون بقدرات سمعية أكبر من المتوسط البشري، والعكس، نتيجة لخمول المنطقة الدماغية المسؤولة عن الحاسة المعطلة وافتئات الحاسة الأخرى على منطقتها، فإن تعطيل الممارسات الذهنية، الناجم عن الانخراط في وسط لا يحتاج إلى انتباه عميق، قد يحمل الضرر ذاته على قدراتنا الذهنية ومستوى انتباهنا في القراءة والتحصيل المعرفي، الأمر الذي تزيد احتماليته كلما كان عمر التعرض لهذه الشبكات مبكرا وكانت فترتها طويلة.
فالمقولة الرائجة، القائلة بأننا نستخدم 10% فقط من قدرات عقولنا، قد أثبتت كذبها وخرفها، كما تشرح "غرينفيلد"؛ لأنه من غير الممكن أن تتعرض أي منطقة في الدماغ للتلف دون فقدان القدرات القائمة عليها، ومن ثَم كانت مساحات عقولنا -كلها- مسؤولة عن قيامنا بمهام ما، والذي يعني تعطّلها تأثرا محتملا للعقل، كما كان تعطّل منطقة من العقل -قبل ذلك- سببا حتميا لضمور القدرة المتعلقة بها.
ذلك لأن تغير الدماغ لا ينتج فقط عن طريق الجينات، كما يقول خبير النماء الدماغي "براين كولب"[20]، بل يجري نحته بفعل عمر كامل من الخبرات والتجارب التي تعمل على تغيير نشاط الدماغ السلوكي. ولمّا كانت التغيرات السلوكية انعكاسا لتغيرات الدماغ، فإن التغيرات الدماغية -بالمنطق نفسه- قد تحدث نتيجة لتغيرات السلوك. الأمر الذي تلخّصه "غرينفيلد" بجملة واحدة: "استخدم قدراتك وإلا ستفقدها"، ومن هنا كانت "المشاركة الأكبر في الأنشطة الفكرية والاجتماعية مرتبطة بتدهور معرفي أقل"[4].
وفي الاتجاه نفسه، يمدّ الكاتب الأميركي "نيكولاس كار" الخطّ على استقامته، من خلال مجموعة من المقالات عن أثر الإنترنت على الدماغ، بمقولته الحادة: "الإنترنت يحولني إلى أبله"[21]، كما صرّح من قبل في كتابه "السطحيات: ماذا يفعل الإنترنت بأدمغتنا؟" أن "الإنترنت نظام للمقاطعة والإعاقة، فهو يستحوذ على اهتماماتنا فقط، لكي يقوم بتشتيتها". وانطلق "كار" من افتراض أن الرسائل والنصوص القصيرة تؤثر في اللدونة العصبية والمشبكية في المخ، ما يؤدي إلى فقدان القدرة على التركيز على مهام طويلة الأمد ككتابة المقالات أو قراءة الكتب[21].
وهي الفرضية التي، كما يقول "سيرج تيسرون"، حاول عدد من الباحثين التحقق من صحتها في تجارب نشرت نتائجها في فبراير/شباط 2016، والتي تم إجراؤها على مجموعة الطلاب الكنديين، لتخلص نتائجها، وفقا للكاتب "حسن عمارة"، إلى أن "أكثر الطلاب ممارسة لكتابة الرسائل القصيرة هم الأقل نزوعا لطريقة التفكير النقدي العميق والأكثر افتقارا لتحديد أهدافهم في الحياة"[21].
بيد أن "تيسرون" -كما يضيف "عمارة"- يقف على الجانب الآخر، غير القاطع في صحة هذا الارتباط بنسبة كاملة، مشددا على أن نقص التجارب العملية والطبية بالأشعة المقطعية على المخ يجعلنا نعتقد أن هذه العلاقة التي أظهرتها الدراسة ليست سببية؛ لأنها لا توضح لنا ما إذا كان هذا الاستخدام هو ما يؤدي فعلا إلى تغييرات في العقل أم أن الأشخاص الذين يعانون أصلا من مشاكل في العقل هم الأكثر نزوعا لاستخدام هذه الأدوات.
في رحلة طويلة يشقّها القطار في صمت، يتخيل "باومان" مجموعة من الركّاب المنعزلين في عوالمهم الافتراضية، التي تبدأ من أصابع المرء وتتمدد داخل هاتفه المحمول، ليخبرنا أنه بعد انقضاء الرحلة سيُسارع هؤلاء الركاب إلى منازلهم، لا ليستقطعوا الوقت لجلسات السمر الأسرية، ولكن ليختفي كل منهم في فضائه المنعزل مع هاتفه في عالمه الافتراضي المخصوص، فالمكان أصبح حين يوجد الهاتف لا البشر، ووحشة المكان تتمثل في افتقاد خاصية التواصل عبر الهاتف، لا افتقاد الأُنس بالآخرين[3].
هكذا كانت النتيجة إذن. لكن، جرت العادة أن النتائج تتوافق مع المقدمات، فكيف تكون المقدمة (زيادة التواصل الاجتماعي) وتكون النتيجة (زيادة الجزر المنعزلة)؟ لذا، فإن البعض يرى في غياب الفرصة على الإنترنت للتدريب على المهارات الاجتماعية تفسيرا لهذا الفصام بين المقدمة المعلنة والنتيجة المُحصّلة؛ ذلك لأن غياب هذا التدريب قد ينبئ بحدوث انخفاض في العلاقات العميقة ذات المغزى[4].
وترجع "غرينفيلد" هذا الرأي إلى اعتبار مهم يتبدّى في افتقار التواصل الشبكي للغة الجسد والتعبيرات الحيّة، كما سبف،[1] مما قد يؤدّي لمزيد من انعدام الثقة بالحياة البشرية والناس، "فبعد كل شيء، تنبع الثقة من التعاطف، والذي ينشأ بدوره بأفضل صورة من خلال التواصل وجها لوجه ومن خلال لغة الجسد"[4].
وفي السياق نفسه، رأت البروفيسور "شيري توركل" في كتابها "وحيدون معا" أنه على الرغم من وعود التكنولوجيا الكثيرة بتعزيز التواصل الاجتماعي، فإنها في الواقع تجعلنا أكثر وحدة، متحولة إلى أكبر العوائق أمام الحميمية الحقيقية في العلاقات الإنسانية. فإن كانت التكنولوجيا تمنحنا خيار العمل والتواصل من/في أي مكان، فإنها في الوقت ذاته تجعلنا معرضين للوحدة في أي مكان.
كما أن فيسبوك يشجع، وفقا للكاتب اللبناني "طوني صغبيني"[23]، على إنشاء علاقات إنسانية سطحية لا عمق فيها، تبدأ بكبسة زر وتنتهي بالأمر نفسه، فيما أسماه "باومان" في "الحب السائل" بـ "علاقات الجيب العلوي"، وهو ما يمثل تهديدا للحياة الاجتماعية لجيل المواطن الرقمي ممن لم يسعفهم الحظ لتكوين علاقات إنسانية طبيعية قبل النشأة في أحضان فيسبوك.
ويفسّر "صغبيني" هذا التآكل للعلاقات بأن فيسبوك يدفعنا لتركيز الجزء الأكبر من انتباهنا على أنفسنا، فيما يظهر بأنه يدفعنا للعكس نحو إقامة علاقات مع الآخرين، إنه "مِرآة تتنكر على أنها نافذة"، لذا فإنه يشجعنا على التواصل الذي يعزز تقديرنا لأنفسنا، لا صلتنا بالآخرين. فالعلاقة تتحول إلى صورة وتعليق وإعجاب وتبادل بارد للتعابير الإلكترونية.
ذلك اللون الباهت من العلاقات لم يقتصر على الصداقات وحسب، فتروي الخاطبة المهنية "أليسون غرين" أنها تواجه مشكلات فريدة من نوعها عند التعامل مع المواطنين الرقميين عند تعارفهم عن طريقها، فتقول: "يبدو أنهم يجدون صعوبة كبيرة في التواصل وجها لوجه، فحوّلوا مسار التطور العاطفي للعلاقات ليتم عبر الإنترنت، مع تفضيل الأزواج لتعرف بعضهم على بعض لأول مرة من خلال المسافة والسلامة التي توفرها لهم هواتفهم الذكية"[22].
وعلى النقيض، فإن التعامل غير الجدي مع صداقات وسائل التواصل قد يأتي بأثر عكسي لم يكن حاضرا في زمن ما قبل سيطرتها، ويتمثّل هذا الأثر في الإبقاء على تلك الصداقة الإلكترونية مع شركاء الحياة السابقين، الأمر الذي يُعرّض المرء لذكريات/أخبار لا يُفضّل الاصطدام بها، فقد وجدت إحدى الدراسات التي أُجريت على 464 متطوعا أن التعرض للشريك السابق من خلال فيسبوك قد يعيق عملية التعافي والمُضي قُدما[4].
هذا العالم من العلاقات تشبّهه "سوزان غرينفيلد" بالأطعمة منخفضة القيمة الغذائية، تلك التي تُضفي القليل من المرح والترفيه على حياتنا، إلا أن الكثير منها يحمل تداعياته السلبية على المجتمع ككل. لذا، وعلى أي حال، فإن ما يبدو غير قابل للجدل، من وجهة نظرها، هو أن لهذه المواقع تأثيرا كبيرا في التواصل بين الأشخاص.
لا يمر سِباب الآخرين دون تكلفة، هذا الهامش من الخوف لدى المسيئين قد يحمينا من إيذاء الآخرين، لكن ماذا إن اختفى هذا الهامش وأصبحت حمايتنا تتوقف على أخلاق الأشخاص وانضباطهم الذاتي؟ هو رهان غير مضمون، لكننا نبدو في مأمن منه لصعوبة إخفاء هوية المسيء، طالما كان حديثه إلينا مباشرا، الأمر الذي يبقينا في موقف جيد أمام التنمّر والإهانة؛ لأننا سنتمكّن بسهولة من الانتصاف لأنفسنا والرد على اتهامات الغير. هل قرأت هذا جيدا؟ امسحه من ذاكرتك الآن.
الآن، نحن في حضرة الفضاء السيبراني ورفاهية إخفاء الهويات، فلا ضابط ولا رادع من الخوف أمام ذوي الأمراض. فإن لم تكن وسائل التواصل مؤسسة للمرض السلوكي الخاص بإيذاء الآخرين، فإنها -على الأقل- تهيئ له السبيل للانطلاق والتطور دون قيود، فكما "أن التنمّر في وجود عصابة يسمح بتخفيف المسؤولية عن فعل ما، فإن التنمّر عبر الإنترنت يحدث في كثير من الأحيان ضمن حشد افتراضي.. إذ يوفر الإنترنت للغوغاء فرصة عدم الكشف عن الهوية، ومن ثم الفرصة للتصرف بطريقة مخزية أكثر مما قد يفعل المرء عند التعامل شخصيا"[4].
هذا بالإضافة إلى التصيد (Trolling)، والتتبع (Stalking)، بما لهما من آثار سلبية على الفاعل والضحية، وبما تكفله لهما وسائل التواصل من مزايا وتسهيلات. وقد أظهرت دراسة "بورنارل" و"وود" عن أثر العالم الإلكتروني على طلاب المدارس[23] أن الإنترنت يخلق عالما فريدا من نوعه، يُضيف قدرا إضافيا من الانفصال عن الأفعال اللا أخلاقية. والانفصال الأخلاقي، كما يصفه "باندورا"[24]، يتعيّن بتمكّن الفرد من إلغاء الضوابط الأخلاقية الداخلية التي تحول دون قيامه بالسلوك المشين.
بل إن التطرّف قد يصل إلى منتهاه، كما أثبتت دراسة "سونيا بيرين" و"إيفيلين غوتفيلز"، إذ اختفت في دراستهم العلاقة بين الانفصال الأخلاقي والتنمّر عبر الإنترنت[25]، الأمر الذي يعني أن الشاشة قد تُجرّد ضحاياها من إنسانيتهم للدرجة التي لا يحتاج عندها المتنمرون إلى قمع قيمهم الأخلاقية مؤقتا، لأنهم بالفعل قد انفصلوا عنها نهائيا.
وفي مساحة أخرى، فإن التفاعل على الشبكات الاجتماعية مع القضايا الكبرى والإنسانية للمجتمع، قد يؤدي إلى خفوت الحافز الشخصي لإنزال هذا التفاعل إلى أرض الواقع من أجل إحداث التغيير المنشود؛ ذلك لأن المستخدم "يشعر بأن الإعجاب بقضية ما ومشاركتها كان كافيا"[4].
هذا بالإضافة إلى الربط الحادث بين ما تضفيه وسائل التواصل على أصحابها من نرجسية واعتداد بالنفس. فالشبكات الاجتماعية، حسب "غرينفيلد"، توفر الآن الفرصة للانغماس في هذا السلوك من دون انقطاع وعلى مدار الساعة. "ومن المثير للاهتمام أنه يمكن أيضا ربط مثل هذا السلوك بتدني احترام الذات"، نتيجة لما يوحي به العيش في سياق الشاشة من معايير كاذبة حول أنماط الحياة المرغوبة، لذا، ومع متابعة الأشخاص اللامعين، سيسود الهاجس النرجسي المستمر بسبب تدني الذات وأوجه قصورها.
وحينها "يمكننا أن نتصور دائرة مفرغة كلما زاد فيها تشويه هويتك نتيجة للتواصل عبر الشبكات الاجتماعية ازداد شعورك بالنقص، وتزايدت جاذبية وسط لا تحتاج فيه إلى التواصل مع الناس وجها لوجه[4]. ناهيك بما يثيره كل هذا من الحسد وعدم الرضا داخل النفوس الضعيفة، نتيجة لما يُظهره فيسبوك ورفقته من صور زائفة عن سعادة الآخرين.
في النهاية، ولا يبدو للحديث نهاية، فإن تغير العقول، الناتج عن تغوّل وسائل التواصل الاجتماعي على حيواتنا، لا يزال يحمل تحليلات كثيرة، تحمل من الاحتمالات بقدر ما تحمله من اليقين في آثارها الظاهرة للعيان، وهو ما يدفعنا للسؤال الأخير: هل يساعدنا وعينا بكل هذا على تجنّب آثاره وتحجيمها في حياتنا؟ أم أننا نحتاج مع الوعي إلى شيء من التقنين وإعادة ترتيب أوقاتنا، ومساحتنا من الخصوصية، داخل هذا السرداب الإلكتروني؟
——————————————————————
الهوامش:
[*] السيبراني: يقصد به عالَم التقنية الحاسوبي.
[**] الدوبامين: هرمون كيميائي يؤدي دورا رئيسيا في الإحساس بالمتعة والسعادة والإدمان.
الأوكسيتوسين: يمكن تعريفه اختصارا بهرمون الحب، نظرا لارتباطه بوظائف بيولوجية في الإنجاب لدى الإناث وعلاقتهن بالجنين.