شعار قسم ميدان

المُطلقة ونظرة المُجتمع.. لماذا يخالف المسلمون إرثهم الديني والتاريخي؟

ميدان - الطلقة والمجتمع 11

اضغط للاستماع

   

"إن لم يكن وفاقا، ففراق"

(قول عربي)

  

"كيف كُنتِ ترين المُطلّقة، قبل أن تُصبحي مُطلقة؟"، سؤال صعب، وجّهته المُخرجة ابتسام المراعنة إلى عدد من المُطلقات في حلقة من برنامجها الجديد "بلا مؤاخذة"، مُطلقات قررن الوقوف أمام الكاميرا والإجابة عن أسئلة لا يتم التطرق لها عادة. ملف المُطلقة ثقيل على قلب المُطلقة نفسها، والكثير من الأسئلة لا تجرؤ -من الأصل- على الإجابة عنها أو التفكير بها حتى بينها وبين نفسها. من بين الأسئلة أيضا: "هل يخاف المجتمع منكِ؟"، أجابت إحداهن: "نعم، أنا متمردة ومصدر تهديد لأسقف بيوتهم، هكذا يرونني".

  

المُطلقة، الضلع الحسّاس بالمجتمع، الذي يختبئ عادة من المواجهة؛ خوفا من الأحكام المقولبة أساسا، فهي المتمردة، الأنانية، غير الحكيمة، المُخطئة، وغيرها من الأحكام التي سبق تجهيزها، والتي تقف المطلقة عاجزة أمام الوسيلة الأمثل/الأكثر نجاعة التي يجدر بها استخدامها لتغيير هذه الأحكام، فتختار -عادة- أن تُصدق أو تتماشى مع هذه الأحكام لتؤمن أنها تُشبهها فعلا، أو تختار الصمت، فأن يُفك حصار الصمت لتبدأ المواجهة؛ أمر ليس يسيرا عليها. 

  

من هنا، سألنا في "ميدان" المُخرجة ابتسام المراعنة عن كواليس هذه الحلقة، هل هُن قويات بالفعل كما ظهرن أمام الكاميرا؟ ولماذا قبلن من الأساس هذه المواجهة والوقوف في وجه تيار -من المُحتمل- أن يجرفهن كما يهوى المجتمع؟ تجيب المراعنة لـ "ميدان" فتقول: "في مجتمعاتنا يُلقى كل حمل الطلاق على ظهر المطلقة وحدها، وكأن الزوج معفًى من هذه المسؤولية تماما، فالمطلقة هي المتمردة، أو الفاشلة التي يرجع لها وعليها فشل العلاقة، والتي كان من الضروري أن تصبر أكثر، وتتحمل أكثر، وتصمت أكثر، وتُوسع مدى طاقاتها أكثر وأكثر"، وأضافت: "إلى متى ستبقى المطلقة خجلة من قرارها أو مصيرها؟".

    

بالعودة خطوة عريضة، خطوة تتسع لمئات السنوات، وملايين الدقائق، للحظة التي شُرع فيها الطلاق، وضُمن فيها لكل طرف حقه، خاصة حق الاندماج، حق العودة للمجتمع كمنفصل عن شريك لا أكثر، حق أن لا يُحكم على المرأة بالتمرد، الفشل، الغباء، أو الأنانية. أين ذهبت هذه الحقوق وازدادت هشاشتها حتى تطايرت وتبخرت وكأنها لم تكُن يوما؟ وباتت المرأة مُضطرة للتخلي عن الكثير في سبيل أن تنال حقا مشروعا يضمن لها الاستمرار! أن تستمر في الحياة، والتجربة، والسعي لفُرصة جديدة، كأي منفصل عن شريك لا أكثر.

  

الانحدار الأعظم!

"من المتناقضات الباعثة على الحزن أن المُسلم ينفق أوقاتا وأموالا في الخطبة والمهر والأثاث والهدايا والعرس، قد تكون ألوف الجنيهات في أيام طوال، ثم بعد ذلك كله يقول عليه الطلاق إن عاد إلى التدخين، ثم يدخن وتذهب امرأته في سيجارة وينهار بيت أنفق في إقامته الكثير"

(محمد الغزالي)

  

كان في قديم الزمان أَمَة مملوكة اسمها بريرة، أرادت أن تتحرر من رق العبودية، وأن تخُط بيدها مُستقبلها الذي ترضاه، واتفقت مع مالكيها من الأنصار على ذلك، "واشترت نفسها بالتقسيط المُريح" (1) وبقيت بعدما تحررت زوجة لعبد مملوك اسمه مغيث، والإسلام لم يحرمها حقها في نقض الوثاق، وحل الرباط، وكان لها هذا. فلما رأى المغيث إصرار بريرة، استشفع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فشفع له عندها، فقال لها الرسول: "لو راجعته، فإنه زوجك وأبو ولدك"، قالت: "يا رسول الله، تأمرني؟"، قال: "إنما أنا أشفع"، قالت: "لا حاجة لي فيه". فكان لها ما أرادت، دون أن تُجبر على حبه أو البقاء معه لأي سبب كان حتى ولدها، بل أُعطي لقلبها قرار البقاء أو الابتعاد.

  

هذا التاريخ يفتح باب التساؤل؛ كيف تعقّدت هذه المرحلة من حل الوثاق؟ وفي هذا السياق، سألنا المُفكّرة الإسلامية والباحثة في الفقه الأستاذة عابدة العظم، والتي تحدثت لـ "ميدان" أنه في عهد الصحابة كان الموت هو أكثر ما يُفرق بين المرء وزوجه. ولكن هناك قصص كثيرة لصحابيات تطلّقن، مثل أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط (2)، التي قُتل زوجها في غزوة مؤتة، فتزوجها الزبير بن العوام، ثم لم تصبر على غيرته، فطلبت طلاقها وتزوجت بعده، وتُضيف الأستاذة عابدة: "في ذلك الزمان، كانت المرأة تتزوج فور انتهاء العدة بلا حرج".

   

  

تُتابع "العظم" لقاءها مع "ميدان" للإجابة عن الكيفية التي تعقّدت معها النظرة تجاه المطلّقة بقولها: "لعبت عدة عوامل في ذلك، ومن خلال قراءاتي للفقه، ولما وصلتُ له من طريقة التعامل مع المرأة خلال العصور، فإني أعتقد أن اختلاط الفقه بـ "النصائح الاجتماعية العامة" ساهم في هذا، فبعضهم جعل الزواج من البكر والصغيرة والجميلة مستحبا ومُفضَّلا! وحين وُضع كل ذلك في كتب الفقه، حسبه الناس تشريعا. وافترض بعضهم أن المُطلقة بها عيب وإلا لما زهد بها بعلها، وأنف آخرون الدخول على امرأة سبقهم غيرهم إليها، فشاعت القضية وصاروا يروّجون لها، حتى اقتنع بها الشباب وأمهاتهم. وبالتالي؛ حتى الزواج من الأرملة قليل ونادر في زماننا، ولكن الفرق أن الأرملة تنال درجة أعلى من المُطلقة، واحتراما أكبر ممن يلوذون بها، لأنه قدر الله فيها، في حين قد يُساء الظن بالمطلقة لأنها اختارت هذا بنفسها، أو تسببت به وأرغمت زوجها عليه، وتُتهم أحيانا بأمور منها: الرغبة برجل آخر".

   

الجغرافيا والطلاق

"يقع الطلاق بين اثنين كل منهما يحب نفسه أكثر من الآخر"

(أنيس منصور)

  

في الوقت نفسه، نرى أمر الطلاق في موريتانيا مثلا يختلف عن الشام أو مصر، فالمُطلقة في المجتمع الموريتاني لا تُنبذ، لا يُساء الظن بها، ولا تُهمّش على الإطلاق ولا يكون الطلاق نهاية المطاف، بل العكس تماما، نراها تُتابع اندماجها الأساسي الذي كان قبل الزواج وخلاله وبعده، وتتزوج أكثر من مرة دون أن يكون الطلاق وصمة ينفر منها ذكور المجتمع، بل إنها تحتفل مرتين، مرة يوم زفافها والأخرى يوم طلاقها، في ظاهرة تسمى "حفلات الطلاق" (3). والمُراد من هذه الحفلات المواساة والدعم النفسي، حيث إن مفاهيم المجتمع الموريتاني لا تحكم على المطلقة بأنها المُذنبة، ولكن يتحمل الرجل جلّ الذنب، ولا يُنظر لها بنظرة دونية، ولكنها تتساوى أحيانا مع البِكر، وهناك مقولة في موريتانيا بما معناه: "المرأة تزداد قيمتها في المجتمع كلما تكررت زيجاتها"، ويرجع كل هذا لطبيعة المجتمع الموريتاني الذي يجعل ثنائية "مُطلقة – مرغوبة" صعبة على أن يستوعبها العقل العربي.

   

  

طرحنا هذا الموضوع للنقاش مع الأستاذة عابدة العظم، فكانت إجابتها لـ "ميدان" عن سؤال إذا كان الدين واحدا وهو الكفيل بأن يطبع ملامح مجتمعاتنا، فلماذا تختلف النظرة للمطلقة التي من المُفترض أن ترجع -هذه النظرة- للأصل ذاته؟ فقالت: "يبقى الدين الإسلامي مرجعنا مهما تفلّت الناس منه، وهو فعلا ما يطبع ملامح مجتمعاتنا، ولكن حين تم تبويب الأحاديث الخاصة بالمرأة؛ حدث التالي:

  

* كانت الأحاديث لا تزال مختلطة، أقصد "الصحيحة بالضعيفة"، مما أعطى صورة قاتمة للمرأة التي تطلب الطلاق (وأصبح وكأنه محرم عليها)، وهو بالطبع حلال.

 

* حين حُشدت الأحاديث التي تتحدث عن الطلاق، في باب واحد، كانت خلاصتها أن "المختلعات هن المنافقات"، وأنه "أيّما امرأة طلبت طلاقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة"، مما زاد من وضع المطلقة سوءا، فهي تفعل أمرا ليس مستساغا! ورغم أن الأول ضعيف فإنه بقي، ورغم أن الثاني حدد أن هذا الحديث خاص بمن كان "طلاقها من غير سبب"، ولكن الناس يتركون الاستثناء، ويأخذون بالعام.

  

* واجب المرأة (بعُرف العامة) هو الصبر والتحمل مهما كان ومهما حدث، ولهذا خُلقت، ومن أجل ذلك يعتبرونها متمردة وكونها تجرأت على المجتمع يخافون منها، ولأنها فكرت بنفسها وآثرت حريتها يعتبرونها أنانية (في حين يرون الطلاق من جهة الزوج حقا خالصا، وليس أنانية).

undefined   

 

  

سلاح "أبغض الحلال عند الله الطلاق"..

"نادرا ما يكون الزواج زواج عقل؛ ولكن الطلاق يجب أن يكون طلاق عقل، لأن الزوجين يعرف كلاهما الآخر"

(ساشا غيتري)

  

كثيرة هي الجمل والنصائح التي تُقدَّم للزوجة التي تطلب الطلاق، كمصدر تهديد أو تخويف من عقوبة كبيرة تسقط عليها من رب السماء، مثل: أبغض الحلال عند الله الطلاق، إذ رُبما يظن قائلها أن الخوف الذي تُزرع بذوره في قلب المرأة حينها سيكون رادعا لها وسيمنعها من اتخاذ قرار كهذا سيُغير مستقبلها. نوقشت هذه العبارة مع الأستاذة عابدة العظم، وقيل لها صراحة؛ هل أُسيء استخدام هذه العبارة؟ فأجابت: "الطلاق أُسيء استخدامه جدا جدا، والطلاق من الأمور التي وقع فيها تساهل كبير من الرجال، وتعسف أكثر. وصار وسيلة لتربية المرأة وحملها على ما يعتقد زوجها أنه الصواب. فخرج تماما عن مقصده الشرعي، وأصبح للتهديد والتخويف، ويكفي إيقاع "الطلاق المعلق"، فأصبحت المرأة لا تشعر بالأمان، ولم يعد البيت سكنا، فنراها تخرج لتعمل لتؤمن نفسها، فتزداد احتمالات طلاقها".

    

كثيرا ما تستحيل الحياة، فلا يكون هناك ما هو أفضل وأنجح من الطلاق
كثيرا ما تستحيل الحياة، فلا يكون هناك ما هو أفضل وأنجح من الطلاق
    

وردا على أن المطلقة تُعامل معاملة الكائن الجرثومي، الذي يُهدد المجتمع، تقول الأستاذة عابدة العظم إنه ولكثرة ما تغوّلت النظرة الدونية للمرأة، فقد تفشى في المجتمعات أن المرأة لا يصح أن يدخل عليها أكثر من رجل، حتى لو كان بعد الطلاق التام وانتهاء العدة، وسببه أن الناس يطورون ما يعرفونه من أحكام ويتشدّدون فيها. فحين جاء التعدد للرجل، وزوج واحد للمرأة، تطوع الناس باستخراج أحكام اجتماعية وجعلوها عادات ملزمة، وهم يعرفون أنها ليست دينية. ولكي تُحاصر المطلقة، ولا تفكر أصلا بالزواج، تم إقناع الآباء بأن الفتاة جربت حظها مرة، ولا داعي للتكرار لأنه قد بان، وهذا من التأثر بالخرافات أن الحظ لا يتغير.

  

ويدخل أحيانا سوء الظن، فيتوقع الناس غالبا أنها تطلقت لأجل رجل آخر، فإذا تزوجت بعد طلاقها، لبستها التهمة، مما يجعل أهلها يمتنعون عن تزويجها، ويحبسونها أحيانا، خوفا من كلام الناس عليهم. وأيضا؛ سوء الظن هذا، وهذه الفكرة، تُخوف الرجال منها خشية أن تخون، أو يتزوجها وقلبها عند رجل آخر. ولكن الكارثة حين تم إقناع الأبناء بهذا، فنراهم أول مَن يقف في طريق أمه، والمشكلة أن الأبناء صغار وبلا خبرة، فلا يدركون مقدار حاجة أمهم إلى الزواج، ويكتبون عليها الحرمان، حتى إذا كبروا انصرفوا عنها، وتركوها فريسة للوحدة والاكتئاب. ومن الأساس، لو اعتبرنا المطلقة متمردة، لكان الزواج بالإسلام كالكاثوليكية، مؤبدا، وهو ليس كذلك؛ وكثيرا ما تستحيل الحياة، فلا يكون هناك ما هو أفضل وأنجح من الطلاق. وفي مجتمعاتنا الحالية لا فرق بين أن يطلق الرجل أو تطلب الطلاق المرأة، لأنها غالبا هي المتهمة، والحق عليها، وهي التي سيتردد الرجال كثيرا بالارتباط بها.

   

  

تتابع مع "ميدان" لتقول إننا نرى أيضا خوف القريبات والجارات من المطلقة، ونرى أن الخوف من المطلقة يزداد لأنها حين لم تعد بكرا، وهو الرادع حسب ظنهم، ومؤلم جدا ظنهم هذا، فلم يعد لديها ما تخاف عليه، من هنا يأتي الخوف الزائد منها. كما أنهم يفترضون أنها لم تعد تمتلك حياء العذارى، وما مرت به زودها بجرأة، إذ يكفي وقوفها بوجه المجتمع، وطلب الطلاق، ويتوقعون كونها لن تحظى بزوج عن طريق خطبة الأهل فإنها ستبحث عنه بنفسها، وأيضا كونها جربت وأصبحت ذات خبرة بالرجال، فلا بد أن تُحسن الخيار، ولذلك ستخاف منها كل زوجة حباها الله بزوج متميز، لأنها إذا تسلطت عليه ستجعله يطلبها بالحلال، وأيضا ستخاف منها الزوجة التي لا تأمن على زوجها من النساء، لأن المطلقة ستقبل بإقامة علاقة صداقة مع الرجال (والتي قد تتحول لخيانة أو زواج)، كل هذا ربما ساهم في الخوف منها.

 

المرأة ضد المرأة

في نهاية حوارها مع "ميدان"، تُلقي الأستاذة عابدة العظم الضوء على محور مهم في إشكالية رفض المجتمع للمطلقة ونبذها، فتقول إن المصيبة الأكبر هي أن المرأة هي التي ترفض المرأة المُطلقة أيضا. الأم لا تُفضل المطلقة لابنها، ولا الأخت تتمناها لأخيها، وهلم جرا. والذي ساعد على سلب حقوق المطلقة في مجتمعاتنا هو سكوت المرأة، وسيطرة الرجال على الفتوى، وعلى مراكز النفوذ، فالمال والقوة الجسدية يبقيان عصب الحياة. وحين يقنعون المرأة أنها عاطفية وضعيفة العقل، وحين تُمنع من التفقه والدراسة، ويُؤكّد عليها أنه "شرع الله"، وأنها يجب أن تسمع وتطيع مهما قيل لها، فبالتأكيد سيسهل تسييسها واللعب بأفكارها وأخذ حقوقها أمام عينها. ورُبما سيبقى الشيء الأهم هو أن تسأل نفسك؛ كيف ستكون نظرتك للمطلقة، في حال أصبحت أمك، أختك، امرأة من عائلتك، مُطلقة؟ فنظرتك ونظرتي ونظراتهم كلها مجتمعة هي ما تُشكِّل نظرة المجتمع.

المصدر : الجزيرة