الكوفية.. من الثورة الفلسطينية إلى "هز الكتف بحنيّة"

الكوفية الفلسطينية
اضغط للاستماع

"الأرض كيف الآن ترسم نفسها؟

كوفية
لتكون للمعنى إشارة
كوفية
والشمس تلبسها
إذا انطلقت مظاهرة
تغني في الشوارع
ضد غارة
كوفية
هي كلمة السر التي
نبتت
بجلد الصمت فاشتعلت شرارة
الآن تعرفها الملابس جيدا
في كل مدرسة
ومقهى
أو سفارة"

(ياسر أنور)

كوفية، ومظاهرة، وفعل ثوري ترسم الأبيات السابقة ملامحه بخيوط العلاقة التي تجمع بين الكوفية كرمز، والمظاهرة كفعل، وهو ما يمكن أن يعبر عن مكانة الرموز لدى البشر. تستطيع مثلا رؤية أعلام الدول كرابطة تجمع المواطنين حول راية بلادهم باعتباره الرمز الجامع لهم، ويمكنك أن تنتقل من الأعلام إلى شعارات الأندية الرياضية، ثم إلى الرموز الثورية كجيفارا وغيره لتجد النتيجة نفسها.

الكوفية الفلسطينية

الأمر ذاته يمكن أن نقيسه على الكوفية، والتي باتت ترتبط بحكم استخداماتها الواقعية بالشخصية الفلسطينية، وترتبط بصورة أوسع برمزيتها النضالية التي تظهر في عديد المناسبات الاحتجاجية التي لا تنحصر في السياق الفلسطيني فقط، بل تمتد لتظهر في ثورات الربيع العربي بمختلف مناطقها، كما يمكن رؤيتها باعتبارها أيقونة يرتديها عدد من أفراد الأحزاب "الثورية".

 

ولأن الرجوع للتاريخ ضروري لفهم التحولات التي لحقت بالكوفية، فإننا بحاجة إلى قراءة الواقع السياسي والاجتماعي -حينها- الذي أفرز هذا الرمز، بدءا من ارتباطاتها النضالية، ومن ثم الهوياتية، وصولا لاستخدامها باعتبارها زِيّا ينطبق عليه وصف "الموضة"، فواقعنا امتداد لتاريخ قريب شكّل الكثير من سلوكياتنا اليومية، والتي نتعامل معها باعتبارها بديهية. تاريخ يمكن النظر إلى تضافر العلاقة فيه بين الثقافي والسياسي من زاوية فرانسيس فوكوياما حين طرح فكرته بقوله[1]: "إن ما يبدأ فعلا سياسيا ينتهي في كثير من الحالات متجسدا في رموز ثقافية"، لتتحول ممارساتنا "البديهية" في كصير من الأحيان باعتبارها تثبيتا وتكريسا لواقع نلعنه يوميا، لكننا نعيد إنتاجه عبر ممارساتنا. ولتطرح الكوفية هنا أمرا فريدا في المجتمعات الإنسانية، حول قدرة الرموز على توحيد الشعور الجماعي نحو وجهة محددة، وذلك بما يحمله الرمز من قدرة على استثارة الانفعالات وتوجيهها في مسارات قادرة على ضبط إيقاع الجموع المشتتة.

 

في البدء.. كانت الثورة

حينما كان أبو صالح في مسلسل "التغريبة الفلسطينية" ينتظر أخبارا حول صمود فوزي -أحد الثوار- أمام تعذيب الإنجليز بعد اعتقاله إثر عملية قام بها الثوار في أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939، جاءت الأخبار مبشّرة بعدم اعتراف فوزي أمام حملات التعذيب، لكنها أخبار صاحبتها مشكلة كبرى، حيث اعتقلت القوات الأمنية البريطانية رجلا مدنيا لمجرد ارتدائه الحطة والعقال لاشتباههم به باعتباره أحد الثوار، الذين تميزوا حينها بارتدائهم الحطة السوداء والبيضاء.

 (من الدقيقة 39 إلى 41) 

 

ومن هذا المشهد التاريخي تحديدا الذي صوّره المسلسل، بدأت الحكاية، فقصة الكوفية وارتباطها بفلسطين تطورت مع الثورة الفلسطينية الكبرى، فحينما أصدرت[2] بريطانيا توصية بتقسيم فلسطين عام 1936، وتبنت حكومة الانتداب البريطاني هذه التوصية معلنة عزمها على إقامة دولة يهودية، اندلعت الثورة الفلسطينية، ثورة كانت القرى معقلها الرئيس بسبب تمركز المقاومة المسلّحة فيها. حينها، كان المقاومون في القرى ومن الفلاحين كعادتهم يستخدمون الحطّة لإخفاء ملامحهم، ليتجه الاستعمار البريطاني نحو إستراتيجية عسكرية تستهدف قنص من يلبسون هذه الحطّة، والتي عُدَّت حينها لباسا يرتديه كل قادة الثورة الفلسطينية.

 

وبحسب ما ورد في الفيلم الوثائقي "الكوفية – أيقونة الثورة الفلسطينية"، الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية[3]، ففي تلك الفترة الزمنية ومع اشتعال الأحداث، أصدرت القيادة العسكرية للثورة قرارا بأن يلبس الشباب الكوفية والعقال، كتعبير عن التضامن مع الثوار، حتى لا يتمكن البريطانيون من تمييز الفدائيين عن غيرهم، وبهدف تحييد إستراتيجية العدو تلك. تضامن انعكس بصورة واسعة على مختلف شرائح المجتمع، ليتجسد ذلك وبصورة طريفة عبر مناداة الباعة للمارّين بترك الطربوش الذي كان منتشرا حينها وارتداء الحطّة (الكوفية) والعقال بقولهم: "الحطة والعقال ب 5 قروش.. والنذل لابس طربوش". لتشكل الكوفية وفق هذا السياق باعتبارها حالة شعبية تضامنية مع الثوار، وبمقاومة المستعمر تحديدا، والتي شملت مختلف القطاعات الشعبية، والتي عبّر عنها الحكيم في مسلسل "التغريبة الفلسطينية" حينما أخبره والده بأن ارتداء الحطة يخفي هيبته كحكيم، ليجيب: "يا سِيدي، يحسبوني ثائر وبلاش إني حكيم"، ولتعبأ الكوفية وفق هذا التضامن الواسع بحمولات نضالية كان لها ما بعدها.

الكوفية الفلسطينية

وبعكس ما يتصور الكثيرون، فالحطّة السوداء والبيضاء، أو كما تُعرف بالكوفية، لم تكن لباسا فلسطينيا أو ممثلا لهوية فلسطينية تاريخية، إلا أنها كانت لباسا مشهورا بين الفلاحين وأهل الريف والبادية عموما، من فلسطين، للحجاز، والعراق، وكما تذكر بعض المصادر، فقد سُمّيت بالكوفية نسبة إلى مدينة الكوفة بالعراق[4]. وهذا الامتداد المنسوب للعراق أورده الشاعر ياسر أنور بقصيدته حينما خاطب الكوفية قائلا:

"بالأمس كانت في العراق
سألتها
كم ساعةً
تقضين في تلك الزيارة؟
لم تلتفت
صوت البنادق كان أقوى
واختفت
في خندق أو جوف دارة
كوفيةٌ
صارت دليلا
أو بديلا للكلام
علامة تعني انتصاره
فتوحدت كل البلاد وحولها
وقفت تبايعها لتمنحها الإمارة"

من الثورة.. لتشكيل الهوية

لم تكن نكبة عام 1948 واحتلال مناطق شاسعة من الأرض الفلسطينية، وتهجير طيف واسع من الشعب الفلسطيني عن مدنه وقراه بحسب شفيق الغبرا، سوى حدث مفصلي هدد الفلسطينيين بتدمير النسيج الكامل لحياتهم الاجتماعية[5]، لتُشكِّل هذه الحادثة محطة مركزية في وجدان الشعب الفلسطيني، ومع حالة التيه، والشتات، عادت الكوفية للظهور، في سلوك يشبه التنقيب الذي يبحث الفلسطيني عبره عما يمكن أن يتشبث به، لتُستدعى الكوفية في تلك اللحظة وما تلاها باعتبارها مرجعية نضالية يمكن أن تعيد شيئا من كيانية الفلسطيني المقاوم وهويته التي تمزقت.

"سجل أنا عربي

ولون الشعر فحمي

ولون العين بنيّ

وميزاتي على رأسي

عقالٌ فوق كوفية"

(محمود درويش)

حتى ذلك الحين، لم تكن الكوفية سوى رمز ثوري لا يعبر عن هوية فلسطينية بالقدر الذي يعبر فيه عن هوية ثورية، وهو ما وعى له الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حينها بارتدائه الكوفية ذات البُعد النضالي، وهو الأمر الذي يطرح مسألةَ -ليست مثار نقاشنا هنا- دور الفصائل الفلسطينية في إعادة تعريف الرموز وتعبئتها في محاولة جمع الشتات الفلسطيني تجاه مُتخيّل ما. إلا أن مرحلة انتقال الكوفية كرمز هوياتي للفلسطينيين بدأت قصته من الأردن، فمع تزايد وجود المقاومة المسلحة الفلسطينية في الأراضي الأردنية نهاية ستينيات القرن الماضي، تنامت الخلافات بين الحكومة الأردنية التي نظرت للمقاومة كسُلطة ثانية تتمدد داخل الحدود الأردنية مع تزايد شعبيتها الداخلية ومع ما حمله وجود المقاومة من توترات على الحدود الأردنية الإسرائيلية.

 

وبعيدا عن سرد العوامل التي تضافرت لتنتج ما يُعرف بمجزرة أيلول الأسود[6]، فقد أدت تصفية النظام الأردني لعناصر المقاومة الفلسطينية، والذي كانت ترتدي قواته الأمنية في حينها الحطة الحمراء والبيضاء، إلى شرخ كبير بين الأردنيين والفلسطينيين، لينعكس ذلك في حالة تشبه تجميد الزمن، عبر التقاط صورة لما يرتديه قادة البلدين، أو الممثلون العسكريون لها، باعتبار تلك اللحظة الزمنية تُمثّل تعبيرا عن هوية ترسم خطا فاصلا مع الآخر، وليترسخ وفق هذه الحدث السياسي رموز ثقافية لم تعد معبرة عن بُعد نضالي أو إرث محدد في صورته التاريخية، بالقدر الذي باتت فيه معبرة عن بُعد وطني، والتي ما زالت آثارها متفاعلة على صعيد الممارسة في ثنائية الفلسطيني/الأردني.

 

حادثة لم تُشكّل الصيغة النهائية التي أعادت تعريف الكوفية، فمع اندلاع الانتفاضة الأولى، أو ما تُعرف بانتفاضة الحجارة عام 1987، ومع تطور وسائل الإعلام، والتغطية المكثفة حينها، بدأت الكوفية بالظهور والانتشار على نطاق واسع، وترسخت باعتبارها رمزا نضاليا فلسطينيا، ولم يعد بالإمكان -حينها- ذكر النضال الفلسطيني دون الكوفية، ومع تكرار عرض هذا الرمز[7]، بدأ تزايد ارتباط الكوفية بالهوية الفلسطينية. أحداث الانتفاضة ذاتها تميزت بمشاركة الجميع دون زي محدد يعبر عن تعددية حزبية أو فصائلية في السياق المحلي الفلسطيني، إلا أن عددا من المنظمات قررت أن تتخذ من الحطّة الحمراء/البيضاء علامة مميزة لها، وكان التيار اليساري محطة البدء، ليتخذ من اللون الأحمر معبرا عن هويته كمقاربة لليسار العالمي، وكتعبير عن المد الشيوعي.

undefined

كما أن كثيرا من الفلسطينيين بما يحملونه من قضية ما زالت متفاعلة حتى يومنا، وبما تحمله هذه القضية من تاريخ، يلجؤون للكوفية في كثير من استخداماتها باعتبارها الرمز الذي يعبر عن استمرارية نضالهم، حتى وإن لم يكن هناك فعل نضالي ثوري حقيقي يقومون به، لكن ما يحدث هو أن قوة هذا الرمز، أي الكوفية، يمكن أن تُشبع بمجرد ارتدائها حاجةَ الأفراد في تعبئة خانة الفعل النضالي لديهم، لتصبح الكوفية بذلك وكما يقول الفيلسوف الإيطالي ميفازولي[8] عن الرموز باعتبارها مُشكِّلة لـ "وعي جماعي" ينعكس على ذاته ليُعيد تشكيل الواقع الاجتماعي، أي إنها تُشكّل وعيا جماعيا يُعيد تعريف الجماعة لنفسها ويزيد من المشترك بينها، وبذلك، تعمل هذه الرموز بحسب ألبيرتو ميلوشي[9] كتعبير عن هوية تنعكس في كثير من تفاصيل الحياة اليومية.

 

كوفية استهلاكية.. أم نضالية؟

وفي الحين الذي تُرفع فيه الكوفية في الرقصات الاحتفالية ويتم التلويح بها مع "هز الكتف بحنيّة"، فإنها تُمثّل في حالتها تلك مزيجا فريدا، لا من حيث الحدث نفسه، ولكن للمشاعر التي يمكن أن تُعبّأ في هذا المشهد الذي يتضافر فيه استدعاء فلسطين كاسم معبّر عن قضية نضالية، والكوفية كرمز هوياتي/نضالي، مع الدبكة كرقصة شعبية، مُجتمعين في إطار احتفالي/استهلاكي يُساق فيه هذا المزيج لا باعتباره ترفيهيا فقط، لكن باعتباره حَدَثا يُعيد تعريف النضال نفسه، أي أن يصبح ذلك المشهد نضاليا بذاته حتى وإن كان ترفيهيا، وعليه يمكن استدعاؤه كنموذج قابل لإعادة التطبيق، وإعادة استدعاء النضال الفلسطيني من خلاله عبر مجموعة من العروض الفلكلورية الرمزية التي تشبع احتياج القيام بفعل نضالي، دونما ثمن نضالي، ولتفقد الكوفية بحكم تسليعها على مختلف الأصعدة جزءا رئيسيا من أيقونيتها ورمزيتها الثورية، باتجاه مظهرها المساير للموضة.

 

وبذلك، فقد بلغت تحويرات الكوفية أَوجَها في فضاء السوق الذي نعيش فيه، ومع تغول رأس المال في شتى تفاصيل الحياة؛ أدت سيطرة السوق لانعكاسات طالت تفاعلات الفرد في مساحاته اليومية، ليفقد الإنسان قدرته على تعريف نفسه سوى عبر سلوكياته المستوردة من السوق، ولتنحصر قيمة ما نقوم به في صيغته الظاهرية فقط، وهو التأثير الذي امتد ليطول كل رمز، فالسوق لا يكترث بما تحمله الرموز من قيم، ولا بما تحمله من إرث، حيث يمكنك مثلا أن ترى حذاء مصمما بألوان الكوفية وزخرفتها[10]، كما يمكنك في مختلف مناطق العالم أن ترى ما يُعبّر عن مسايرة تصميم الكوفية بألوانها وخطوطها للموضة. لتزيد بذلك الحمولات الرمزية التي أبعدت الكوفية عن إرثها النضالي الثوري تجاه تعبيرات هوياتية ضيقة، يُعيد الفلسطيني من خلال ممارساته تكريس واقع سياسي تشكّل وفق سياق تاريخي متقلّب وممزق.

undefined

رغم ما سبق، فإن الكوفية، ولا شك، ستبقى جزءا من الإرث النضالي الفلسطيني، والذي يُعيد تجسيد قيمه عبر الرموز، وفي ظل الحاجة الإنسانية إلى رموز -رغم ما تحمله من هشاشة تزداد بحسب توظيفها السياسي- فإنه يمكن لها أن تعيد الاتصال بما تحمله القضية الفلسطينية من إرث في المقاومة والنضال، والتي يمكن مع المنعطفات أن تعيد بعث معانيها من جديد. معانٍ ما زالت تتجسد في عدة مناطق بالداخل الفلسطيني المحتل كتأكيد على وجود الفلسطيني صامدا من محاولات الطمس التهويدية التي تطول كل رمز ثقافي وهوياتي فلسطيني، ومعانٍ ما زال فلسطينيون في الداخل والخارج يسعون للتأكيد أن الكوفية كرمز ليست بديلا عن النضال، ولكنها إرث يتجدد معناه بتجدد النضال الفاعل.

المصدر : الجزيرة

إعلان