شعار قسم ميدان

مالك بن نبي.. الجزائري الذي وضع خطة نهوض للأمة

مالك بن نبي
اضغط للاستماع

"أنا شديد التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ".

[مالك بن نبي]

في أسرة بسيطة بشرق الجزائر، كانت مدينة "قسنطية" على موعد مع ضيف جديد لن يكتفي بالبقاء فيها، ولن تحيط "قسنطية" وحدها بأفكاره التي ستتجاوز نطاق الجزائر فيما بعد، بل ستتجاوز المنطقة العربية بأسرها. ففي الأول من يناير/كانون الثاني من عام 1905م كان الحاج "عمر بن نبي" يستقبل مولوده الجديد "مالك" الذي سينتقل سريعًا في مراحله التعليمية، بين "الكُتّاب" في "تبسة" والعودة إلى المدرسة في "قسنطينة"[1]؛ لتبدأ منها رحلته الفكرية الجديدة على الفكر العربي، والمتميزة في طرحها العميق.

 

وفي "قسنطينة" كان "مالك" يجاور دروسه بمجالس الفقه للشيخ "ابن العابد" ودروس النحو العربي والصرف على يد "الشيخ عبد المجيد" الذي "أثّر في تكوينه الفكري وغرس فيه حاسة النقد الاجتماعي، كما تأثر أيضًا – كما يذكر في مؤلفاته- في المدرسة الثانوية بالسيد "مارتن" الذي أسهم في إثراء حصيلة تلامذته بالمفردات اللغوية وغرس فيهم ملكة التعبير وتذوقه وحبب إليهم المطالعة"[2].

 

وكذا تنقّل "مالك" بين المعارف والأفكار المختلفة، فقرأ لـلأديب والشاعر الفرنسي"جول فيرن" وتذوق العبقرية الشعرية الجاهلية وشعر العصر الأموي والعباسي، وحتى مدارس الشعر الحديثة[1]، مما أكسبه طابعًا أدبيًا ملموسًا في مؤلفاته فيما بعد. ثم ما لبث أن جذبته الحركة الإصلاحية لـ"ابن باديس" بسبب ما امتاز به -منذ صغره- بالفكر الثوري ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر[1].

مالك بن نبي

فيروي في مذكراته أن أحكامه الفكرية المسبقة ربما أورثته إياها طفولته في عائلة فقيرة في قسنطينة، فيقول عنها إنها "زرعت لاشعوريًا في نفسي نوعًا من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة منها، وكنت أعتقد أنني أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريبًا من البدوي أكثر من البلدي، الرجل الذي يحيط به وسط متحضر، وكان الشيخ ابن باديس بلديًا"[3].

 

بين الشرق والغرب

"إذا عُدَّ المفكرون من المسلمين في هذا العصر فإن «مالك بن نبي» هو من هذه القلة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف؛ فالمفكر هو الذي يدرس ويتأمل ويقارن، ويحلل المشكلة إلى أجزائها، ثم ينسق ويركب ويجتهد في إيجاد  الحلول".

[محمد العبدة]

في عام 1925م أنهى "مالك" رحلته التعليمية الأولى، فسافر إلى مرسيليا وليون وباريس بحثًا عن عمل ولكن دون جدوى، ليعود سريعًا إلى الجزائر حيث عمل في "تبسة" كمساعد كاتب في المحكمة. وأتاح له عمله هذا الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع أيام الاستعمار مما ساعده على تفسير ظواهر مختلفة فيما بعد[2].

 

لكن، وفي عام 1930م، حينما كانت فرنسا تحتفل بعيدها المئوي لاحتلال الجزائر، اضطر "مالك بن نبي" للسفر إلى فرنسا مرة أخرى وحاول الالتحاق "بمعهد الدراسات الشرقية"، أملًا في التخرج محاميًا، لكن اجتيازه لامتحان القبول لم يكن سببًا كافيًا لقبوله حسب رؤية المسؤولين؛ إذ "إن الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع بالنسبة لمسلم جزائري لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي"[2] حسب ما أوضحه له مدير المعهد.

 

في هذه الفترة، زار "ابن نبي" متحفًا للفنون والصناعات "كان سببًا في تفكيره لأول مرة في مشكلة الحضارة عندما شاهد عينات التقنية من القاطرة البخارية الأولى والطائرة"[2]، الأمر الذي دفعه لتعديل رغبته، بعدما فشل في الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية، ليلتحق بمدرسة "اللاسلكي" للتخرج كمساعد مهندس، فيساهم هذا التحول -على الرغم من ابتعاده النظري عن رغبته الأولى- في اقتحام "مالك" عالم الفكر السياسي من باب دراسته التقنية[2].

 

فألزمته مدرسة "اللاسلكي" على الإلمام بالرياضيات التي أحدثت له تغييرًا عميقًا في النظر والتفكير لديه فكانت فترة دراسته للرياضيات نقطة تغيير جذري في اتجاهه الفكري -كما يقول في مذكراته- "ودخل من خلالها إلى مناخ الكم والكيف حيث يخضع كل شيء إلى المقياس الدقيق ويتسم فيه الفرد أول ما يتسم بميزات الضبط والملاحظة"[2]، ويلاحظ القارئ لأعماله كثرة اعتماده على الصيغ الرياضية والرسومات الهندسية في التعبير عن أفكاره[4].

 

إلا أنه لم يتمكن من إجراء الامتحان التطبيقي الضروري لتخرجه مهندسًا، فتزوج في عام 1931م، أثناء دراسته في فرنسا، من شابة فرنسية أسلمت وسمت نفسها "خديجة"؛ لتتهيأ له أسباب الراحة، فتساعده زوجته على مواصلة دراسته واستكمال تكوينه الفكري إلى أن ارتحل عام 1954م للقاهرة[1] من أجل المشاركة في الثورة الجزائرية من هناك.

الثورة الجزائرية

وفي مصر "كانت مرحلة أخرى مع التأليف وإتقان اللغة العربية وعقد الحلقات العلمية المفتوحة لجميع الطلبة في منزله بالقاهرة، حيث تتم مناقشة مؤلفاته وشرح أفكاره، ليتأثر بها عدد كبير من الطلبة العرب والمسلمين الذين كانوا يتلقون تعليمهم في القاهرة"[2]. فكانت فترة "مالك" في مصر من أغنى مراحل عطائه الفكري الذي ألف فيها العديد من الكتب بالإضافة إلى ترجمة البعض الآخر من كتبه عن الفرنسية إلى اللغة العربية.

 

وبعد فترة تزوج خلالها بزوجته الثانية، وزار فيها سوريا ولبنان السعودية والكويت وليبيا، قرر "ابن نبي" العودة إلى الجزائر عام 1963م، ليتم تعيينه بعد التحرير مديرًا عامًا للتعليم العالي، ولم تمض أعوام أربعة إلا وكانت استقالته تفسح له الطريق للعمل الفكري؛ حتى وافته المنية في أواخر أكتوبر/تشرين الأول عام 1973م، بعد عقود من الكتابة والفكر حول الحضارة والنهضة والصراع الفكري في البلاد المستعمرة.

 

أدوات التفكير والعوالم الثلاثة

"الجهل في حقيقته وثنية؛ لأنه لا يغرس أفكارًا بل ينصّب أصنامًا".

[مالك بن نبي]

لو أننا أردنا اختصار ما دارت حوله كتابات "ابن نبي" فإن فكرة الحضارة، بتوفيقها مع الثقافة/الأفكار، ستبرز كمفتاح لأفكار الرجل، إذ يقول الباحث "خالد النجار" أن "مالكًا" قد اجتمع في خطين قد رافقاه طوال حياته، فهو شخصية عاطفية، خيالية أحيانًا، يفكر بأحلام الفلاسفة ويهيم بالتجريد[2]، فكان الخط الأول يصنع أفكاره، وكان الثاني ينزل بها إلى أرض الواقع.

 

فالسؤال عن أسباب تقهقر المسلمين كان هو المنطلق الرئيسي في أغلب كتاباته، "وكانت الإجابة عن هذا السؤال هي محور كتابات وأقوال الذين تصدوا لحركة الإصلاح والنهوض بالأمة على اختلافهم في القرب أو البعد عن الصواب"[2]، بل إن كثيرًا منهم لا يعالجون المرض بقدر ما يعالجون أعراضه[5]، وهو ما كان "مالك" يعترض عليه ويعتبره تحليلًا "ذريًا"[6]، أو جزئيًا، لا يتمكن من جمع الأحداث في سياق كامل يمكن المفكر من تحليل الواقع لاقتراح الأفكار.

 

من هنا عمد "ابن نبي" إلى تبنّي قواعد تفكير كلية تمكنه من تفسير الواقع والتاريخ، وهو هنا يشبه كثيرًا ما قام به "المسيري" بعده فيما يختص بالنماذج التحليلية والتفسيرية كأدوات لفهم وتحليل الواقع[7]، فكانت أهم أفكاره التي يرى من خلالها الظواهر الاجتماعية "هي مفهومه عن العوالم الثلاثة: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء، فهذه العوالم الثلاثة كما يطلق عليها "مالك بن نبي" هي أساسًا ثلاث منظومات نظرية تتجلى في كل الظواهر الإنسانية والاجتماعية، ولكنها لا تتجلى منفردة، وإنما تكون متصاحبة بقدر معين" وقد "يغلب أحد هذه العوالم الثلاثة على الظاهرة ويشكل الأساس المركزي لها"[4].

 

ولتفسير العوالم الثلاثة، فإنه يمثّل الأمر على الإنسان منذ طفولته[8]؛ إذ يبدأ في التعرف على عالم الأشياء (أعضاءه والواقع المحيط) بشكل معزول عن أي سياق أو تفسير "دون إدراك حقيقي بأنها جزء من كينونته"[4]، وهي مرحلة الشيء، ثم ما يلبث أن يطمئن إلى هذا العالم والتعرف على أمه ككيان كامل  وكذا الأشخاص المحيطين به، ويعرفها "مالك" بمرحلة الأشخاص؛ حتى إذا ما نضج قليلًا فإنه يبدأ بالتعامل مع الأفكار المجردة وتكوين رأيه الخاص "ويكون مقدار ذكاءه في مقدار ما يستطيع من التخلص من ربط هذه الأفكار بالأشخاص و الأشياء و تكوين مفاهيم مجردة مستقلة عن العالمين السابقين"[4].

 

وبهذا التقسيم في عوالم المرء وتطور إدراكه -واتخاذه الطفل كمثال- فإنه قد أراد التأسيس لفكرتين: الأولى هي حقيقة حضور العوالم الثلاث في وعي الإنسان بصورة دائمة ومؤثرة تختلف بحسب العالم المسيطر، والثانية هي أن مثال الترقي بين عالم وآخر في عمر الإنسان إنما هو حال المجتمعات والحضارات إذ تترقى من عالم الأشياء إلى الأشخاص إلى الأفكار[4].

 

المجتمعات بين الفكر والأشياء

من هذا التصنيف لمراحل السمو، يضرب "مالك" مقارنة فكرية في مسألة دراسة المجتمعات بين روايتين شهيرتين في الفكر الإسلامي والفكر الغربي هما "حي بن يقظان" و"روبنسون كروزو"[8]  ففي الرواية الأولى نجد طفلًا قد تركه أبواه في جزيرة نائية وهو رضيع؛ لتربيه غزالة حتى تموت، فيفزع الفتى ويحاول أن يعيدها سيرتها الأولى، فيفشل ومن ثم يحاول البحث عن جوهر الحياة في جسد الغزالة، فلمّا لم يجد تغيرًا في جسدها، اهتدى إلى فكرة (الروح)، ثم (خلود الروح) ليهتدي أخيرًا إلى فكرة وجود الإله[9].

حي بن يقظان لابن طفيل

أما "روبنسون كروزو" فتحكي عن رجل غرقت سفينته ولجأ إلى جزيرة نائية؛ ليصارع ضد الوحدة والعزلة فيبدأ في اكتشاف الجزيرة وجمع الطعام، ثم يصنع لنفسه مأوى و يصنع منضدة، و يجد رجل من أهل الجزيرة كان سجينًا هاربًا، فيتخذه عبدًا له، ويدلل "ابن نبي" من خلال هذه المقارنة "على تباين المركزية لدى كل من المجتمعين، فالمجتمع الإسلامي مجتمع منشغل بالأفكار ومتمركز حولها، أما المجتمع الغربي فمتمركز حول الأشياء والملذات، يضع نفسه مركزا للعالم ويكتشف العالم من خلال ذاته، مهتمًا فقط بالمعرفة الكاملة التي يحلم بأن تمكنه من التحكم الكامل بعالم الأشياء"[4].

 

ثم ينتقل "مالك" إلى مناقشة السيطرة التي يفرضها كل عالم من الثلاثة على الآخرين وتطبيقاتها في مجتمعاتنا الإسلامية، فيرى طغيان الأشياء في سيطرة النزعة (الكمية) "فلا يسأل المؤلف عن الموضوع الذي تناوله في بحثه، وإنما يسأل عن عدد صفحات الكتاب، وقد يقع المؤلف نفسه في هذه النزعة فيفتخر بأنه أخرج كتابًا من كذا صفحة"[8].

 

بينما يطغى عالم الأشخاص -حسب "ابن نبي"- عندما "يتعلق الناس بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالمبدأ أو الفكرة فإنهم يرون أن إنقاذهم من الحالة التي هم عليها بـ(البطل القادم) الذي ينتظرونه دون أن يقوموا بجهد يذكر. فالخلاص لا يتم بتجمع أناس على مبدأ يدافعون عنه، ويتفانون فيه، ويتقنون فن التعاون؛ بل بالرجل الذي يجمعهم ويوحدهم، وقد يطول انتظارهم وهم يمنون أنفسهم بالأماني، وهكذا نسمع الخطباء لا يفتؤون يذكرون (أين صلاح الدين) أو (قم يا صلاح الدين)، فهم يريدون (صلاحًا) آخر ينقذهم"[2].

 

ثم ينتقل "مالك" في أطروحته إلى طغيان الأفكار حينما ينقلب المجتمع إلى حالة مضطربة: مفارقة للحضارة ولا تؤذن ببدء حضارة أخرى، ففي هذه الحالة "قد يفقد المتعلم تكيفه مع الوسط الاجتماعي، أو لا يستطيع أن يقوم بعمل مثمر يرضي ضميره، عندئذ يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق"[8].

مالك بن نبي

وبدلًا من مناقشة "معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل فهو يتكلم عن الماضي الذي ليس له صلة بالحاضر، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد أبطالها"، ويضرب "مالك" مثالًا على ذلك بمدرس في الجامعة "يتحدث عن تركيب الأدوية وعن النباتات ويجهد نفسه في وصف بعض النباتات بدلًا من أن يمد يده من النافذة ويقطف واحدة منها ليقدمها إلى الطلبة حية نابضة، ولكنه مع الأسف يبحث عنها في الكتاب، فهو كل شيء بالنسبة له"[8].

 

ثمرة الفكرة ومراحل الحضارة

ينطلق فكر "ابن نبي" -كما سبق- من سؤال لا يزال يلح على المسلمين منذ أن صدموا بالحضارة الغربية، "وكان السؤال: ما هي أسباب تقهقر المسلمين؟ وما هي شروط النهضة ليستعيد المسلمون دورهم وفاعليتهم المفقودة وليكونوا شهداء على الناس؟"[2]، فالحضارة حسب "ابن نبي" هي "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية، التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده – في كل طور من أطواره -وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية"[8].

 

أو هي "إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع الدَّفعة التي تجعله يدخل التاريخ"[8]. ثم يرسم "ابن نبي" صيغة المركب الحضاري في معادلة رياضية فيرى أن "مشكلة الحضارة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت. فلكي نقيم بناءَ حضارة لا يكون ذلك بأنّ نُكدس المنتجات، وإنّما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها"[10]، ولكن المعادلة تلك تبقى معطلة حتى يضاف إليها العامل المحفز لإتمامها وهي الفكرة الدينية[5].

 

فالحضارة حسب "مالك" شكل راقٍ من الحياة الأخلاقية والمادية[2]، وهي لا تقوم إلا على ثقافة المجتمع، التي هي "مجموعة من الصفات والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته، كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه"[5]، ومن ثم فإنه يرى حتمية توجيه هذه الثقافة بشكل فعّال لتأسيس البنية الفكرية قبل البناء، وهو يقسّم الأمر هنا إلى شقّين [5]: توجيه سلبي يتعلق بفصل رواسب الماضي المنبوذ، وتوجيه إيجابي يصلنا بمقتضيات المستقبل المرغوب، كنفي القرآن للجاهلية، ووضعه لأسس الإسلام.

 

ويعرف "مالك" الروح الدينية قائلًا: "ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق أو عقل أو مبادئ مجردة، وإنما هو بصفة عامة: ذلك الشعور القوي في الإنسان، والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء"[5]. فهو هنا -حسب "خالد النجار"- يتقارب مع "كسرلنج" الذي يقول إن أعظم ارتكاز لحضارة أوروبا كان على روحها الدينية؛ "إذ يعتبر أن الروح المسيحية ومبدأها الخلقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوربا سيادتها التاريخية، وجاء مالك وأخذ عنه هذه الفكرة ووضعها قاعدة عامة لكل الحضارات، وهو ما يعترض عليه "النجار".

 

فيقول: أن مقولة "لا توجد حضارة إلا وللدين أثر فيها" هي مقولة "صحيحة من حيث الجملة، وقد قال بها ابن تيمية أيضًا، ولكن يبقى الإشكال هو: وضع الإسلام موضع المساواة مع أي فكرة دينية واعتباره شعلة أخلاقية تصلح لتركيب المعادلة، هنا موضع الخطورة والنقص" فالمفكر "كسرلنج" عندما يتكلم عن الروح المسيحية فإنه يتكلم عنها كجزء من الأجزاء المكونة للحضارة الغربية، "ولكن الإسلام دين شامل وليس مبدأ أخلاقيًا فحسب، وقاعدته الأساسية هي التوحيد الذي ينبني عليه الأخلاق والآداب والتشريعات"[2].

 

فيرى "النجار" أن هذه التفرقة كانت واجبة الإيضاح، وأن تفسير "ابن نبي" لم يكن واضحًا بشكل قطعي في هذه المسألة، إلا إن طرحه لمشكلة الحضارة بمعناها الواسع هو من الأهمية بمكان[2]، فالرجل يضع مخططًا رمزيًا للحضارة، يقسمه على مراحل ثلاث، شارحًا الدور الذي تلعبه الفكرة الدينية في كل منها[5]، فتبدأ بالفترة الروحية، ويشبهها بفترة البعثة النبوية، حيث خضعت "كل النوازع للإيمان، وغابت كل الأنانيات والعصبيات، واندفع المسلم بكل طاقاته وإمكاناته، وكانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أقوى ما يتصوره إنسان، وبلغة علم النفس: فإن الفرد يكون في أحسن ظروفه ويعيش التوازن الدقيق بين: الروح والعقل، أو بين: الروح والمادة"[2].

 

لتنتقل بعدها الحضارة للمرحلة العقلية التي تبلغ فيها أوج ازدهارها العقلي وإنتاجها الحضاري، "بيد أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع في التمرد بالتدريج"[8]، فتضعف شبكة العلاقات الاجتماعية "ولكن المجتمع يستمر قوياً بالاندفاع الأول؛ حتى يصل لمرحلة تنتهي فيها قوة الاندفاع كمحرك استنفذ آخر قطرة من وقوده"[2].

رغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا أن أمله في التغيير "بقي معلقًا في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي للمسلمين"
رغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا أن أمله في التغيير "بقي معلقًا في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي للمسلمين"

وهي المرحلة التي تتبعها مرحلة الغرائز حين يحيا المرء على هامش التاريخ، فيكون المجتمع مكوَّنًا "من أفراد لا ينقصهم التدين في كثير من الأحيان ولكنه تدين فردي، فهو يحاول إنقاذ نفسه في الآخرة، ولكن لم يعد يملك التماسك الاجتماعي وتسخير ما خلق الله له لبناء حضارة"[2]. فهم أفراد من بقايا حضارة يحملون بين جنوبهم ما يسميه "مالك" بـ"القابلية للاستعمار، فهو يرى أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة لم تُستعمر إلا لوجود هذه القابلية لديها.

 

فهكذا تناول "ابن نبي" مفهوم الحضارة كتطور طبيعي للأفكار، وتناول الأفكار كأساس حتمي لبزوغ الحضارة، "فهذا المفكر خبير في نهضة المجتمعات وأمراض المسلم المعاصر"[2]، ويعلق "النجار" على من ينتقد فكره بالكلية أن "مالك" كان شخصية كبيرة، فهو يتراجع عن الخطأ إذا تبين له وينصح الجميع، فيقول: "فيما يخصني لقد بذلت شطرًا من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء[11].

 

ورغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا أن أمله في التغيير "بقي معلقًا في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي للمسلمين"[2]، فالعالم الإسلامي -في النهاية- بقي في نظره غير قادر على الاهتداء "خارج حدوده، بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن عليه في ذات الوقت ألا يقطع علاقته بحضارة تمثل إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل أن ينظم العلاقة معها"[12].

المصدر : الجزيرة