دعايات الشارع بمصر.. بين مقاومة السلطة والترويج لها
"في شهر أبريل، أُعلنت مزرعة الحيوان جمهورية وأصبح من الضروري انتخاب رئيس الجمهورية.. ولم يكن هناك سوى مرشح واحد هو نابليون، الذي تم انتخابه بالإجماع. وصدر في نفس اليوم أنه تم العثور على وثائق جديدة تكشف مزيدا من التفاصيل عن تواطؤ الخنزير سنوبول مع صاحب المزرعة السابق جونز".(1)
على غرار مزرعة الحيوان في رواية جورج أورويل التي تحمل نفس الاسم "مزرعة الحيوان" جاءت الانتخابات الرئاسية المصرية، ومثلما كان الرفيق الخنزير نابليون هو المرشح الوحيد تحت حراسة تسعة من الكلاب الشرسة التي ترعب باقي الحيوانات في المزرعة وتحت شعار "نابليون دائما على حق"، كان كذلك عبد الفتاح السيسي هو المرشح الرئاسي الوحيد في انتخابات محسومة سابقا وتحت تهديد السلاح (2) بعدما أطاح بمنافسيه المحتملين جميعهم.
وكما ظهر في رواية أورويل أن سنوبول "الخنزير رفيق نابليون السابق" لم يحاول "كما تخيلت الحيوانات من قبل، خسارة معركة حظيرة الأبقار بالخدعة الحربية فحسب، بل حارب جهرا إلى جانب البشري جونز صاحب المزرعة السابق. وفي الحقيقة، كان هو الذي قاد قوات البشر ودخل المعركة وكلمات "تحيا البشرية" على شفتيه. أما الجراح التي أصابت ظهر سنوبول، والتي ما زال قليل من الحيوانات يتذكر رؤيتها، فقد كانت بفعل أسنان نابليون" (3). ومثلما زوّر الخنزير نابليون التاريخ وبدل الوقائع، فعل عبد الفتاح السيسي واتهم خصومه بالخيانة ومنافسيه بالفساد.
أما قبل بداية أيام الانتخابات، فقد غرقت شوارع مصر باللافتات المؤيدة للسيسي حتى قال أحدهم معلقا على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "كأننا نعيش داخل إنستجرام السيسي"، وتساءل آخر: "صور ولافتات السيسي في كل مكان في مصر. لزمتها ايه الانتخابات بقى طالما الشعب كله يؤيد ويبايع السيسي" (4)، حيث طغت لافتات الدعم والتأييد على رسومات "الجرافيتي على جدران الشوارع" وحوائط الطرق العامة، مما أشعل نوعا من التنافس بين لافتات الدعم والتأييد والأغاني الركيكة التي يراها مجموعة كبيرة من المتابعين مجرد نفاق وتعبير عن الخوف على المصالح (4)، وبين آراء الناس وكلماتهم الأدبية التي يسجلونها بالكتابة أو الرسم على حوائط وجدران المدن المصرية منذ فترة طويلة، فكيف تعبر هذه الحالة من التنافس بين اللافتات والجرافيتي عن صراع رمزي بين حيوات المصريين وأحلامهم ورغباتهم وبين أحلام الجنرال؟
"لقد أُجبرنا على المشاهدة، بلا حول ولا قوة، تكتيك المتمردين الرائع لمساعدة ناخبينا على نقل كل ما لديهم من قمامة غير مفيدة إلى بيوتهم، هؤلاء السادة، يمكن فقط أن يكونوا من أتباع أفكار العقل المدبر الميكافيلي".
(ساراماجو)
بعد انتخاب مبارك لرئاسة الجمهورية في 2005، والتعديلات الدستورية والانتخابات البرلمانية التي رافقت تلك الانتخابات الرئاسية الأولى، انتعشت سوق الطباعة الإلكترونية للافتات الضخمة التي ملأت الشوارع لتأييد الرئيس الأسبق، ثم لتهنئته بالفوز. وجاءت انتخابات 2010 التي انتهت إلى برلمان مطعون في نزاهته، لتمهّد لاكتساح الطباعة سوق الدعاية الانتخابية (5)، وعلى خطى مبارك تسير حملة الجنرال عبد الفتاح السيسي الانتخابية.
حيث انتشرت لافتات دعائية لدعم عبد الفتاح السيسي وتأييده لفترة رئاسية جديدة في مختلف الميادين بالقاهرة الكبرى وأمام مقر الحملة الرسمية الكائن بمنطقة التجمع الخامس، إذ تم تجهيز المقر وتعليق لافتات بصور عبد الفتاح السيسي مكتوب عليها عبارة "تحيا مصر" الحملة الرسمية لرئاسة الجمهورية 2018 (6).
واتخذت اللافتات العديد من الشعارات الداعمة للسيسي، ومن أبرزها: "مش لوحدك كلنا معاك، هننتخبك علشان تزود صادراتنا وتقلل واردتنا، هننتخبك علشان أعمل مشروعي وأوظف عيالي، هننتخبك علشان نحمي صناعتنا الوطنية ونقوي عملتنا، هننتخبك علشان دي بلدنا ومش هنفرط فيها، هننتخبك علشان تقضي على الإرهاب، هننتخبك علشان مصانعنا تكتر وإنتاجنا يزيد، كلنا معك من أجل مصر، الله يحفظك سيادة الرئيس مشروع مصر القومي، شعب مصر معاك، معاك عاهدت وصادقت ووفيت، تحيا مصر، معا لاستكمال الإنجازات" (6).
أما الناشط محمد أبو شامة فكتب مستاء: "صور السيسي اللي مرشقة في كل حتة تجاوزت حالة السخرية والغباء، الموضوع بقى مقزز نفسيا" (7)، فانتشار صور الجنرال لا تُذكِّر قطاعا كبيرا من المصريين قد تضرروا بشكل أو بآخر من حكمه وبطشه فقط، ففي أحدث تقرير سنوي لها، قدمت منظمة العفو الدولية تقييما قاسيا للبلاد بسبب قمعها المعارضة في السنوات الأخيرة، وجاء في التقرير: "استخدمت السلطات التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة والاختفاء القسري ضد مئات الأشخاص، وأعدم العشرات خارج نطاق القضاء دون عقاب"، و"استخدمت السلطات المصرية العقوبات والاعتقالات التعسفية أعقبتها محاكمات جائرة بشكل صارخ لمعارضي الحكومة والمتظاهرين السلميين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان" (8).
فبجانب التذكير بارتكاب المجازر والقتل والبطش والاعتقال والاختفاء القسري الذي يحضر في مخيلة هؤلاء كلما رأوا وجه الجنرال، مثّلت لافتات تأييد السيسي اعتداء رمزيا واضحا على حياة وأحلام وكلمات كثير من المصريين، حيث طغى انتشار لافتات السيسي على "جرافيتي" الشباب وكلماتهم وآمالهم المسجلة على الجدران، حين أصبحت جدران الشوارع وحوائط الميادين والطرقات العامة مساحة صراع بين الدولة وجنرالها وموظفيها وبين الشباب، فكلما سجل الشباب كلماتهم على الحوائط وكلما رسموا الجرافيتي يأتي عمال الدولة ليزيلوا كل شيء بالدهان الأبيض، وأخيرا حلّت صور الجنرال محل كلمات الشباب.
في المكان نفسه الذي نزل فيه ملايين المصريين قبل سبع سنوات، مطالبين بالحرية والعدل والمساواة؛ تجد الآن في ميدان التحرير لافتة للجنرال عبد الفتاح السيسي بعرض 50 قدما، بل وفي كل شارع تقريبا تجد لافتة للرئيس الحالي مع عبارات عبارات تأييد من قبيل "أنت الأمل، نعم لبناء المستقبل" (8).
قبل ذلك، قام عمال بلدية القاهرة بإزالة "غرافيتي الثورة" الذي كان يزين جدران ميدان التحرير خاصة شارع محمد محمود وجدران الجامعة الأميركية، ذكريات الثورة والغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والخرطوش والشهداء، معارك الكر والفر بين الثوار وقوات الأمن المركزي، عشرات الرسومات التي كانت تجسد تلك الحالة، اختفت فجأة، إذ استيقظ الناس على عمال محافظة القاهرة يدهنون الشارع من جانبيه بألوان جديدة، لتزيل الأعمال الفنية التي كانت تزينه (9).
كان رد الفعل لدى الآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي غاضبا وساخطا، وتملّكهم الحزن وهم يتبادلون صور عمال البلدية وهم يمحون الجرافيتي، لكن سرعان ما جاء رد فناني الثورة: "اللي اتمسح هنعيده تاني". لكن النظام لم يمهلهم، فقد تعرض عدد من فناني الجرافيتي للاعتقال وزُجّ بهم في السجون، وكان أبرزهم ثلاثة فنانين اعتقلوا أثناء رسمهم على جدران شارع "محمد محمود" وهم: إبراهيم محمد كمال الشهير بـ "هيما"، عبد السلام ربيع الشهير بـ "عبود"، ومصطفى هشام التابعي الشهير بـ "السكش"، وتم احتجازهم داخل قسم عابدين (9).
بيد أن الجرافيتي (Graffiti) لا يمثل بمفرده فن الشارع، بل هو "فن من فنون الشارع، وهو نوعان: جرافيتي مرسوم، وجرافيتي مكتوب، والجرافيتي المرسوم ينتج عنه جدار بمثابة اللوحة بها شخصية أو إشارة أو جملة، تم رسمها بطريقة جعلتها في النهاية صورة جمالية، أما الجرافيتي المكتوب عبارة عن جملة على الجدار، قد يكتبها رسام أو شخص ليس لديه موهبة الرسم، وفي الغالب يكتبها شخص ليس لديه موهبة" (10) لكنه يريد التعبير عن أفكاره في ظل مناخ من القمع والكبت السياسي.
فقبل عام 2005، كان الجرافيتي في مصر يتمثل في رسومات جدارية على بيوت القرية، تهنئ الشخص بعودته من الحج، وغالبا كانت تتمثل في رسم طائرة وكتابة جملة "حج مبرور وذنب مغفور"، وفي الرسوم الوطنية على جدران المدارس، وفي الكف المرسوم على الحائط باستخدام دم الأضحية في عيد الأضحى المبارك، واستخدمته الجماعات الإسلامية في كتابة جمل بمنزلة موعظة على الحوائط، وأشهرها جملة "الحجاب زينة المسلمة"، وفي الدعاية الانتخابية، وأشهر ما كان يكتب على الجدران من جماعة الإخوان المسلمين "الإسلام هو الحل" (10)، أو "نعم للاستقرار" من قِبَل الحزب الوطني البائد.
ولكن بعد عام 2005، وبعد ظهور روابط الألتراس الرياضية، والفنانين الجدد، اتخذ فن الجرافيتي شكلا جديدا أكثر احترافية، لأن شباب الألتراس يعتبرون فن الجرافيتي جزءا من ثقافتهم، ووسيلة للتعبير عن أفكارهم، ونتيجة لتطور وسائل الاتصال، استطاع هؤلاء الشباب تعلم الجرافيتي عبر الإنترنت (10)، حيث أصبح فن "الجرافيتي" وسيلة وبوق قطاع من الشباب لا يستطيع التعبير عن آرائه وأفكاره بحرية، وأصبحت الجدران مساحات بديلة للتعبير بعد غلق المساحات العامة وحرمان الشباب من التعبير عن آرائهم.
وكما كانت اللافتات الدعائية والملصقات الملونة باهظة الثمن أدوات النظام منذ حُكم حسني مبارك، كان ظهور فن الجرافيتي بمنزلة مقاومة للنظام (11)، حيث امتلأت الشوارع برسومات الجرافيتي الخاصة بمجموعات الألتراس قبل 2011. وقبل قيام انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 ظهر على جدران الشوارع جرافيتي مكتوب، عبارة عن جمل وكلمات مناهضة للتعذيب وحكم مبارك وتدعو للتظاهر ضده، أما أثناء أيام انتفاضة يناير/كانون الثاني، فقد تفجرت ظاهرة الجرافيتي وامتلأت كل جدران الميادين العامة بالجرافيتي الذي يدعو للثورة وسقوط حكم مبارك، وامتلأت جدران ميدان التحرير بفن الجرافيتي المعبر عن أحداث وأفكار وشهداء ثورة يناير، حيث كان الجرافيتي بمنزلة فن للمقاومة، وشكل من أشكال مناهضة الاستبداد.
يوضح تشارلز تريب في كتابه "السلطة والشعب" أن الملصق والجرافيتي والرسوم المتحركة أو الكارتون لهم تأثير على أشكال الإدراك، حيث تعمل هذه الأشكال من الفن على ترويج الاستهانة المتعمّدة بسلطة القوة، وترتبط قوة هذه الأشكال من فنون بما يمكن أن تسببه من صدى لدى جمهور معين، فتتحدى الأعراف الفنية والمفردات الرمزية للمؤسسة الحاكمة، بل وتغيرها.
ويشرح تريب الدور الذي يمكن أن يؤديه الفنانون في تشكيل مفردات مرئية جديدة، "فهي ليست مجرد طريقة جديدة للنظر إلى العالم، بل أيضا طريقة لتمثيل أشياء نصف متذكرة، ربما تعرضت لقمع طويل، فهم يساعدون في خلق فن مساعد على تقوية ذاكرة جماعية لإرساء وجود يتطلب الاعتراف، وهو شيء يعد في حد ذاته متعبا بما يكفي لمن يريدون الحفاظ على الوضع القائم الذي يعتمد على قمع البدائل وعدم الاعتراف بمن يطالبون بإعادة ترتيب سياسي بالجملة" (11).
لكن هذه الرسوم والكتابات على جدران المدينة ليست مجرد تعبير منفرد عن الآراء، بل قد تسبب فوضى في الأفكار، والذي يخلق بدوره حراكا يهدد السلطة، وهو الأمر الذي يضعه الجنرال في الاعتبار ويحرص دائما على منافسة تلك الفنون والكتابات بملصقات ودعايات منافسة، فيقول تريب: "فيما يتعلق بأشكال الفن التي تتطلب مساحة وحرية لتطوير صوتها الخاص بها، غالبا ما تتوجه المقاومة إلى خلق هذه المساحة أو لنقل نحتها.
وقد يتغير جوهر الرسائل ويتنوع، فتارة تكون شجبا علنيا للنظام السياسي الحاكم، وتارة بصورة أكثر غموضا تسعى إلى جعل الناس يفكرون في قيم وأعراف يسلمون بها تسليما، مسببة بذلك، اضطرابات في استقرار معتاد في الحياة اليومية. لكن الفعل نفسه من نشر أفكار ضد نمط التفكير التقليدي، والذي يخلق جمهورا واستعدادا للتأمل في بدائل، إنما يشير إلى تحول في معايير القوة ومقاييسها" (11).
أما الرسامون السياسيون الرواد حول العالم فقد بدأ عدد منهم في تكثيف جهودهم لإنتاج أعمال فنية في الشوارع؛ احتجاجا على الجرائم التي ارتكبها الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي"، فقد بدأ عدد من رسامي الجرافيتي الدوليين والأكثر شهرة مثل (جنزير، سامبسا، كابتن بوردرلاين، والرسامة مولي كرابابل) في خلق تصاميم تحمل شعار "جرائم حرب السيسي" في العديد من المدن في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وشمال أفريقيا، حيث يقول الفنانون إن مبادرتهم تهدف إلى تشجيع الانتقادات الدولية ضد سلوك السيسي العنيف في التعامل مع معارضيه، فبعد إزالة الرئيس محمد مرسي في يوليو/تموز الماضي بانقلاب عسكري، قاد قائد الجيش السابق حملة قمعية شديدة الشراسة، لم يقف ضدها زعماء العالم (12).
ويذهب تريب إلى أنه "بهذا المعنى، يمكن تقدير آثار فن المقاومة في الغالب عبر ردود الأفعال ممن يشعرون بالتهديد أكثر من غيرهم. فاستجابة هؤلاء ممن يجدون أنفسهم وقيمهم محل تساؤل ومقاومة عبر صور مرئية أو تمثيلية أو موسيقية أو أدبية يمكن أن يظهر الهشاشة والضعف في قلب السلطة، وهذا ما قد يبرر اختبار مثل تلك التعبيرات الفنية بوصفها فن مقاومة، وليس مجرد معارضة أو احتجاج" (13).
فحسب تريب لفن المقاومة سمتان مميزتان: "فالأولى هي الطريقة التي تبدأ بها الأداءات أو العروض الفنية في خلق حالات جديدة من الفهم الجماعي للتاريخ، والحقوق والهويات عبر أساليب متنوعة. وهذا يعود بنا إلى قدرة الفن الكامنة -سواء المرئي أو المسموع أو الدرامي أو الأدبي- على تطوير لغة عامية جديدة يمكن أن تهب صوتا لمن لا صوت لهم، ممثلة بذلك إشكالا من الخبرة والهوية الجماعية، بل مانحة إياها واقعا فعليا، بجانب قدرة الفن على فرض التحام وترابط على ذاكرات متعددة في تجارب معاشة نصف متذكرة وأحيانا فوضوية، وهو بالتحديد المصدر الذي يحاول كثيرون الانطلاق منه، خاصة في مهاجمة السلطة القائمة، كما تستخدم السلطة هذه الأشكال للدفاع عن نفسها وترسيخ حكمها" (13).
وعلى الرغم من أن الظاهر في الشارع المصري أن الدعايات الانتخابية والسياسية وملصقات التأييد الكثيفة والأغاني الوطنية الركيكة قد كسبت جولة المنافسة ضد فن المقاومة والجرافيتي، فإن مرونة هذا الفن يجعله مراوغا تماما، وكلما استطاعت رموز السلطة هزيمته في مساحة السياسة فإنه يتمدد إلى مساحات أكثر عمقا وأشد غموضا ورمزية، حيث تتشعب هذه الأشكال الفنية وتنتشر تلك الكتابة لتصل إلى مستويات ومساحات أعمق وأوثق اتصالا بالناس، كلمات تتعلق بالحياة والموت والحب والرزق والعدل، تصل إلى مستويات من العمق الإنساني لا تستطيع الملصقات السياسية الاقتراب منها وأشكال فنية تستخدم سلاحا من السخرية اللاذعة لا يفهمه "خنازير قصر المزرعة" كما سماهم جورج أورويل.
أيا كان ما تود قوله في مصر هذه الأيام فيمكنك كتابته على الجدران، هكذا علق الأنثربولوجي الفنلندي صامويل شيلكة على ظاهرة الكتابة والرسم على الجدران في مصر "أحمد يحب رشا، الثورة مستمرة، كن مع الثورة، المسلمين والمسيحيين يد واحدة، مصر إسلامية، جراج خاص، ممنوع الوقوف، موقف سيارات، الدم كله حرام، لا تنسوا شهداء الثورة، مطلوب آنسات للعمل، مكتب لخدمات الزواج، ك.. الداخلية، الإسلام هو الحل، مسلم وأفتخر، الألتراس يحكم مصر، حسن لتصليح التلفزيونات وتركيب الدش، أبو أحمد السباك وتسليك البالوعات" (14).
هكذا امتلأت الساحات والميادين العامة بمصر بملصقات وكتابات دينية وسياسية وحميمية، بجانب الدعاية التجارية وغيرها، من الشعارات والرموز التي يتم رشها على الجدار بشكل منظم أو عفوي. تظهر هذه الملصقات والكتابات بوتيرة سريعة فتتزاحم بها الجدران، لتصبح جدران الشوارع مساحات للتعبير والمناقشة والشطب والتعديل والإزالة وحتى التمزيق وإعادة الترميم المستمر، وكأن هذه الجدران مساحات مناقشة مستمرة وغير منتهية (14).
ويذهب شيلكة إلى أن ظاهرة الجرافيتي والكتابات على جدران الشوارع التي ظهرت بكثافة خلال ثورة يناير/كانون الثاني والتي طغت على أشكال التعبير الأخرى لم تكن ظاهرة جديدة في مصر، بل إن المجتمع المصري له تاريخ طويل في الكتابة على الحوائط قبل الثورة، فكانت معظم هذه الكتابات عبارة عن توسلات دينية وإعلانات وكلمات رومانسية أو أدبية، وكان هناك أيضا مجلات الحائط بالجامعات التي شكلت وعي أجيال متتابعة من الجامعات منذ ستينيات القرن الماضي (14).
أما الآن فقد تطورت هذه الكتابات لتصبح أشكال لفظية وبصرية متنوعة وغنية للتعبير عن أفكار مركبة ومترابطة، فقد أصبحت هذه الصور والرسوم والكتابات بمنزلة جريدة يومية مكررة أمام المارة تأخذهم في جولة بصرية وأدبية من قضايا السياسة إلى حكمة الحياة إلى ألغاز الحب والموت ثم تحلق بهم فوق حروف من هيام العشاق، ليستفيقوا على دعايات الكفاح اليومي وطلب الرزق، فالعودة مرة أخرى للأدعية والتوسلات الدينية (14).
وتحت سكون القهر، وسطوة الحكم العسكري، تظهر على الجدران معارك شرسة من التنافس على الفضاء العام (15)، يقف وراء هذا الصراع الشرس قطاعات عريضة من الشباب الساخط على الوضع السياسي والاجتماعي، وقطاعات من الباعة الجائلين والحرفيين والمتعبين من الحياة والأيام والمهزومين في معارك الحب والزواج والتي لا تنفصل أبدا عن القضايا السياسية والاجتماعية في مصر.
فتقف هذه القطاعات بسلبية، أو ما سماه آصف بيات باللا حراك أو الحراك السلبي، والذي يساهم بشكل أو بآخر في التغيير السياسي في مصر (16)، يقفون أمام السلطة العسكرية في مصر ويعبرون بقوة عن آرائهم وأفكارهم بالكتابات والملصقات والرسوم والصور، مما يجعلهم يشعرون بهوية جماعية مثلما عبّر جرافيتي مكتوب عبارة عن نداء يقول: "نداء إلى جميع أنصار الضعفاء والمقهورين دون حقوق في هذا العالم. أنا أسعى فقط للعدالة" (17). حيث يقول تشارلز تريب: "على المنوال نفسه، يتطلب تأكيد الهويات والمطالب الجماعية مساحة عامة للتعبير عنها. ومن هنا يبرز الفنانون والمغنون ورسامو الغرافيتي وغيرهم، مؤكدين الحق في التعبير والوجود في المجال العام".
وعبر هذا المجال أو الفضاء العام "تتأسس لغة مشتركة شائعة، هي غالبا عامية للتضامن والتحدي، وسواء كانت حاشدة للناس مباشرة من أجل قضية سياسية بعينها ربما أقل أهمية من التآكل المتواصل الذي يمكن أن يحدث عندما تجد السلطات القائمة نفسها خارج السباق، فيتجاوزها الآخرون، وتتعرض للسخرية والاستهزاء، فإن من الأصعب في مثل هذه الملابسات الحفاظ على نوع الهيمنة الذي لا يقوم على تفكير والذي نجده موجودا في قلب السلطة المهيمنة" (18).
وحينئذ لا يمكن افتراض أن "الرموز التقليدية وأساليب السلطة تخلق الظروف لعرض خارجي عن الطاعة. على العكس تماما، إن بوسترا/ملصقا، رسم غرافيتي، أغنية ومسرحية ولوحة أو رسوما متحركة تصبح جزءا من مشهد لتحدٍّ وسخرية عامة"، وعندما تأتي مواسم الانتخابات، تظهر صور الجنرال مذيلة بالدعم والتأييد، وتزاحم تلك الأشكال حتى تغطي عليها وتلغيها، لكن بعد انتهاء موسم الانتخابات تنسحب دعايات الجنرال لتعود أفكار الناس ونقاشاتهم اليومية، ووسط كل هذا النقاش لا بد من ظهور بعض الكتابات والرسوم الساخرة والساخطة بشكل جذري ولاذع لنظام عسكري هش يقوم على البطش ويستمر وجوده من الاستثمار في الخوف والقتل والتعذيب ويفشل في تثبيت أي رؤية.
لا يتوقف أمر الدعاية والملصقات الانتخابية على الصراع الرمزي والتنافس على المجال العام فقط، بل يمتد ويتداخل مع حياة المصريين الاقتصادية، ففي حوار مع أصحاب عدة "دكاكين تجارية ومقاهٍ" يقول "أبو خالد": "هذه الملصقات أتت علينا بخسارة وخراب بيوت، الداخلية تأتي بملصقات كبيرة، وتجبرنا على شرائها بضعف أو ضعفين ثمنها الحقيقي.. كل صاحب محل دفع بين 400 إلى 800 جنيه، ثمن ملصق السيسي المفروض من الداخلية" (19).
على الجانب الآخر يقول الحاج حمدي عبد الغني، خطاط وصاحب مطبعة للدعاية والإعلان بشارع الهرم بالجيزة، إن موسم الانتخابات يعد "أكل عيش" بالنسبة للخطاطين والمكتبات في مختلف أنحاء الجمهورية، حيث يحرص المؤيدون لكل مرشح على عمل دعاية لهم في الشوارع. وأضاف أنه "مع اقتراب الانتخابات الرئاسية فلا يوجد مرشحون كثيرون وإنما تقتصر الدعاية على محبي الرئيس عبد الفتاح السيسي الذين يحرصون على عمل بانرات ولافتات له بالمناطق الشعبية ومداخل الشوارع" (20).
وتابع: "سعر المتر للبانر بـ 40 جنيها، أما لو كانت لافتة قماش يشترى القماش من عندي المتر بـ 25 جنيها ويدفع أجرة الخطاط، أما الفليكس فسعرها مرتفع يصل إلى 500 أو 600 جنيه، وفي حالة تزويد اللافتة بإضاءة داخلها تصل إلى 400 جنيها" (20).
وأوضح علي محمد، صاحب مكتبة للدعاية والإعلان بالعجوزة، "أن سعر المتر للبانر يتراوح من 50-70 جنيها حسب الكمية المطلوبة للدعاية، مضيفا أن الدعاية باللافتة القماش لا يوجد إقبال عليها خاصة مع ركود سوق الخطاطين واتجاه الغالبية إلى الطباعة بالكمبيوتر والأوفست والليزر" (20)، أما سوق الخطاطين فقد أصابه الخراب منذ أصبح الإقبال على الطباعة أكبر بكثير.
وهكذا تستمر الحياة بين حملات انتخابية دون انتخابات، ومنافسات شرسة تتحول إلى حرب شوارع بين الجرافيتي المرسوم والمكتوب على الجدران وبين الدعايات الانتخابية، وكلما مرت الأيام تستمر الكتابة، ومهما قام عمال المحافظة بمسح وإزالة رسوم الجرافيتي، يستيقظ الناس فيجدونها مرة أخرى في طريقهم لكسب العيش الذي يتحول بدوره إلى صراع يومي، ورغم كل ذلك لا يزال أحمد لا يستطيع أن يتزوج رشا، أما الحمار العجوز بنجامين في رواية مزرعة الحيوان، عندما سألته الحيوانات عن سوء الوضع تحت حكم الخنزير قال: "الحمير تعيش حياة طويلة، إن أحدا منكم لم ير حمارا ميتا" (21).