شعار قسم ميدان

نساء لا يرغبن بالأمومة.. هل يقضين على الجنس البشري؟

midan - mom
مثقلة بالهموم، بعد زواجها بعامين، تطرق مريم رأسها وعاصفة من الأفكار تسيطر عليها، ما بين رغبة بالإنجاب، وبين خوف من المسؤوليات التي يتبعها قرار كهذا. آلاف الأطفال يموتون، واضطرابات اجتماعية واقتصادية تحتل المشهد، ولا أفق مستقر، تشعر باضطراب، وتستمر عجلة القلق، لكنها تميل بعد كل عملية تفكير، لقرارها الذي اتخذته سابقا، أنها لن تغامر بإحضار طفل لعالم مضطرب.
  
وفي مشهد آخر، تتحدث إحدى النساء لميدان عن عائلتين تتشاركان بناء كان زوجها قد اعتاد الاجتماع فيه مع أصحابه، وقفت على طلل البناء وقد دكّته الطائرات الروسية، فمحت أثر العائلتين بأثر الركام، رجفت لحظة: لعل أحدا من العائلتين حيّ! كيف يدفن الناس بالأنقاض؟ هذا المشهد هو ما مثل ذكريات عامها الأول من الزواج، وما فيه من سؤال الأمومة في حلب المدينة التي وصفت حينها بأنها "أخطر مدينة في العالم".
  
ولما سألناها في ميدان عمّا إذا تغيرت نظرتها للإنجاب بعد عام على خروجها من حلب، أجابت أنها تعي أهمية تربية جيل على مبادئ الثورة وقيمها، وتحميلهم الثأر، لكن هذا لا ينفي أن العالم جعلها بعد الثورة تفكر أنه لا يبدو من العقلانية الإتيان بطفل لهذا العالم القذر، المليء بالخوف والظلم بحسب وصفها.
 
ثورة وأمومة

وعلى أرض عربية أخرى، تتشابه مقدمات الثورة والخيبة وتختلف النتائج، على أرض مصر تحديدا، ومنها تتحدث لميدان الأستاذة هبة عبد الجواد، عن تجربتها مع الأمومة والثورة قائلة: "ليس كلاما إنشائيا إذا قلنا إن الله رزقنا مشاعر الأمومة والأبوة مجبولة فينا، وحببها إلينا؛ إن متعة الآباء هي وجود الأبناء، ورعايتهم لهم ليس لها أي مغزى سوى كونهم يشعرون بالسعادة لأنهم في هذه الدنيا، أنظر لابنتي الصغرى، وأتمنى ألا تكبر.. يداها الصغيرتان وهي تحتضنني تغمرانني بأمان لا يضاهيه ما في العالم كله. ربما لا يدرك المرء ذلك كثيرا والنعمة بين يديه، أو إذا صارعه الخوف من المسؤولية".

       

هبة عبد الجواد، باحثة في مجال علم الاجتماع، وأحد مؤسسي
هبة عبد الجواد، باحثة في مجال علم الاجتماع، وأحد مؤسسي "يقظة فكر" والمشرف العام له، كما أنها أُم لأربعة أبناء
     

وجدير بالذكر أن هبة أم لأربعة أبناء، وعما إذا شكل أولادها عائقا في طريقها العام والخاص وضحت أنها ما شعرت مرة بكونهم عائقا في طريقها، وأضافت: "بل لا أكاد أجد هذا الفصل بين أحلامي و طموحاتي وأبنائي كما يتم تداول هذا "الكلاشيه" أحيانا بين الأمهات الصغيرات، بل ولا أجد أن الإنجاب يعيق المرأة عن إثبات ذاتها، ومن تجربتي فإن وجود الأطفال محفز قوي لأن يصبح الآباء أكثر تماسكا ومسؤولية، ورغبة في أن يحفظوا اتزانهم النفسي كي يكونوا قادرين على وهب أبنائهم الرعاية والحب".

     

وانطلاقا من كون الأستاذة هبة محاضرة ومهتمة بعلم الاجتماع سألناها عن مدى تحوّل "رُهاب الأمومة" إلى ظاهرة صلبة واسعة الانتشار؟ فبيّنت أنه من المهم حين نتحدث عن هذا الأمر، ألا نكون متأثرين بأسئلة مفروضة، ليست إشكالية أو ظاهرة في حد ذاتها؛ في رأيي -تقول الأستاذة هبة- إعراض الفتيات عن الإنجاب لم يصل لكونه ظاهرة ،   وإنما يمكن أن نعده أحد تجليات الشعور بالخوف من هذا العالم،  وما أنتجه هذا الشعور من هشاشة وعدم قدرة على تحمل المسؤولية، فكثيرا ما نجد تكرارا لمقولة "بالكاد أحمل نفسي"، مثلا، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، مما يجعل المرء مثقلا بالهم الخاص والعام، فبالتالي يتردد الحديث عن الرغبة في تأجيل الإنجاب حتى تتحسن الظروف أو يتخلص الزوجان من بعض ضغوط العمل والدراسة الاضطرارية، وهذا لا بأس به كنوع من إدارة الحياة الأسرية،  وتأمينها ماديا ونفسيا بما لا يخل باحتياجات كل طرف وباتفاق بينهما.

    

من مشاهداتي -تضيف الأستاذة عبد الجواد- أيضا، ربما من المتفهم عند فئة معينة الشعور بأن إنجاب الأطفال هو إيذاء لهم بجلبهم لهذا العالم المتوحش، خصوصا من فئة الشباب الذين عاصروا قدرا كبيرا من المآسي والكوارث التي شهدناها في السنوات الماضية بمنطقتنا العربية، يتزامن ذلك مع صدمة في القناعات والمسلمات التي كانت تزوّده بفهم ما لسنة الحياة.. وتوضّح هبة أن ما يحدث في المنطقة صادم بالفعل، وخصوصا لهذا الجيل الذي هو في سن الزواج الآن، ولعل من الأفضل أن يأخذ الإنسان مسافة من الشأن العام كي يراه في إطار الصراع كسنة كونية على هذه الأرض منذ نشأة الخليقة، وألا يعتقد أن الحياة تتوقف عند هذه الأحداث. وعن احتمالية وجود أسباب أكثر جذرية قد ساهمت في توليد رُهاب الأمومة تميل الأستاذة هبة إلى أن الرغبة في عدم الإنجاب في أصلها راجعة بشكل جذري إلى عدم الشعور بالأمان، وإلى أسباب شخصية أخرى أكثر من كونها ظاهرة عامة أو توجّه يأخذ مكانه ويُنتج نفسه ويتطور كعادة موضوعات عديدة يثيرها الشباب هذه الأيام، فيتم "شكلنتها" وتحويلها إلى عنوان كبير ندور حوله.

    

عدم الشعور بالأمان هنا مرتبط أكثر بالشخص وفهمه للزواج، وثقته فيه إلى درجة تجعله يرغب في الإنجاب، والعكس صحيح، كذلك علاقاته الأسرية ونشأته وما خَبِرَهُ مِنَ الحياة وتأثير الأحوال الشخصية من حوله التي قد تصيبه بنوع من الرهبة وعدم الشعور بالأمان. وتنهي هبة كلامها بأن الإنجاب حاجة فطرية، وعدم الرغبة فيه عائد لظروف عارضة لن تصل إلى كونها ظاهرة يتوقف عندها العالم عن التكاثر.

      

على ضفاف الاستقرار
الأغلب يرى الإنجاب عبئًا يُتخوف منه بسبب
الأغلب يرى الإنجاب عبئًا يُتخوف منه بسبب "اختلال مفاهيم القوامة، وغياب الأسرة الممتدة، والواقع الاقتصادي، أو التعرض لفقد الزوج وغياب العائلة، مما أدى إلى جعل فطرة الأمومة مخاطرة ومغامرة (أن سبلاش)

           

تشترك مريم وهبة بانبثاقهما من أرض شهدت هزات اجتماعية وفكرية ودينية، شهدت ثورات العصر بما فيها من دماء وخيبة وانتكاسات، بينما على مقربة منهما في بلاد ما زالت تشهد استقرارا سياسيا واجتماعيا، وما زالت العائلة بمعناها الكبير تحيط بأبنائها رعاية وعناية وتنتظر الأحفاد بفارغ الصبر، نسمع همسا من فتيات ناضجات مستقرات يملن إلى التبني كتعويض عن عبء الأمومة وتلبية لحاجتها الغريزية في النفس، مما قد يشير -مع تجربة الأستاذة هبة- إلى أن أمر الخوف من الأمومة وإعادة النظر بها ليس مرهونا بالاستقرار أو عدمه، أو بالحرب وعدمها، إنما هو سؤال بدأت بذوره تظهر في بيئات ومعطيات اجتماعية وسياسية مختلفة، الأمر الذي استفزني إلى ضرورة طرح سؤال على منصة عامة يتابعها شرائح مختلفة وربما متباينة من جنسيات وانتماءات عدة من باب المقاربة، وكان السؤال على حسابي في الانستغرام: "هل الإنجاب في هذا الزمن عبء وواجب ثقيل؟" وجاءت الإجابة بنسبة:

– 56% نعم بمعدل 314 صوتا من أصل 556.

– 44 % لا ؛ بمعدل 242 صوتا من 556.

          

وكان الاستبيان على الانستغرام مرفقا بطلب التوضيح على الجواب لمن أرادت ذلك، وبالفعل تلقيت ما يزيد عن 100 رسالة أغلبها من الإناث المتزوجات وغير المتزوجات، من "سوريا مقيمات في قطر وتركيا ودول أوروبية، ومن الأردن ومصر والسعودية" تتراوح الإجابات بين من لا تجد في موضوع الإنجاب غضاضة، وبين مَن تجده أمرا يُتفق عليه بين الأبوين وليس عبئا كما يُروّج له، والأغلب يراه عبئا يُتخوّف منه بسبب "اختلال مفاهيم القوامة، وغياب الأسرة الممتدة، والواقع الاقتصادي، أو التعرض لفقد الزوج وغياب العائلة، مما أدى إلى جعل فطرة الأمومة مخاطرة ومغامرة" كما جاء في بعض الرسائل.  

     

مقاربة نفسية
"قبل آن كانت علاقتي بالفكر والوجود والسياسة والدين نظرية ومجردة إلى حد بعيد، كان من السهل علي نسبيا أن ينقسم الوجود إلى ذات وموضوع، لكن مع آن وُجدت مساحة في الوجود لا يمكن أن أعتبرها ذاتا ولا موضوعا.." بهذا أجاب الدكتور همام يحيى متحدّثًا عن ابنته "آن" عندما سئل: "هل غٓيّرٓ مجيء "آن" إلى حياتك من فهمك للوجود؟"

            

موضوع الإنجاب لم يعد مندرجا ضمن الموافقة على الزواج؛ فقد يوافق الشاب والفتاة على الزواج ويؤجلا موضوع الإنجاب، وبهذا أصبحت الأمومة عالما آخر مستقلا عن كون المرأة زوجة
موضوع الإنجاب لم يعد مندرجا ضمن الموافقة على الزواج؛ فقد يوافق الشاب والفتاة على الزواج ويؤجلا موضوع الإنجاب، وبهذا أصبحت الأمومة عالما آخر مستقلا عن كون المرأة زوجة
          

وفي محاولة لتفكيك أسباب "رهاب الأمومة" في هذا العصر بيّن الدكتور همام لميدان أنَّ ثمة فصلا بين الظواهر الإنسانية الثلاث: الجنس والزواج والأمومة ، هذه الظواهر كانت مترابطة قبلا؛ فالجنس سابقا كان يحصل بالزواج والأمومة حاصلة معهما ضمنيا، لكن في الزمن الحديث انفصلت هذه الظواهر الثلاث عن بعضها؛ بمعنى أنه أصبح من الممكن الحصول على الجنس من دون زواج، أو التمتع بالأمومة من دون زواج، أو قيام الزواج لكن من دون أمومة؛ مما يعني أن الزواج لم يعد يعني بناء أسرة تلقائيا كما السابق، وهذا ليس مقتصرا على الغرب طبعا بل في الشرق أيضا؛ حيث أصبح من المقبول أن يتزوج شخصان ويعيشان زمنا طويلا دون أولاد باتفاق بينهما، الأمر الذي لم يكن مقبولا بفترة قريبة من الزمن إلا مشفوعا بأسبابه القاهرة كالانتظار حتى إنهاء الدراسة، أو حتى الإقامة في بلد قد تمنح الطفل في حال ولد بها جنسية، أو حتى عودة الأب المسافر للعمل، وغيرها من الأسباب القاهرة التي قد تقنع المحيط الاجتماعي الممتد، أما الآن فأصبح من الممكن تأجيل الإنجاب من دون أسباب أو لأسباب عادية جدا، وهي ظاهرة واسعة الانتشار -حسب الدكتور همام- مع موجة انتقاد واسعة من الجيل الأول الذي ينتظر أن يرى أحفاده.

             

وهذا الانفصال بين الظواهر الثلاث جعل كل ظاهرة بحاجة إلى تفكير واستعداد خاص بها؛ فسابقا الموافقة على  الزواج تعني الاستعداد لبدء أسرة وإنجاب أولاد، بينما الآن موضوع الإنجاب لم يعد مندرجا ضمن الموافقة على الزواج؛ فقد يوافق الشاب والفتاة على الزواج ويؤجلا موضوع الإنجاب زمنا طويلا أو قصيرا؛ وبهذا أصبحت الأمومة عالما آخر مستقلا عن كون المرأة زوجة، وهذا لا يقتصر على أوساط منفتحة أو غير ديّنة بل يطال الأوساط المحافظة والمتدينة، مع علوّ موجة التبني والكفالة من قبل الشباب/الفتيات المتزوجين وغير المتزوجين. وبعد تفكيك الظاهرة مقاربة لفهمها، يرجع الدكتور همام في حديثه لميدان أسبابها إلى أمور عدة:

      

1. انخفاض مستوى الأمان الاجتماعي والمادي:

مستوى الأمان والمخاطرة في الحياة يزداد باطراد؛ فالمجتمع التقليدي الذي كانت تشعر فيه المرأة بالأمان من تجرؤ زوجها على طلاقها أو الغدر بها أو إهانتها لأسباب غير قاهرة، وهذا الأمان نتاج عوامل اجتماعية كانت متعاضدة في ذلك المجتمع، ثم هي في مأمن حتى لو انفصلت عن زوجها؛ ذلك لأن دور الأب والإخوة في الرعاية الاجتماعية مازال قائما؛ وهو الأمر الذي تغير في مجتمعاتنا المتشظية؛ فدور الأب والإخوة في حياة الفتاة الآن تقلّص  بعد زواجها، مما أدى إلى اتساع التخوف من الطلاق، وناهيك عن غياب الأمان المادي بسبب الظروف العامة التي ازدادت معها متطلبات الحياة وتكاليفها؛ مما جعل المرأة تشعر دائمًا بأن عليها التحسب للأسوأ لوكانت وحدها فكيف لو كان معها ولد؟ فإنها ستكون ملزمة بتأمين نفسها وتأمين ابنها فيما لو اضطربت الأمور بينها وبين زوجها، خصوصا مع غياب تبلور قوانين النفقة والحضانة.

                      undefined

          

2. الخوف من الارتباط بمنظومة الزواج:

يبين الدكتور همام أنه في هذا العصر يتنامى عند الفتيات الشعور بأن الأمومة هي ليست ارتباطا بالطفل بل ارتباط بمنظومة الزواج؛ أي أنه للحفاظ على أمان هذا الطفل ونموه السليم فإن المرأة مطالبة بالاستمرار بالزواج لدرجة كبيرة ومطالبة كذلك بالمحافظة عليه؛ فبالتالي يتحوّل الطفل إلى رابط لها بزوجها وبمنظومة الزواج، وبما أنّ منظومة الزواج لم تعد بهذا الوضوح والثبات؛ فبالتالي نجد من الطبيعي أن تشعر المرأة بأن ارتباطها بهذه المنظومة هو خطر وغير مضمون؛ فإنجاب ولد معناه التنازل عن أشياء قد تكون خاصة ولازمة للمرأة لاستمرار الزواج، أو قد يجعلها مرغمة على المطالبة بإرضاء الزوج، أو قد يقلل الطفل من قدرتها على المناورة فيما لو ساءت الأمور بينها وبين زوجها؛ فالأمومة إذن ارتباط متعدد الطبقات بالنسبة للمرأة، وليست ارتباطا بالطفل وحده، بل به وبالواجب تجاهه أمام الزوج والأهل والمجتمع.

          

3. تعطيل فرص العمل والتحصيل العلمي:

تخاف النساء من كون الأمومة تعطل بعض الفرص من ناحية أكاديمية ومهنية، وهذا حقيقة، كما يوضح الدكتور همام، ذلك أن الأمومة تكبل المرأة من ناحيتين:

– يزداد اعتمادها على زوجها بمجرد وجود الطفل.

– يزداد اعتمادها على زوجها لأن فرصها بالاستقلال المهني والأكاديمي تصبح أقل؛ مما يغيّب فرصها ببناء الكيان المستقل لها؛ من الحصول على الشهادة الأكاديمية وفرصة العمل المرغوبة، وكأن الأمومة تمسي نوعا من المقامرة المضاعفة على المرأة، مما يجعل الأمان عندها هشا لارتباطه برجل يحبها ويحترمها فقط، لكنه قد يقرر بأي لحظة بأنه لا يريدها، فستكون هي أمام طفل لا تعرف مدى قدرتها على مواصلة الاهتمام فيه لو حصل الانفصال من ناحية، ومن ناحية أخرى فحياتها الأكاديمية متعطلة ولا ضامن لاستمرارها فيما لو حصل الطلاق فعلا.

        

الموجة النسوية التي تريد إقناع المرأة بأنها لم تُخلق لتكون أمّا فقط أو لتلزم المنزل، ولّدت رد فعل عكسي
الموجة النسوية التي تريد إقناع المرأة بأنها لم تُخلق لتكون أمّا فقط أو لتلزم المنزل، ولّدت رد فعل عكسي
       

4. القلق من الأمومة:

مثل أي ظاهرة بشرية، أصبحت الأمومة موضوعا خاضعا للبحث والدراسة، ولم تعد متروكة للحدس والسليقة، بل أُلِّفت بها كتب ونظريات في علم النفس والتربية وكيفية التربية الصحيحة وتأثيرها في نمو الطفل ونظرته للحياة، مما جعل موضوع الأمومة والتربية بحد ذاته مشوبا بكثير من القلق والرعب، الأمر الذي يلمسه كثيرا الدكتور همام فيمن يتحدثون معه في سياق تخصصه وفي سياق الحياة بشكل عام، ويضيف بأن الأمومة شيء صعب وضخم وهائل وعبء تتهيب كثير من النساء حمل مسؤوليته.

       

5. النسوية:

ثمة موجة نسوية تريد إقناع المرأة بأنها لم تُخلق لتكون أمّا فقط أو لتلزم المنزل، بل لابد لها من بناء شيء مهني خارج المنزل لتحقق النجاح الأكاديمي وتحصل الأمان المادي.

      

 هذه الموجة كما يقول الدكتور همام ولّدت رد فعل عكسيا؛ فكنوع من رد الفعل على تقليل دور المرأة غير العاملة خارج المنزل نشأ تيار من الحديث المبالغ فيه عن دور المرأة في المنزل وعن أهمية التربية، فخرجت مهام المرأة -بحسن نية- هذه وكأنها شيء مخيف، فنبرة الحديث عما تطلبه الأمومة من جهد وتركيز وضبط للانفعالات كان يشوبها بعض الترهيب، ما أوصل الرسالة إلى المتلقي محققة عكس هدفها المطلوب.

    

6. إكمال الذات:

تشيع بكثرة فكرة ضرورة "إكمال الذات قبل تحمل المسؤوليات"، مما يعني أن ثمة ما يسيطر على عقول الناس بأنه لا يمكن خوض الزواج إلا باستعداد تام؛ كأن تعرض فتاة عن الارتباط بعد فشلها بعلاقة عاطفية، أو إلا بإكمال تحصيل ما يمكن تحصيله من علم ومعرفة، قد تكون فكرة الاستعداد صحيحة، لكن لا يمكن للإنسان أي يصل في أي لحظة لاستعداد كامل لفكرة بحجم فكرة الأمومة إلا بالتجربة؛ فهي تنضج وتُتعلَّم بالممارسة، وهي كذلك مثل أي نشاط بشري من المستحيل أن يتعلمه الإنسان نظريا مجردا ثم يمارسه.

                undefined

          

لكن هذا لا يعني أنه من الطبيعي مثلا وجود مشاكل لا بد من حلها قبل الدخول بالأمومة؛ فلو قالت فتاة إنها تعاني من اكتئاب ولا تريد أن تنجب قبل الشفاء منه، أو أن بينها وبين زوجها معضلات لن تنجب قبل التأكد من حلها، فهذا كلام سليم، لكنها إن قالت إنها لن تنجب لمجرد الخوف أو رغبة في إكمال الذات فهذا الكلام غير سليم؛ لأنه ثمة تجارب تعلم بذاتها وينضج الإنسان فيها ومعها وليس قبل خوضها، وبهذا ينهي الدكتور همام حديثه عن تفكيك "رُهاب الأمومة" وعزوها إلى أسبابها.

            

ثم يعرّج الدكتور ليتحدث عن نظرية "الارتباط العاطفي" والتي يتضح من خلال الدراسات التي أجريت فيها، أن علاقة البنت والابن مع آبائهم وأمهاتهم يؤثر على نظرتهم للأمومة والأبوة؛ فتعرض الطفل لرعاية غير مثالية أو سيئة  أو لضرب من أمه أو إهمال أو وفاة الأم مثلا بعمر صغير يترك آثارا سلبية على تصور فكرة الأمومة ككل، والدراسات حسبما يبين الدكتور همام تُظهر  أن من تعرض لإهمال أو ضرب في الطفولة ترتفع احتمالية ممارسته لما تعرض له على أبنائه، مما يعني أنه قد يكون تخوف البنت من الإنجاب تخوفا صحيا نابعا من شعورها بعدم القدرة على ممارسة دور الأمومة كما ينبغي له لأنه لم يمارس عليها بصورته الصحيحة ولأنها لم تعايش الارتباط العاطفي بشكله الصحيح، ومن منظور نفسي لا ينبغي القسوة على هؤلاء الناس  بفكرة الإنجاب قبل فهم الخلفية النفسية للموضوع عندهم، فالشعور بعدم الرغبة بالإنجاب في ظل هذه الظروف التربوية السابقة يعكس وعيا، وعن إمكانية إيجاد حل لمشكلة الارتباط العاطفي يوضح الدكتور همام أن المساعدة في مثل هذه الحالات ممكنة عن طريق العلاج النفسي المتجه إلى فكرة الارتباط العاطفي، ومن خلال هذا العلاج يمكن إفهام الشاب أو الفتاة فكرة "الارتباط العاطفي" بشكلها الصحيح، وإفهامهما أن ما كان من تجربة الارتباط مع الأم إنما هو ارتباط قلق ليس ارتباطا طبيعيا آمنا؛ فبالتالي العلاج النفسي يمكنه حل هذه المشكلة عن طريق تغيير منظور الأشخاص للأبوة والأمومة.

         

التخوف من الإنجاب خصوصا عند امرأة تعرضت لصدمة من فقدان ابن وزوج وبيت هو أمر صحي لا ينبغي التعامل معه بتحفظ
التخوف من الإنجاب خصوصا عند امرأة تعرضت لصدمة من فقدان ابن وزوج وبيت هو أمر صحي لا ينبغي التعامل معه بتحفظ
           

وبعودة على بدء، سأل ميدان الدكتور عن أثر معاينة الحرب على فكرة الأمومة، فأكد همام أن أثرها حديثا بالدرجة الأولى كان مثبطا بالفعل، وعلى الرغم من عدم وجود مراجع محددة تتحدث عن أثر الحرب سابقا على فكرة الإنجاب إلا أننا نستطيع فهمه بالانطباع العام من التاريخ وحديثه عن الحروب؛ فالسياقات التاريخية عموما تتحدث عن فكرة الإنجاب بأنها نوع من الرد الواعي على الحرب؛ في فلسطين مثلا يتضح من المعايشة والمشاهدة أن الأب لا يخشى من الشهادة إذا ترك أولادا يحملون اسمه؛ مما يعني أن الحرب سابقا أضافت فكرة للإنجاب، وهي فكرة كونه نوعا من التحدي في الرد على العدو الهادف إلى استئصال الوجود.

        

ويضيف أنه لابد من تأكيد صعوبة إجمال الحرب بعبارة تنطبق على كل الأحوال حديثًا؛ فلكل حرب ظروفها الخاصة؛ ففي سوريا مثلا الحرب لم تأخذ شكل احتلال مثل فلسطين يكون فيها العدو واضحا ومعترفا به اجتماعيا وشعبيا كعدوّ واضح محتل ومغتصب للأرض، بل أخذ الموضوع في سوريا شكل ثورة تطورت إلى حرب خاضعة لمعادلات سياسية لا يبدو أنها قد تنتهي؛ في ظل هذا يغدو التخوف من الإنجاب وتأجيله شيئا منطقيا جدا، خصوصا إذا ما أضفنا لها فكرة اللجوء، وقد انتشر أخيرا استهجان الناس لفكرة إنجاب السوريين في مخيمات اللجوء، ومن المعروف أن المنظمات الدولية تحرص على توزيع وسائل منع الحمل بين اللاجئين وهذا -بغض النظر عن دوافعه التي قد تكون دنيئة أحيانًا- متفهم وله أساس علمي؛ فالأم التي تحمل وهي بحالة اكتئاب ينعكس هذا على النمو العقلي والعصبي  للطفل حتى في الرحم نسب الكورتيزون ومستوى الاكتئاب عند الأم يؤثر سلبا على نمو الطفل في الرحم وبعد الولادة؛ لأنه سيرتبط بها عاطفيا وسيحتاج منها أن تحدثه وتلاعبه، فإن كنت مصدومة وغير قادرة على الحديث إليه وملاعبته سيتأثر الطفل سلبا بشكل بعيد المدى؛ إذن فالتخوف من الإنجاب خصوصا عند امرأة تعرضت لصدمة من فقدان ابن وزوج وبيت هو أمر صحي لا ينبغي التعامل معه بتحفظ، كما أنهى الدكتور حديثه الخاص لميدان.

           

وبعد المرور في التقرير على بيئات جغرافية واجتماعية متنوعة ومتباينة نسبيا، وآراء اجتماعية ونفسية، ربما يظهر أنه ثمة خوف حقيقي وحاصل من الفتيات إزاء الأمومة، مع رغبة فيها دفعتهن للبحث عن وسيلة أخرى لإشباع الغريزة كالتبني، لكن هذا التخوف الملحوظ والموجود نتيجة أسبابه المنطقية لم يتماسك بعد ليشكل ظاهرة جديدة تهدد الأسر العربية، ليبقى مرتبطا بالدرجة الأكبر بالظروف القاسية التي يعيشها الشباب العربي من حروب ولجوء وفوضى يبدو أنها لن تستقر قريبا.

المصدر : الجزيرة