شعار قسم ميدان

حين فضحتنا بورما.. لماذا تجاهلنا المجازر بمن لا يشبهوننا؟

ميدان - الروهينغا
اضغط للاستماع
     
مقدمة الترجمة

هل شاهدت ضحية يلتف حولها أناس صامتون، راضون بما يحصل لها من إيذاء وإهانات، ولا يشعرون بأي مسؤولية تجاه التدخل لإنقاذها؟ يبدو مشهدا مألوفا لدى الكثيرين، فما هي الأسباب التي تجعل الأفراد يتجاهلون ما يحصل للآخرين؟ وما الجذور النفسية والاجتماعية التي تجعلنا نرضى في كثير من الأحيان بأن ترتكب الفظائع بحق من لا يشبهوننا؟ هذا التقرير يسبر من خلال نموذج ميانمار أعماق تفاعلاتنا الإنسانية ومحدداتها التي تدفعنا للتفاعل مع أشخاص في حين أنها تدفعنا لتجاهل وأحيانا للتشجيع على ما يحدث للآخر من مآسي.

نص التقرير

على أقل تقدير، فر أكثر من 600 ألف من أقلية الروهينغا المسلمة من ميانمار إلى بنغلادش. فمنذ أن هاجم مسلحو الروهينغا مقرات الشرطة الميانمارية، الأمر الذي نتج عنه عشرات القتلى في أغسطس/آب 2017، شنت قوات الأمن الميانمارية حملة تطهير عرقي. فأحرقوا المئات من قرى الروهينغا، وقتلوا، واغتصبوا، وقطعوا رؤوس الروهينغا الذين تصدوا لهم.

لكن، ما الذي دفع قوات الأمن الميانمارية للمشاركة في أعمال تعد تطهيرا عرقيا؟ هل فشلوا في إدراك الطبيعة الإنسانية المتأصلة لضحاياهم، أم أن أفعالهم تمثل فائضا من الأخلاق، الأخلاق التي لا يمكن تحقيقها والوصول إليها إلا بمعاقبة إنسان آخر؟ ما الدافع الذي يقف وراء هذا العنف؟

هناك تفسير شائع لأعمال العنف المروعة تلك؛ يتمثل في أن مرتكبي هذه الأعمال يرون ضحاياهم دون الحيوانات أو الأشياء الجامدة، لذلك لا يشعرون إلا بقليل من الندم عند إساءة معاملتهم، أو تعذيبهم أو قتلهم لأن من السهل على النفس إيذاء حيوان أو كسر شيء جامد مقارنة بالإنسان. ولطالما جرى التذرع بتجريد الضحايا من إنسانيتهم في تفسير أعمال العنف التي تتراوح ما بين ارتكاب الهولوكوست وإساءة معاملة السجناء في سجن أبو غريب وصولا إلى ممارسة أعمال العنف العرقي ضد الروهينغا.

أكثر من 600 ألف من أقلية الروهينغا المسلمة فروا من الموت في ميانمار إلى بنغلادش (رويترز)
أكثر من 600 ألف من أقلية الروهينغا المسلمة فروا من الموت في ميانمار إلى بنغلادش (رويترز)

ومع ذلك، تُشير أحدث دراساتنا إلى أن هذا التفسير مُخطئ. فبعد كل ذلك، يُشير الفشل في إدراك الطبيعة البشرية لشخص ما إلى حالة من اللامبالاة تجاه شؤونه وأحواله، وليس إلى رغبة قوية وسعادة في التسبب بمعاناته. ولفهم الدافع الذي يقف وراء الرغبة القوية في التسبب في ألم ومعاناة شخص آخر، علينا النظر إلى مصدر غير متوقّع؛ وهو الأخلاق البشرية.

وكما نستعرض في البحث المذكور آنفا، والذي نُشر في مجلة "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" (Proceedings of the National Academy of Sciences) عام2017، يسمح لنا تجريد الضحايا من إنسانيتهم ارتكاب أعمال عنف بنحو ذرائعي، إذ لا يرغب الناس في إلحاق الأذى بالضحايا، لكنهم بدراية يضرون بهم على أي حال في سبيل تحقيق هدف آخر؛ مثل إطلاق النار على غريب من أجل سرقة محفظة نقوده. ومع ذلك، لا يجعلنا تجريد الشخص من إنسانيته نرتكب عنفا أخلاقيا، إذ يرغب الناس بقوة في إلحاق الأذى بالضحايا الذين يستحقون ذلك؛ مثل إطلاق النار على زوجة خائنة. لقد وجدنا أن العنف الأخلاقي لا يظهر إلا عندما يرى مقترفو هذه الأعمال ضحاياهم قادرين على التفكير، ويدركون هذه الأحاسيس ولديهم مشاعر اعتبارية. وبعبارة أخرى؛ عندما ينظر مقترفو هذه الأعمال إلى ضحاياهم على أنهم بشر.

ولا يعني ذلك أن مرتكبي هذه الأعمال لا يحملون آراء بغيضة للغاية وعنصرية نحو ضحاياهم. فهم قد يُهينون ضحاياهم أيضا عبر مقارنتهم بالقرود أو الحيوانات الأخرى. لكن عندما نختبر سلوك تجريد الضحايا من الإنسانية على نحو تجريبي، ونقوم بقياسه بطرق لا تستغل العنصرية الصريحة، فإننا لم نجد علاقة بين عملية التجريد من الإنسانية والعنف الأخلاقي.

كان الأمريكيون الذين رأوا أنَّ المدنيين العراقيين أقل إنسانية، أكثر ميلا إلى دعم غارات الطائرات دون طيَّار في العراق (رويترز)
كان الأمريكيون الذين رأوا أنَّ المدنيين العراقيين أقل إنسانية، أكثر ميلا إلى دعم غارات الطائرات دون طيَّار في العراق (رويترز)

في البداية أثبتنا ذلك من خلال سؤال المشاركين في الدراسة بالكشف عن مدى تقبلهم للأنواع المختلفة من ممارسات العنف؛ مثل غارات الطائرات دون طيار، وعقوبة الإعدام بحق القتلة وأكل حقوق العمال. وبعد ذلك، سألنا المشاركين عن ضحايا هذه الأنواع. هل الضحايا يفكرون ويعقلون؟ وهل يشعرون بالألم والمعاناة؟ وهل هم قادرون على ممارسة الحب والرحمة؟ أم الكراهية والغضب؟ واستخدمنا هذه الأسئلة لتقييم ما إذا كان الناس يرون الضحايا بشرا بشكل كامل، ومستقلين عن التوجهات السلبية التي قد يحملونها تجاههم.

وقد توصلنا إلى أن عملية تجريد الضحايا من إنسانيتهم تشير إلى دعم العنف الذرائعي، وليس العنف الأخلاقي. فعلى سبيل المثال، كان الأميركيون الذين رأوا أن المدنيين العراقيين أقل إنسانية أكثر ميلا إلى دعم غارات الطائرات دون طيار في العراق. وفي هذه الحالة، لم يرغب أي منهم بقتل المدنيين الأبرياء، لكن إذا لقوا حتفهم كأضرار جانبية خلال قتال إرهابيي داعش، فإن تجريدهم من إنسانيتهم يُخفف من الشعور بالذنب. وفي المقابل، لم يشر اعتبار إرهابيي داعش أقل إنسانية إلى أي شيء يتعلق بدعم غارات الطائرات دون طيار ضدهم. وذلك بسبب أن الناس يريدون إلحاق الضرر بالإرهابين وقتلهم. فبدون إنسانيتهم، كيف يكون الإرهابيون مُذنبين، وكيف سيشعرون بالألم الذي يستحقونه؟

أجرينا أيضا تجارب طلبنا خلالها من الناس تصور إيذاء شخص سواء من أجل المال أو كعقوبة لفعل غير أخلاقي. وفي إحدى التجارب وجدنا أن المشاركين عبروا عن تأييد أقل لكسر إبهام أحد الأشخاص في مقابل مبلغ مليون دولار عندما وُصف الشخص باستخدام كلمات تُضفي عليه الطبيعة الإنسانية؛ مثل "جون إنسان طموح ومُبدع، لكن أيضا شديد الحساسية ومتزعزع"، وكان الأمر تماما كما تُشير نظرية التجريد من الإنسانية. ومع ذلك، لم يُغيِّر استخدام لغة إنسانية تأييد كسر إبهام شخص قوَّاد يقوم بتجنيد الشابات للعمل في الدعارة.

undefined

وفي تجربة أخرى، وجدنا أنّه بعد تخيل كسر إصبع أحد الأشخاص في مقابل 10 دولار، رأى الناس الشخص الذي ألحقوا به أذى أقل إنسانية، ومجددا دعموا النظريات القائلة بأنّ الناس يجردون ضحاياهم من إنسانيتهم للتخفيف من إحساسهم بذنب إيذائهم. في المقابل؛ وجدنا أنّ تصوُّر كسر إصبع شخص كعقاب لتصرف غير أخلاقي لم يُغير إدراكهم بطبيعة الشخص الإنسانية. وفي حالات قليلة، وجدنا أن المشاركين في الدراسة يبررون إيذاء الأشرار من خلال النطر إلى الشخص الذي ألحقوا به الأذى بأنّه أكثر إنسانية.

يعتقد كثيرون أن الذي يؤدي إلى العنف ليس سوى انهيار في أحاسيسنا الأخلاقية. وللحد من هذا العنف -وفقا لهذه الفرضية- فإننا لا نحتاج سوى استعادة شعورنا الأخلاقي من خلال توليد تعاطف تجاه الضحايا، فإذا استطعنا أن نراهم بشرا مثلنا فإننا حينها لن نتسبب لهم في أي أذى. ومع ذلك، يُشير بحثنا إلى أن هذا الأمر غير صحيح. ففي حالات العنف الأخلاقي، تُشير تجاربنا إلى أن الأحساس بالشعور الأخلاقي وليس عدمه؛ هو ما يسبب في كثير من الأحيان العدوان. فعندما تقوم قوات الأمن الميانمارية بزرع ألغام على الحدود البنغلادشية في محاولة لقتل أفراد أقلية الروهينغا الذين يحاولون الفرار من المذابح، فإن المحرك الأساسي لهذا السلوك ليس تجريدهم من إنسانيتهم، بل بدلا من ذلك هو غضب أخلاقي تجاه عدو جرى تصويره بأنه شر، لكنه إنسان بالكامل أيضا.

فهل يعنى ذلك عدم وجود دور لعملية التجريد من الإنسانية في ارتكاب العنف؟ بالتأكيد لا، فاللامبالاة التي تنجم عن التجريد من الإنسانية هي ما يدفع كثيرا من الناس إلى التجاهل وعدم القيام بأي شيء في الوقت الذي تُرتكب فيه فظائع رهيبة. ففي كل مرة تفشل أون سان سو تشي -زعيمة ميانمار- في إدانة الأعمال الوحشية التي ارتكبتها قوات الأمن، أو حتى التطرق إلى ما إذا كانت هذه الأعمال قد وقعت؛ تكون آثار تجريد الأقليات من الإنسانية واضحة. وقد لا يدفع قيام قوات الأمن الميانمارية بتجريد الروهينغا من إنسانيتهم إلى القيام بالقتل، لكنه يدفع بقيتنا إلى الوقوف متفرجين دون القيام بأي شيء.

==============================

مُترجم عن مجلة أيون