شعار قسم ميدان

جزيرة صغيرة تعدادها 500 فرد.. يتحدثون 9 لغات مختلفة

جزيرة صغيرة تعدادها 500 فرد.. يتحدثون 9 لغات مختلفة

مقدمة الترجمة:

لا بد أن العنوان لفت انتباهك، لذا دعنا نخبرك أن الأمر لا ينطوي على أي نوع من المبالغة. في هذا المقال من مجلة  ذي أتلانتيك، يحدثنا الكاتب مايكل إيرارد عن مستوطنة في شمال الساحل الأسترالي حيث يتحدث بضع مئات من الأشخاص 9 لغات مختلفة.. فكيف يتواصلون فيما بينهم؟ وهل يمكن لشخص أن يفهم لغة دون أن يستطيع التحدث بها؟

نص الترجمة:

في جنوب جزيرة غولبورن، الجزيرة الغابيّة الواقعة في شمال ساحل أستراليا، توجد مستوطنة تُدعى واروي، يزيد عدد أفرادها على 500، ويتحدثون مع بعضهم بتسع لغات مختلفة. هذا المكان هو الأخير في أستراليا -وربما في العالم- الذي يضم مثل هذا العدد من لغات السكان الأصليين. هناك لغة ماونج، وأخرى أيضا تُسمى بينينج كونووك، وأخرى تُسمى يولنجو-ماتا، وبورارا، وندجيبانا، وناكارا، وكونبارلانج، وإيوايدجا، وتورريس ستريت كريولا، واللغة الإنجليزية.

لا يزيد عدد من يتحدث تلك اللغات، باستثناء الإنجليزية، على بضعة آلاف. والعديد منها -مثل ندجيبانا وموانج- لا يتقنها إلا جماعات بالكاد يتجاوز عدد أفرادها بضع مئات. قد يتوقع المرء أن يكون قاطنو جزيرة غولبورن يتحدثون أكثر من لغة، أو طوروا على الأقل لغة مُبسّطة بينهم كي يفهموا بعضهم البعض، كنوع من الحساء المتشارك -حيث يُقدم كل فرد/مجموعة جزءا صغيرا من طعامهم لصنع وجبة كاملة- لكن بشكل لغوي. إلا أن كلًّا منهم يتحدث مع الآخر بلغته أو لغاته هو، وهو أمر بمقدورهم فعله لأن الجميع يفهم بعضا من اللغات الأخرى أو كلها، حتى وإن لم يتحدّثوا بها.

يوجد هذا النوع من التفاهم في جميع أنحاء العالم، وهو ما يسميه علماء اللغة "بالتعددية اللغوية الاستقباليّة". في بعض الأماكن تكون هذه التعددية اللغوية غير مقصودة، فعلى سبيل المثال، يستطيع الكثير من البيض المتحدثين بالإنجليزية داخل الولايات المتحدة قراءة بعض من اللغة الإسبانية وفهمها نتيجة لكثرة التعرّض لها. بالإضافة إلى ذلك، يتعلّم عدد غير محدود من أطفال المهاجرين لغة البلد المضيف، بينما يحتفظون بقدرتهم على فهم لغات والديهم. في أماكن أخرى، تكون التعددية اللغوية الاستقباليّة حلا بديلا في الحالات المؤقتة. لكنها في مجتمع واروي تلعب دورا مميزا.

جزيرة صغيرة تعدادها 500 فرد.. يتحدثون 9 لغات مختلفة

أدركَت روث سينغر، عالمة لغويات في مشروع أصول التنوع اللغوي (Wellsprings of Linguistic Diversity Project) التابع للجامعة الوطنية الأسترالية، تلك الحقيقة مصادفة، وقد كتبت مؤخرا عن التعددية اللغوية الاستقباليّة في مجتمع واروي في مجلة "اللغة والتواصل" (Language and Communication). في عام 2006، وخلال واحدة من رحلاتها الميدانية في جنوب غولبورن، رتبت سينغر مع زوجها نقل شاحنة تويوتا من مدينة داروين عن طريق قارب. وعلى الرغم من أن مساحة الجزيرة ليست كبيرة للغاية، فإنها لا تحوي كثيرا من السيارات، لذلك فامتلاك واحدة هو رفاهية اجتماعية. صارت سينغر وزوجها صديقين لثنائي متزوج من سكان الجزيرة، هما نانسي نغالمينجالماغ وريتشارد دانغالانغال اللذان كانا يملكان قاربا وعربة مقطورة، لكن لا يملكان سيارة، وانتهى الحال بكلا الزوجين بالذهاب معا لصيد الأسماك والحيوانات والبحث عن بيض السلاحف على الشاطئ. هنا اكتشفت سينغر أن نانسي تحدث ريتشارد دائما بلغة ماونج، لكن ريتشارد يجيبها دائما بلغة يولنجو-ماتا، على الرغم من أن نانسي تتحدث اليولنجو-ماتا بطلاقة.

تقول سينغر في رسالة بالبريد الإلكتروني: "بمجرد أن بدأتُ العمل في مجال التعددية اللغوية، وضبطت أذني لملاحظة كيف أن الناس يستخدمون لغات مختلفة، بدأتُ في سماع محادثات تدور بطريقة "التعددية اللغوية الاستقباليّة" في جميع أنحاء واروي: بين رجلين يعملان على تثبيت سياج، أو بين شخصين يتعاملان في متجر".

تقول سينغر إن هناك عددا كبيرا من التفسيرات لتلك الظاهرة. في حالة صديقَيها المتزوِّجَين مثلا، لا يتحدث ريتشارد لغة ماونج لأنه ليس من سكان واروي الأصليين، وإذا تحدَّث بلغة ماونج فقد يُرى ذلك تحديا لقواعد مجتمع واروي التي تستبعد الغرباء من نَيل حقوق معينة. بالإضافة إلى أن عدد من يتحدثون لغة يولنجو-ماتا أكثر، وأن هؤلاء الذين يتحدثونها عادة ما يتقنون عددا أقل من اللغات مقارنة بمَن يتحدثون لغات أقل شيوعا.

جزيرة صغيرة تعدادها 500 فرد.. يتحدثون 9 لغات مختلفة
وبشكل عام، يتجنّب الناس في مجتمع واروي تغييرَ اللغة التي يتحدثونها إلى لغة أكثر شيوعا بسبب التكاليف الاجتماعية والشخصية التي تتبع ذلك. تُصرّ بعض العائلات أن يتحدث أطفالها لغتهم فقط، والتي تكون عادة لغة الأب. ترتبط اللغات بمناطق أو أقاليم معينة في الجزيرة، وتدَّعي القبائل ملكية تلك الأراضي، ومن هذا المُنطلَق تُعد اللغات كذلك مِلكا للقبائل. لا يمكن للمرء أن يتحدث إلا باللغة التي يملك الحق في استخدامها، وخرق تلك القاعدة قد يُرى عملا عدائيا.

إلا أنه لا توجد قيود على فهم اللغات، أو "سماعها" كما تقول نانسي في حوار لها مع سينغر. تعتقد سينغر أن طريقة التعددية اللغوية الاستقباليّة وُجدت في أستراليا منذ فترة طويلة. وقد لاحظ تلك الظاهرة بعضُ المستوطنين الأوروبيين الأوائل في بعثات أواخر القرن الـ 18 إلى المناطق الداخلية في أستراليا. كتب مستوطن في مذكّراته: "على الرغم من أن مواطنينا والغرباء تحدّثوا بشكل متكافئ، وفهموا بعضهم البعض جيدا، فإنهم كانوا يتحدثون بلهجات مختلفة من اللغة نفسها".

ليست أستراليا المكان الوحيد في العالم الذي تُستخدم فيه التعددية اللغوية الاستقباليّة، لكن ما يجعل الأمر مختلفا في واروي هو أن تلك المهارات في التلقي لها مكانتها كمهارات حقيقية. وحيث يميل مجال اللغات الأجنبية الأكاديمي إلى اعتبار مثل تلك المهارات لغات نصف مُتعَلمة أو غير مكتملة أو -وهو الأسو- فشل في تعلم اللغة واكتسابها، يعتبر الأفراد في واروي تلك المهارات في تلقي اللغة جزءا من حصيلتهم. على الأرجح لا يضع البيض (ذوو الأصول البريطانية) في ولاية تكساس عبارة "يفهم الإسبانية" في سيرهم الذاتية الوظيفية باعتبارها مهارة، بينما قد يشعر الأطفال المهاجرون بالحرج لكونهم لا يستطيعون التحدث بلغة والديهم. هناك كذلك فارق آخر هو أن الناس في واروي لا يعتبرون مهارات التلقي طريقا لاكتساب اللغة المنطوقة. فصديق سينغر، ريتشارد دانغالانغال، مثلا، عاش معظم حياته مع أشخاص يتحدثون لغة موانج، التي يفهمها جيدا، لكن لا أحد يتوقع منه أن يبدأ في التحدث بها.

في بعض الأماكن أُضيف الطابع المؤسسي على مهارة التعددية اللغوية الاستقباليّة. في سويسرا -وهي بلد بها أربع لغات رسمية (من عائلتين لغويتين مختلفتين)- جرى إدخال مهارة التعددية اللغوية الاستقباليّة إلى النظام التعليمي، بحيث صار الأطفال منذ سن مبكرة يتعلمون لغة محلية ولغة أخرى قومية واللغة الإنجليزية. من حيث المبدأ، قد يؤدي ذلك إلى أن يفهم الناس بعضهم بعضا. لكن أظهرت إحدى الدراسات التي أُجريت عام 2009 شيوع استخدام لغة واحدة بين المواطنين السويسريين، بينما كان الإيطاليون أكثر من يستخدمون لغات متعددة، وكان الفرنسيون هم الأقل. وعلاوة على ذلك، اتّسمت كل مجموعة من المتحدثين بلغة بتوجهات سلبية قوية عن الآخرين. تماما كما هو الحال في مجتمع واروي، تُشكّل العوامل الاجتماعية والأفكار المتعلقة باللغة روح العديد من اللغات في أماكن مثل سويسرا.

ولكن حتى في سويسرا، قد يظن شخص ما أن حالة التفاهم دون التحدث في أستراليا ليست شيئا مهما، نظرا لأن العديد من الناس في أوروبا يتحدثون بلغات متصلة ببعضها من حيث المخزون اللغوي (في اللغات الرومانسية (اللاتينية) والجرمانية والسلافية). يسمح ذلك لهم بالاستفادة من تشابه المفردات والقواعد النحوية فيما يتعلق بالفهم السلبي. لكن تنحدر اللغات في واروي على النقيض من ذلك، من ست عائلات لغوية مختلفة وليست واضحة بشكل متبادل، ولذا ترقى تلك المهارات في التلقي إلى أن تكون شيئا شديد التطور. ليست هناك معلومات كافية عن التعددية اللغوية الاستقباليّة حتى نتمكن من معرفة عدد اللغات التي يمكن للمرء أن يفهمها دون أن يتحدث بها.

وسواء في سويسرا أو مجتمع واروي، تتمثّل إحدى مزايا التعددية اللغوية الاستقباليّة في أن الناس يمكنهم التعبير عن أنفسهم ومن أين أتوا دون إجبار الآخرين على أن يكونوا مثلهم. وفقا لسينغر، يخلق هذا استقرارا اجتماعيا في واروي، لأن كل المجموعات تشعر بالراحة والثقة حيال هوياتها. تقول: "يُنظر إلى التنوع الاجتماعي واللغوي في واروي على أنه أمر ضروري لتحقيق التجانس الاجتماعي وليس حاجزا، مما يؤكد على الحاجة إلى أن يتمسك الناس بهوياتهم المتنوعة بدلا من أن يكون الجميع متشابهين". وتضيف قائلة: "عند اختفاء الهيكل الاجتماعي الهرمي الأكبر، مثل القبيلة أو المملكة أو الأمة، يصير الحفاظ على السلام أمرا غير هين".

اجتماع

كما يتمثّل أحد الخيارات المطروحة للحفاظ على السلام اللغوي في أماكن أخرى من العالم في التزام الجميع التحدث بلغة واحدة يتشاركها الجميع، ربما حتى لغة تواصل مشتركة. يُسمى ذلك "مواءمة"، ويعني في جوهره تقليل الاختلافات بين الناس. لكن في بعض الأماكن من العالم، لا تكون تلك "المواءمة" مُحبذة، بل أحيانا لا تكون واردة أصلا. في حالة مجتمع واروي، تلاحظ سينغر أن الأشخاص الذين يدّعون انتماءهم إلى المجتمع (وبالتالي إلى لغته) يكونون غير راغبين في التحدث بلغة أخرى.

يُعد هذا من الدروس المستفادة عن التعددية اللغوية الاستقباليّة في مجتمع واروي: أي إن المجموعات الصغيرة من السكان الأصليين تكون معقدة على نحو مذهل، اجتماعيا ولغويا، وإن التعددية اللغوية الاستقباليّة هي المحرك والنتيجة معا لذلك التعقيد. وقد تكون أيضا مفتاحا لضمان مستقبل اللغات الصغيرة التي يتضاءل عدد الناطقين بها، وذلك إذا جرى استيعاب المزيد عن كيفية تحويل القدرة على فهم لغة ما إلى القدرة على التحدث بها. تقول سينغر: "إذا فهمنا قدرات التلقي على نحو أفضل، فسوف نتمكّن من وضع طريقة لتدريس اللغة لهؤلاء الناس.. مما سيسهّل على الأشخاص الذين يفهمون لغتهم التراثية فقط –ولا يتحدثون بها- أن يبدأوا في التحدث بها فيما بعد".
————————————————————————————–

هذا الموضوع مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: فريق الترجمة.

المصدر : الجزيرة