"التطبيل أو الذهاب وراء الشمس! ".. كيف نفهم توظيف الدين في السياسة السعودية؟
"يوجد تيار سياسي واحد تقوده الدولة فقط.. لا يوجد تيار ليبرالي سياسي ولا ديني سياسي"
(السعودية سيرة دولة ومجتمع – 271)
بعد أحداث 11 من سبتمبر/أيلول غدت الوهابية التي صدرتها المملكة للعالم موضوعا جدليا وحاضرا بشكل غير مسبوق في الدوائر الغربية، حيث كُتبت عشرات الأوراق والدراسات المُحَكَّمة، وعُقدت الكثير من المؤتمرات لمناقشة "السلفية الوهابية" كتيار تجاوز بيئته المحليّة في شبه الجزيرة العربية حتى غدا ظاهرة عالمية.[1] تضاعفت الجدالات حول السلفية الوهابية وتطرقت لقضايا حول العقيدة والجهاد بين المحلي والعالمي، والتحالف بين آل سعود والوهابية، والموقف من المرأة وقضايا اللبرلة.
وفي ظل التغيرات ذات الوجه الليبرالي التي يقود محمد بن سلمان دفتها فيما يرتبط بالاقتصاد والمجال العام، فإن الأمير "المستنير" يتنصل من الحالة الدينية التقليدية في السعودية، والتي يراها عبئا على المملكة، لذا، فإنه ما يفتأ أن يسفّهها ويصفها بالجمود والرجعية ويطالب بالعودة إلى ما قبل فترة الصحوة، لكنه في ذات الوقت، ما زال يُبقي عددا من المشايخ خارج سجونه لاستخدامهم كأحد الأدوات الفاعلة في تبرير التغييرات. لذلك، لا يُقصي ابن سلمان البعد الديني من صورة الدولة، لكنه يعيد تشذيبه وتوظيفه بما يتوافق مع التغييرات الحديثة.
|
وفق هذا التحول، يظهر تساؤل حول: كيف تكونت هذه الحالة الدينية؟ وما تقاطعاتها مع الفضاء الاجتماعي والسياسي والفكري؟ حالةٌ شكّلت صيغة المملكة الحديثة بما تحوزه من ملامح طبعت الداخل قبل امتدادها للخارج، وعليه، سنسعى للإجابة عن تلك التحولات من خلال هذه الكتب التي تفكك ألغاز هذه الطبيعة المركبة والمتداخلة على حد سواء!
"المجتمع السعودي لا يوجد إلا في الدولة وفي السلطة، فالدولة لا تزال صانعة المعنى"
(وضاح شرارة)
الكتاب الأول هو "السعودية سيرة دولة ومجتمع" للصحفي السعودي عبد العزيز الخضر، وقد اتخذ له صاحبه عنوانا فرعيا "قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية".
نفدت الطبعة الأولى من الكتاب بعد شهرين فقط من نشره على الرغم من اتساع حجمه والذي يتكون من ثمانية فصول ويبلغ عدد صفحاته 880 صفحة، يتتبع فيها الخضر التشكيلات الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية للمملكة منذ سبعينيات القرن الماضي، أي منذ مرحلة انتعاش الثروة النفطية.
ينتقل المؤلف من التكوين للنظام القائم إلى العقل الديني وتشكيلاته التاريخية والمجتمعية ومجتمع الفتوى الوهابي وتصدير فتاواه للعالم عن طريق الشخصيات النافذة في العالم الإسلامي التي استوطنت السعودية فترة من الزمان. يستطرد المؤلف في رصد التطورات التاريخية والسياسية في الصراع المجتمعي داخل المجتمع السعودي وما يتصل بقضايا اجتماعية مثل المرأة والنفط وخطاب الصحوة ومعارك الاختلاط وتعليم النساء، ويواصل التحولات الثقافية في المملكة حتى مرحلة تكوين طبقة المثقفين وبروز مسألة التنوير الفقهي في الواقع المحلي وتطور الخطاب الإعلامي في تشكيل الوعي السعودي وآثار التنمية الاقتصادية والنفطية، ومسألة المعارضة السعودية بين السياسي والمجتمعي. ويتمتع الكتاب بأسلوب صحفي سلس في الرصد والتجميع، وعلى عكس مما يبدو في هذا الكتاب من انفصال بين فصوله، فإنه يُشكل حلقة مهمة من رصد وتحليل تطورات المجتمع السعودي وتداخلات السياسي والثقافي والديني بعيدا عن القراءات المخابراتية التي تناولت الشأن السعودي بحالة من الحذر والترقب بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001م، وهو ما يجعل الكتاب جديرا بالقراءة والاهتمام.
"كان لاجتماع العلماء الحنابلة السعوديين موقف فاعل أساسي على الدوام في المجال الاجتماعي، لا سيما فئة العلماء الرسميين"
(محمد نبيل مُلين – علماء الإسلام)
يحاول الباحث في جامعة السوربون "محمد نبيل مُلين" في رسالته "علماء الإسلام" رصد تاريخ وبنية المؤسسة الدينية في السعودية بين القرنين الثامن عشر والحادي والعشرين، ويقع الكتاب في 433 صفحة. ويبدأ مُلين كتابه بحديث عن ماهية العلم في الإسلام، لينتقل منه إلى التزاوج بين السلطة والحالة الدينية في حالة المملكة، إذ تم "تحالف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، والصفقة التي عُقدت بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود لم تتمخض فقط عن ولادة الكيان السياسي السعودي، بل سمحت أيضا لكلا الطرفين بتعزيز موقفه وتوسيع نطاق نفوذه، وبفضل الدعم غير المشروط للقائمين على المذهب الحنبلي في صورته الوهابية؛ وهو ما أمكن للحكام السعوديين اعتماد سياسة توسعية في شبه الجزيرة العربية".[2]
يستطرد ملين في رصد الفضاء الديني الذي اكتسبه علماء المملكة من السلطة السياسية، وكذا الموارد المادية؛ والتي أدت بدورها إلى نمو وازدهار المذهب الحنبلي الذي وجد فيه محمد بن عبد الوهاب سندا تاريخيا لدعوته. يتطرق مُلين لابن عبد الوهاب ومذهبه الجديد وإنشاء نخبته الدينية لتحصين المذهب ونشره، وأثر هذا على العلاقات المتداخلة بين العلماء في الحالة الدينية الوهابية والسلطة السياسية، إذ تم توظيف العلماء في الصراعات السياسية مثل الصراع مع الخلافة العثمانية والموقف منها، والموقف من القومية العربية إبان عبد الناصر.
ينتقل مُلين فيما بعد إلى محاولة ضم العلماء إلى هيكل الدولة باستحداث هيئة كبار العلماء، إذ إن الشروط اللازمة للحصول على الحظوة الدينية لا بد فيها من الزهد والابتعاد عن السياسة أو منازعة العائلة المالكة. وبعد هذه المسيرة يختم مُلين بحثه بعرض مفترقات الطرق التي آلت إليها المؤسسة الدينية في السعودية بموقفها من القضايا المستجدة على الساحة الإسلامية العالمية مثل قضية المهديّة والإسلاموية وموقفها المتبرئ من الحركات الجهادية العالمية.
"القول بأن سلمان العودة أهم دعاة الصحوة ونجمها لا يُعبر عن الدور الحقيقي لهذه الشخصية، فالشيخ أحدث نقلة نوعية في بنية الوعي الديني المحلي في سنوات معدودة"
(عبد العزيز الخضير)
"ستيفان لاكورا"، الباحث الفرنسي الشهير في دراسات الجماعات الدينية في السعودية، يتتبع في كتابه "زمن الصحوة.. الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية" تشكّل الحركات الإسلامية في السعودية منذ منتصف القرن العشرين وحتى أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ يبدأ لاكورا دراسته بسؤال: كيف انتقل الناشطون الإسلاميون ذوو الميول الإخوانية من البلدان العربية المخلتفة ليستقروا في السعودية وينخرطوا في حركات أو جامعات جمعت بين السياسة من جهة والدين من جهة أخرى بشقيه الإخواني والوهابي وهو ما أفرز ما عُرف بتيار "الصحوة"؟.[3] اعتمد لاكورا في بحثه على عدد واسع من المصادر الحيّة والمقابلات الميدانية والتي استغرقت قرابة خمس السنوات، ليتمكن في النهاية من نسج الرواية الكاملة لجيل الصحوة الذي نشأ منذ سبعينيات القرن الماضي وترأسه جماعة من الشباب الصحويين في ذلك الوقت على رأسهم سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العُمر، قبل أن يتم اعتقالهم جميعا على خلفية معارضتهم للسلطة السعودية في حرب الخليج، ثم في موجة اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017.[4]
ويرى لاكورا أن جيل دعاة الصحوة الشباب قد احتل المكانة التي تمتع بها العلماء التقليديون مع محافظاتهم على علاقاتهم الطيبة مع المشايخ التقليديين وأعضاء هيئة كبار العلماء وعلى الرأس منهم الشيخ عبدالعزيز بن باز. ويعتبر كتاب لاكورا أهم من رصد الصحوة السعودية ميدانيا، على الرغم من بعض النقد الذي لاقاه من بعض الأوساط السعودية وكان على رأسها تحفظات الشيخ سلمان العودة نفسه.[5]
"ما كنا نطالب به في الماضي، يطالب به الآن سلمان العودة وعائض القرني"
(تركي الحمد – جريدة الرياض)
وفي مواصلة تداخل الديني بالسياسي في الشأن السعودي أصدرت مضاوي الرشيد، أستاذ الأنثروبولوجيا الدينية في لندن، كتابها الأخير "حداثيون مكتومون – الصراع على السياسات الشرعية في المملكة العربية السعودية"، وتحلل فيه الرشيد التطورات التي شهدتها الحالة الدينية السعودية في العصر الحديث، إذ تتبعت بعض الشخصيات الدينية والتي تحمل مفاهيم تغيرية غير المتجانسة مع الشأن السياسي السعودي، والجدير بالذكر أن عامة هؤلاء الرموز قد تم اعتقالهم في اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017.
|
تتبّعت الرؤى الإصلاحية الدينية التي خرجت من شيوخ داخل المملكة مثل سلمان العودة، والذي ترى أن خطابه "قد تجاوز نطاق الخطاب السلفي التقليدي حول الخروج على ولي الأمر؛ ليتجه إلى الحديث عن حسنات الاحتجاج السلمي في السياق الثوري"[6]، وهو ما ضمنه كتابه "أسئلة الثورة" والذي يمثل نمطا غير مألوف من الكتابة في الحالة الدينية السعودية. تتابع الرشيد كتابات آخرين ينتمون إلى الفضاء السعودي مثل محمد العبد الكريم، إذ طور كتاباته عن الاستبداد وتفكيكه في دراسته "تفكيك الاستبداد" مستندا إلى أصول الفقه وداعيا إلى نهضة فيما يتصل بالشأن العام والحريات. وتتبعت أُطروحات محمد حامد الأحمري وموقفه من الديمقراطية ودعوته إليها وفصله بينها كآلية للحكم وبين الفكر الليبرالي. ليتضمن كتاب الرشيد أهم المقاربات الدينية التجديدية في الساحة السعودية فيما يتصل بالأسلمة والعلمنة والاستبداد وجذوره الدينية والثورة من منظور سلفي جديد.
"لم تنجح السعودي في استيعاب التيارات الاجتماعية والسياسية التي أفرزتها خلال العقود الثلاثة الماضية"
(مضاوي الرشيد)
ينطلق "توماس هيغهامر" في كتابه "الجهاد في السعودية.. قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" من تتبع الحالة الجهادية في الداخل السعودي وأهم رموزها وفاعليتها القديمة في العالم الإسلامي، إذ تكمن المفارقة أن المملكة تحتل مكانا محوريا في تصدير التيار الجهادي في التاريخ المعاصر، إذ "روّجت المملكة منذ طفرة النفط في سبعينيات القرن الماضي لتفسيرها الوهّابي المحافظ للإسلام في العالم. وأضحت منذ ثمانينيات القرن الماضي منبعا أساسا للمقاتلين ومورِدا ماليا للفدائيين المسلمين سواء في أفغانستان أو البوسنة أو الشيشان وغيرهم من المناطق".
بيد أن سمعة المملكة قد تضررت بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001 كونها موطن أسامة بن لادن زعيم القاعدة، فضلا عن خمسة عشر من تسعة عشر رجلا نفّذوا عمليات سبتمبر/أيلول، حتى أضحت المملكة في نظر الكثيريين مرادفا لصعود التطرّف الإسلامي والمسؤولة عنه في القرن العشرين.
يواصل "هيغهامر" رصد قدرة المملكة في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية في القرن الماضي، وهو ما شَكّل نواة جيل المجاهدين في البلدان المحتلة البعيدة مثل البوسنة وأفغانستان والشيشان، وقد أدى هذا بدوره إلى عملية تعميم الجهاد وتحويله إلى قضية عالمية، وهي القضية التي تولى النفاح عنها الشيخ "عبد الله عزام" ودعمها السعوديون في هذا الوقت، ليُرسل آلاف الرجال وعدد من المليارات للجهاد الإسلامي قبل أن تتحول هذه العمليات بعد موت عزام إلى الداخل العربي في مقاومة الأنظمة المتحالفة مع الأميركان بما فيها نظام آل سعود.
يواصل الكتاب استعراض العوامل التي ساعدت على تكوين تيار إسلامي عسكري ومكنته من البروز في المملكة رغم ما تتمتع به المملكة من خصوصية عرقية وجغرافية متباينة عن البلدان التي ظهرت فيها هذه التيارات من قبل، مثل مصر واليمن.
يصل المؤلف إلى أن "ابن لادن" قد طور في أواسط التسعينيات فكرة الجهاد الكلاسيكي للمحتل وحَوّله إلى قتال للحكومات الفاسدة [أ] وهو ما خلق مُسلّحين منتمين إلى تنظيم القاعدة في المملكة وقاموا باستهداف عدد من الأهداف الأميركية على الأراضي السعودية، إذ كانت "المصالح الغربية هدفا لعامة هجمات هذا التيار، لكنه لم يستهدف وزيرا أو قصرا ملكيا أو مبنى حكوميا، ودأب تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على إصدار منشوراته بتبرير أفعاله للثأر دفاعا لعدوان أميركا على العالم الإسلامي".
قد استغرق الكتاب أربعة أعوام من المقابلات الميدانية بين عامي 2004 و2008 مما يجعله مرجعا مهما لاستكشاف الجهاديين داخل المملكة وتطوراتهم.
"ليس في المملكة علمانيون يطالبون بفصل الدين عن الدولة.. كل إنسان في المملكة يدرك أن الدولة قامت على الدين ولن تبقى لحظة واحدة إذا فُصلت عنه"
(غازي القصيبي)
عكفت "أميلي لورونار" في رسالتها للدكتوراه حول دراسة استقصائية عن المرأة ووضعها في المجتمع السعودي والتي كان عنوانها "النساء والفضاءات العامة في المملكة العربية السعودية"، إذ تتمتع قضية المرأة بطبيعة خاصة في السعودية، وكثيرا ما تكرر النقاشات حول وضع المرأة في الداخل السعودي من الموقف الديني وتعليم النساء والأحقية في قيادة السيارة والمشاركة المجتمعية، وهو ما يجعل سؤال المرأة حاضرا على الدوام في الداخل السعودي.
لا تتوقف "لورونار" على الرصد للسجال الثقافي والهوياتي للمرأة، بل تتجاوز ذلك إلى تطورات هذه القضية في السياق الاجتماعي والاستهلاكي، إذ تعتقد "لورونار" بانتشار الاستهلاكية عند المرأة السعودية، وهو ما أدى إلى إنشاء مراكز للتسوق خاصة بهن ومنتجعات وتكتلات نسائية. وتُعرج الكاتبة على مساحات الفضاء النسائي في المملكة ودعاوى عمل المرأة وتحقيق الذات، وتتبع الزي النسائي في السعودية ورمزيته بالتحليل.
قضت "لورونار" وقتا طويلا في سماع المرأة السعودية محاولة الوصول إلى تفسير وضعية المرأة في الداخل السعودي، ولتُقرب في أُطروحتها واحدة من أهم قضايا الخلاف بين الإسلاميين والحداثيين في السعودية، أي قضية المرأة وما يتصل بها من مشاكل حقيقية كانت أو مفتعلة.
____________________________________________
الهوامش:
أ) ينبغي التنبه للدور الذي لعبه أعضاء جماعة الجهاد المصرية في هذا التحول وعلى رأسهم أيمن الظواهري.