انتبه!.. عقل طفلك يتعرض للاختراق عبر الألعاب والقصص

midan - طفل

في إحدى المكتبات، يقف الأب فرحا بطفله الصغير الذي تفوق في دراسته، يتوقف الطفل أمام قسم "أدب الأطفال" لينتقي وجبة أدبية مخصصة له، يختار الطفل حينها روايتين أجنبيتين وفق لغته المفضلة.. ولأن الطفل تفوق هذا العام في مدرسته، اشترى له والده لعبة الفيديو الجديدة "Assassin’s Creed" كما وعده. ولكن هل يعرف الآباء حقا ما الذي يدخلونه لأولادهم في بيوتهم من الروايات والألعاب الإلكترونية تحت أسماء فضفاضة ومضللة كـ"قصص وألعاب الأطفال"؟

هل أدب الأطفال حقًا بهذه البراءة المتخيلة؟
إذا كنت تشتري لطفلك الكتب الصغيرة والأفلام بشكل عشوائي، بدون قراءتها والاطلاع عليها – نعم قراءتها وبدقة- فلا بد لك أن تتوقف قليلا لتجيب عن السؤال الآتي: هل ما أشتريه لطفلي بريئ فعلا؟ وهل هي قصص يمكن أن تصنف ضمن الأدب الأبيض؟ يقدم كثير من الآباء ومقدمي الرعاية الكتب المخصصة للأطفال كطريقة للتسلية، أو تمضية الوقت، أو لتعليم أطفالهم طريقة تصرف محددة، ولكن ما ينقله أدب الأطفال للأطفال مختلف قليلا عما نتصوره نحن،  فمن خلال أدب الأطفال يتم تمرير مفاهيم أساسية للغاية للطفل ويتم تشكيل مجموعة من المفاهيم الفلسفية عن العالم، حيث إن القصص "تعد مصادر رئيسية للصور والمفردات والسلوكيات والتركيبات والتفسيرات التي نحتاج إليها لكي نتأمل التجربة.."[1]،

          

يمكن أن تكون كتب الأطفال
يمكن أن تكون كتب الأطفال "تنويرية" بالنسبة لنا نحن الكبار، حيث نكتشف عن طريقها بعض الأفكار التي تبدو بسيطة ولكنها غرست داخلنا عميقا حتى لو لم نكتشف وجودها
       

وهذا طبيعي في إطار أن الكتابة للأطفال لا تنشأ من العدم، بل تخرج من إطارات فلسفية ثقافية أكبر وأكثر تعقيدا، حيث إن القصص تمتد عادة عبر الثقافات النخبوية والجماهيرية، الرسمية وغير الرسمية، المنزلية والمؤسسية، فكتب الأطفال يمكن أن تكون دليلا موثقا للعلاقات السياسية والسلطة، وكيف يمكننا التعامل معها، على سبيل المثال كيف ينظر الكاتب -وكيف يمرر للأطفال- مفهوما مثل الاستعمار، أو الحرب، أو العلاقات بين الجنسين، أو الأسرة، أو الدين وغيرها من مئات المواضيع التي يتم تمريرها للأطفال عبر الكتب الهادئة.

    

ولنفهم القضية بصورة أعمق، هل كنت تقرأ قصة ما لطفلك، أو تحكي حكاية قبل النوم، أو تشاهدون فيلما، وتجد أن سيلا من الأفكار والذكريات والمشاعر الجارفة يغمرك؟ تي اس إليوت يجيبك عن هذا.

    

".. يمكننا -إذا ما اخترنا أن نسترخي إلى هذا الحد- أن نغرق في ترف ذكريات الطفولة، ولكن إنّ كنا وصلنا لمرحلة النضج و الإدراك، فإننا سنرفض أن ننغمس في هذا الضعف بدرجة الكتابة أو نظم الشعر عنه. إننا نعلم أن الطفولة أمر يجب "دفنه" ونسيانه، رغم أن "جثمانها" يمتلك العزيمة لأن يظهر على السطح من وقت لآخر"

(تي إس إليوت)

    

يقدم إليوت في نقاشه مع هنري فون[2] تصورا عن الطفولة بوصفها "جثمان"، إلا أن قدرة هذا الجثمان على الظهور مرارا وتكرارا إنما يقدم اعترافا بأن طفولتنا مستمرة في الوجود حتى بعد انقضائها، وهو ما يمكن أن نفكر فيه كدائرة مغلقة، حيث يتم توارد الأفكار والفلسفات والثقافات وحتى الأيدولوجيات- ولو بشكل نسبي- عبر دائرة مغلقة بين الكبار والصغار، ويمكن أن تكون كتب الأطفال "تنويرية" بالنسبة لنا نحن الكبار، حيث نكتشف عن طريقها بعض الأفكار التي تبدو بسيطة ولكنها غرست داخلنا عميقا حتى لو لم نكتشف وجودها، مثلا: قراء أدب الأطفال الصادر في القرن التاسع عشر "أدب المغامرات والاستكشاف" كيف ينظرون لحركة الاستعمار؟ وبشكل أكثر قربا زمنيا: كيف ينظر أطفال القرن الواحد والعشرين وقراء قصص مثل "صبي يقابل صبيّا[3]" – وهي رواية تدور أحداثها في مدينة فاضلة للشواذ ويرويها بطل القصة مثلّي الجنس -لفكرة "تربية أطفال لأبوين من نفس الجنس؟" أو الشذوذ عموما، هل يتوارد لذهنك أمثلة إضافية؟ يمكنك أن تجد مع نفسك عشرات الأمثلة…

          undefined

       

هنا يمكننا القول إن الأيدولوجيات والفلسفات يتم تقديمها في أدب الأطفال بشكل أكثر صراحة وفجاجة مما يتم تقديمه في نصوص شبيهة مقدمة للكبار، فمع تطور القدرات النقدية لدى الكبار، يصبح من الصعوبة بمكان تقديم أيدولوجيات أو فلسفات بهذه الفجاجة.. بالإضافة إلى قدرة أدب الأطفال الهائلة للعمل خارج الأجهزة الرقابية سواء الثقافية أو الشخصية، فحسب كيمبرلي رينولدز، "كان لأدب الأطفال في القرن الماضي دور في تثبيت الأنماط التقليدية الخاصة بالجنس والمنزلة الاجتماعية والعرق بما في ذلك بعض النزعات الإجرامية والعنصرية، وهو ما قوبل بحملات قوية لمجابهة هذه النزعات، رغم أن المدى الذي يمكن لأدب الأطفال أن يصل إليه في تشكيل نزعات وتوجهات الأطفال العقلية والاجتماعية غير معترف به حتى الآن […] كما أن الطبيعية التشكيلية لأدب الأطفال غير معترف بها أو يتم التغاضي عنها"..

          
إن ما يقرأه الطفل في طفولته لا ينمحي حتى لو ظن الطفل سابقا/البالغ حاليا لوهلة أنه قد نسيه، يظل في اللاوعي مؤثرا على سلوكه وتفضيلاته الشخصية، وبما أن قصص وأدب الأطفال بشكل عام تعمل كحلقات وصل بين الحاضر والماضي، وتعزز بعض الأفكار التقليدية بشكل غير نقدي، فيمكننا إذن أن نفكر في القصص التي سمعناها صغارا كيف شكلت أفكارنا حول "العيش في سعادة أبدية" أو "الأمير الذي يقبل الفتاة النائمة لينقلها للسعادة التامة"، وكيف تتداعى هذه الأفكار وبشكل غير واع لنفوسنا أحيانا، ولكن في نفس الوقت يمكن لكتاب القصص والروائيين أن يقدموا صياغة جديدة لفلسفات العالم والقوة وغرس بذور التغيير الاجتماعي عن طريق تقديم سردية جديدة برؤية مغايرة للقديم، وهو ما تم فعلا في إعادة صياغة لبعض القصص التي تحمل بعض القيم الغربية مثل "المساواة الجندرية"، فقدرة قصص الأطفال على تقديم رؤية مغايرة كانت محط إجلال وتقدير من والتر بنجامين[4]، وهو عالم اجتماع وفيلسوف وناقد أدبي يهودي ألماني، وهو أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت في النظرية النقدية، حيث عدّ قصص الأطفال التي تقدم سرديات مغايرة وجديدة كأحد أهم طرق مقاومة أساليب التفكير التقليدية التي تٌقدم عبر المؤسسات التعليمية التقليدية.

            

العلاقات في أدب الأطفال بين الاستعمار والهيمنة
إن الأطفال غير قادرين على التعبير عن أنفسهم، وبالتالي يقدم لهم أدب الأطفال كتعبير من الكبار عن الصغار
إن الأطفال غير قادرين على التعبير عن أنفسهم، وبالتالي يقدم لهم أدب الأطفال كتعبير من الكبار عن الصغار
          
إذا كنت من جيل التسعينيات وآخر الثمانينيات فإنك لا بد أن تتذكر تترات الأغاني الفصيحة التي قدمتها قناة "سبيس توون" للأطفال، أنشأت علاقة  ليس فقط بين الأطفال والأغاني، بل بين الأطفال وصاحب الأغاني، فمن المهم أن نشير لشكل العلاقة التي تنشأ بين الطفل وما يقرأه أو يتلقاه على شكل "أدب أطفال" ففي أدب الأطفال لا تكون العلاقة بين الطفل والكاتب علاقة ندّية أو متساوية بل هي علاقة بين طفل وبالغ، وهو ما يُحمّل الكاتب مسؤولية هائلة عن كيفية استخدام سلطته، وكيف يقدم ما لديه سواء من ناحية المعلومات أو اللغة أو العاطفة، فعلى سبيل المثال أشارت روبرتا سلينجر ترايتس إلى أن "أدب الأطفال يحاول احتواء قوة واستقلال الشباب من خلال التأكيد على خطورة تحدي الوضع القائم"[5]، كما قدمت جاكلين روز في كتابها حالة بيتر بان: استحالة أدب الأطفال – The Case of Peter Pan, Or the Impossibility of Children’s Fiction – تصورا لعلاقة الأطفال بالكاتب، حيث أشارت إلى أنها "علاقة يغوي فيها الكتّاب القراء الصغار ويوقعونهم في شراك بطرق تقلّل من احتمالات تحديهم لسلطة الكبار"[6]، وأشارت إلى استحالة وجود أدب للأطفال "بشكل حقيقي"..

       

كما كتب بيري نودلمان مقالا يعزز فرضية جاكلين روز بعنوان" الآخر: الاستشراق والاستعمار وأدب الأطفال"[7] حيث أشار إلى أن أدب الأطفال ما هو إلا أدب استعماريّ، يسيطر ويهيمن فيه الكبار على طفولة الصغار، بلفظ آخر، هو استعمار الكبار لطفولة الصغار، في هذا المقال استعان بيري نودلمان بمنهج إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، حيث كتب إدوارد سعيد عن الاستشراق كوسيلة لاستعمار المشرق بصفتهم أناسا غير قادرين على التفكير أو التعبير أو تحليل أنفسهم، وبالتالي كان الاستشراق ضروريا، والتعامل معه باعتباره أمرا أخلاقيا ووجوديا، وباعتبار أن هذا النقص وعدم القدرة على التعبير هو نقص متأصل في المشرق، ويمكننا هنا ملاحظة مدى تشابه هذه الفكرة مع فكرة أن الأطفال غير قادرين على التعبير عن أنفسهم، وبالتالي يقدم لهم أدب الأطفال كتعبير من الكبار عن الصغار.

               

undefined

                        

هذه العلاقة ليست منحصرة في ثنائية الكبار والصغار، فإذا كنت عربيا شابا ونشأت في مدرسة حكومية فإنك بالتأكيد قد رددت مع أصدقائك في مناسبة أو أخرى أغنية تمجد فيها حاكم دولتك، وهذه ليست صدفة، ولا من باب التسجيح للسلطة، إذ يمكن للأدب أيضا أن يكون وسيلة لحشد الأطفال وتربيتهم على فكرة معينة، مثل الوطنية أو حتى الشوفينية، أو تمجيد الزعيم أو الدولة أو السلطة، وهنا يمكن أن نذكر ما كتبه الشاعر والفنان الإيطالي فليبو توماسو مارتيني في "مانيفستو حول أدب الأطفال"[8]، لدعم الفاشية، حيث قدم تفصيلا حول ما يجب أن يكون عليه أدب وكتب الأطفال "النموذجية"، واشترط أن تحتوي على رسالة الوفاء والبطولة التامّة، والشجاعة الجسدية والعمل الدؤوب، وهو ما استخدم فعلًا لنقل رسالة موسيليني للأطفال الصغار..

                

الاختيارات الأخلاقية في أدب الأطفال
الآن يمكننا أن نعود مرة أخرى لصديقنا الذي اشترى لعبة الفيديو لطفله كهدية، لنتحدث عن الألعاب الإلكترونية المقدمة للأطفال باعتبارها جزءًا من أدب الأطفال، إننا أحيانا كآباء ومقدمي رعاية ننظر للألعاب الإلكترونية كأداة لتسلية الصغار، وبشكل منفصل عن أي قيمة أخلاقية أو فلسفية، وقت يشغل الأطفال الصغار عن الزن والإلحاح، يطلق ضحكاتهم ويسليهم بعيدا عن الآباء المشغولين في شيء ما، ولكن هل هذه الصورة البريئة حقيقية؟ الحقيقة أن لعب الأطفال تحتوى على الكثير والكثير من الخيارات الأخلاقية والفلسفية والتي يتوجب على الطفل إنجازها والتحيّز لها من أجل إتمام اللعبة أو الدخول في مرحلة جديدة، وكمثال يمكننا أن نتحدث عن لعبتي "أسانسز كريد Assassin’s Creed[9]"
      
undefined       
                  
فاللعبة تدور في حقبة الحملات الصليبية، في الأراضي المقدسة وايطاليا، وفي بيئة إلكترونية مثيرة تحفز على الانغماس، هذه اللعبة أشرف عليها إومبيرتو إيكو- (Umberto Eco) الباحث في تاريخ العصور الوسطى والروائي المشهور من أجل خلق أدوار للاعبين، خلق هذه الأدوار تعني انغماس الأطفال في اتخاذ قرارات أخلاقية ومعقدة ومتعددة المستويات، بالإضافة لاحتواء اللعبة بالطبع على القتل والإعدام والاغتيال وإيذاء أشخاص آخرين والتعذيب..وبالتالي على البطل/ طفلك في هذه الحال، القيام باختيارات تتعلق بالإيذاء والقتل، وهنا يمكن أن نطرح سؤالا عن أخلاقية إجبار الأطفال -ولو بشكل غير مباشر- على القيام باختيارات أخلاقية والضغط عليهم نفسيًا من أجل اختيار قرار بالقتل أو التدمير فقط لاجتياز مرحلة أو خطوة من اللعبة، خاصة أن انغماس الأطفال في اللعبة يعني فقدان "لحظي" بإحساسهم بوجودهم وتقمص وتلبسّ شخصيات أخرى، هي في الأصل وهمية، فهل ينهمك طفلك في اللعب العنيف بعد إنتهائه من لعبة الملاكمة على الأجهزة الإلكترونية ؟- نعم هذه هي الإجابة.      
               
إننا عندما نتحدث عن الثقافة أو الفلسفة أو الأيدولوجيا التي يمكن أن تحملها أدب الأطفال، لا نقول إنه يجب تقديم أدب أبيض بلا أيدولوجيا، أو أدب بلا فلسفة، فكل ما يقدم للأطفال إنما يتلبّس حتما بروح صاحبه، وقيمه، فحتى لو كان الأدب المكتوب للطفل يدربهم على تحمل المسؤوليّة والقيم الأخلاقية الحميدة وتدريبهم على التفكير والتحليل، من أجل الوصول لوعي أخلاقي – حتى لو كان كذلك- فإن هذا نفسه يحمل موقفا أخلاقيا وفلسفيا، وبهذا فإن المطلوب ليس حجب الفلسفات والثقافة عن الأطفال، بل أن نكون أكثر وعيا بما نقدمه لأطفالنا، ونسأل أنفسنا عن الرسالة الخفية الذي نقدمها بأيدينا لأطفالنا، هل يتوافق معنا؟ مع ثقافتنا؟ ومواقفنا الأخلاقية؟ هل هو ما نرضى عنه أن يشكل أطفالنا؟ هل ما نقدمه لأطفالنا يشكل ضغطا نفسيا لا ينبغي لهم أن يتعرضوا له في هذا السن؟
المصدر : الجزيرة

إعلان