شعار قسم ميدان

لغز الوجود.. كيف نشأ الدين؟

midan - مسجد وكنيسة

"لقد وُجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بلا ديانة"

(هنري برجسون)

اضغط للاستماع

 

لا مسألة تشغل الإنسان منذ فجر التاريخ ممارسةً واعتقادًا، ومؤخرًا: دراسةً، مثل مسألة الدين. تشكّل ظاهرة الدين حدثًا إنسانيًا فريدًا، فهناك في التاريخ حضارات بلا فنون، وحضارات بلا تقدم مادي، لكن ليس هناك حضارة بلا دين(1). في إطار هذه الظاهرة الفريدة بدأت الدراسات تبحث عن بذور فكرة الدين في التاريخ الإنساني، كيف بدأ الدين؟ وما هي أولى دوافع ظهور الدين؟ وكيف استطاع الإنسان الإيمان بمنظومات عقائدية صلبة؟

 

ما هو الدّين؟

حاول كثيرٌ من العلماء وضع تعريفات لمصطلح "الدّين" ابتداءً، ومن الملاحظ في السياق الإسلامي أن الحضارة الإسلامية لم تهتم كثيرًا بوضع تعريف للمصطلح مقارنةً بالحضارة الأوروبية على وجه الخصوص، يوضح أستاذ العقيدة محمد كمال جعفر السبب قائلًا: "إن التعريفات التي قُدمت في المحيط الإسلامي كثيرة وإن لم تبلغ الكثرة التي توجد في المحيط الغربي، نظرًا لأن المحيط الإسلامي كان يتضح فيه المفهوم ولم تكن الحاجة إلى التعريفات ملحّة"(2).

 

في اللغة العربية، تعني كلمة "دين" من الناحية اللغوية عدّة معانٍ، منها: الطاعة والخضوع والسياسة والقهر والجزاء والحساب والحكم والعادة(3)، أمّا في الاصطلاح، فيعرّفه شيخ الأزهر الأسبق إبراهيم الباجوري بأنه "وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات(4).

رأى جون ستيوارت مل أن "جوهر الدين هو الاتجاه القوي المتحمس للعواطف والرغبات نحو هدف مثالي يعتبر أسمى وأشرف من كل غرض أناني أو رغبة ذاتية

لكن يبدو أن التعريف العربي لكلمة "الدين" لا يختلف كمّا عن التعريف الأوروبي لكلمة (Religion) فحسب وإنما يختلف نوعًا كذلك، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى اختلاف السياقات الثقافية التي نشأ في تربتها المصطلح، كما أن فكرة إخضاع الدّين للدراسة الوضعية الاجتماعية كانت فكرة منبوذة؛ حيث إن الدين يمثل الجانب القدسي من حياة الأفراد، وما يحمله الدين في طياته من نفحات إلهية وأساطير غير منظورة تضفي عليه نوعًا من السموّ جعله بمعزل عن الدراسة بذاته(5). لكن مع التمرّد على الأنماط الدينية السائدة في أوروبا خصوصًا مع الثورة الفرنسية 1789م، بدأ المفكّرون في اتخاذ الدين موضوعًا للدراسة والنظر إليه مثل أي ظاهرة إنسانية تاريخية.

 

في السياق الغربي إذن، رأي جون ستيوارت مل أن "جوهر الدين هو الاتجاه القوي المتحمس للعواطف والرغبات نحو هدف مثالي يعتبر أسمى وأشرف من كل غرض أناني أو رغبة ذاتية"(6). أمّا وليم جيمس فيقول إنه "الطريقة التي تظهر بها ردود أفعال الإنسان تجاه الحياة، حينما تكون ردود الأفعال هذه منبعثة من سموّ نفس متأثر بسحر قوّة أعظم من الإنسان نفسه" (7)، وفي الفلسفة المثالية يعرّف هيغل الدين بأنه "معرفة تكتسبها النفس (أو الروح) المحدودة، لجوهرها كروح مطلقة"(8). وأخيرًا يرى هربرت سبنسر أن الدين هو "الإحساس الذي نشعر به حينما نغوص في بحر من الأسرار"(9).

 

من الدين إلى علم الأديان

تتفق أغلب التعريفات الغربية للدين إذن على عدم ضرورة وجود ذات إلهية خالقة يخضع إليها المتديّن ويمتثل إلى شريعتها، وإنما قد يشمل الدين فكرة مجرّدة أو قوة روحية أو اعتقادات ميتافيزيقية أو نحو ذلك. هذه تعريفات الدّين، فماذا عن مكوّناته؟ يرى الباحث خزعل الماجدي أن الدين يشمل أربعة مكوّنات رئيسية: المعتقد، أي الجانب الفكري والأفكار الدينية، والأسطورة، أي الحكاية والمرويات المقدسة، والطقس، أي الشعيرة والجانب العملي من الدين، والأخرويات، أي كل ما يتعلّق بالموت وما بعد الموت(10).

مع تفرّع الفلسفة إلى عدّة علوم واستقلال كل حقل معرفي بمسار علمي ومنهجي وحده، تأسس علم الأديان في أواخر القرن التاسع عشر على يدّ ماكس مولر أوّل من وضع مصطلح (علم الأديان) في كتابه (المدخل إلى علم الأديان)، وقد حرّر مولر كتابه (الكتب المقدسة للأديان الشرقية) الذي ظهر في 51 مجلّدًا(11). ومنذ تناول الدين كموضوع للدراسة، بدا السؤال ملحّا: كيف نشأ الدين ابتداءً في التاريخ الإنساني؟

 

التديّن كظاهرة اجتماعية

هل الديّن أمر فطري في الإنسان وُلد به ملازمًا له، أم أنه ظاهرة مستحدثة وعرض طارئ في التاريخ الإنساني؟ أنكر بعض المفكّرين تلازم الإنسان والدّين، فادّعوا أن الدين ظاهرة مستحدثة على الفكر والتاريخ الإنسانيين، لم تصحب ظهور الإنسان وإنما جاءت لاحقة عليه. من ضمن هؤلاء المفكّرين المنكرين لفطرية الدين هو الفيلسوف الفرنسي فولتير الذي جادل بأن "الإنسانية لا بد وأن تكون قد عاشت قرونًا طويلة في حياة مادية خالصة، قبل أن تفكر في مسائل الدينيات والروحانيات"(12). ويوافقه المفكّر الألماني كارل ماركس بمقولته المشهورة "الدين أفيون الشعوب"، فبالنسبة لماركس، لم يكن الدين أكثر من وسيلة اخترعها ملّاك وسائل الإنتاج ليسيطروا بها على الطبقات الفقيرة ويمنعونها من الثورة على الطبقة الحاكمة التي تمتص طاقاتهم وتنهب ثرواتهم فتلجأ إلى تخدير الشعب لتقليل معاناتهم ومن ثمّ الحرص على عدم تمرّدهم.

 

لكن يبدو أن هذه التصوّرات البدائية للدين قد تجاوزها الزمن، يقول الشيخ محمد عبدالله دراز إنه "لم ينقض القرن الثامن عشر حتى ظهر خطأ هذه المزاعم، حيث كثرت الرحلات خارج أوروبا واكتشاف العوائد والعقائد والأساطير المختلفة، وتبيّن أن فكرة التديّن فكرة مشاعة لم تخلُ عنها أمة من الأمم في القديم أو الحديث"(13). الأمر الذي يقرّه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون قائلًا: "لقد وُجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بلا ديانة"(14).

 

وقد عبّر عن هذه الحقيقة أيضًا معجم (لاروس) للقرن العشرين بقوله: "إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدّها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي،وبما فوق الطبيعة، هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية، وإن هذه الغرائز الدينية لا تخفى بل لا تضعف ولا تذبل إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جدًا من الأفراد(15). هذه النزعة للتساؤل هي النقطة المحورية التي اعتمد عليها الفيلسوف الفرنسي برتلم يسانت هيلار ليرسّخ حقيقة أن ظاهرة الدين ملازمة للجنس البشري في التاريخ، فقال موضحًا: «ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاء؟ من صنعهما؟ ما نهايتهما؟ وما الموت؟ وماذا بعد الموت؟.. هذه الأسئلة لا توجد أمّة، ولا شعب، ولا مجتمع، إلّا وضع لها حلولًا جيّدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحوّلة(16).

كيف نفسّر نزعة التديّن الإنسانية؟

كتاب "فكرة المقدّس" للاهوتي الألماني رودولف أوتو  (مواقع التواصل)
كتاب "فكرة المقدّس" للاهوتي الألماني رودولف أوتو  (مواقع التواصل)

يبدو إذن أن التديّن هو غريزة ملازمة للإنسان منذ أن كان الإنسان إنسانًا. فما سبب وجود هذه الغريزة في الإنسان؟ في كتابه المهمّ "فكرة المقدّس"(17) يفسّر اللاهوتي الألماني رودولف أوتو سبب شيوع نزعة التديّن هذه على مدار التاريخ والجماعات الإنسانية بأسرها، فيقول إن الإنسان دائمًا ما ينتابه شعور بالنقص وعدم الكمال ممّا يجعل إحساسه المستمرّ بالانتماء يضغط عليه، أو حاجته الدائمة إلى الاستكمال، وهو ما أسمّاه أوتو الشعور بالمخلوقية (Creature-Feeling).

 

أمّا علماء الإسلام فقد استقرّوا على أن الدين من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، يعبّر شيخ الإسلام ابن القيّم عن افتقار الإنسان إلى التنفس من أمارات نقصه وعدم كماله فسمّاه بنَفَس الاضطرار، فقال موضحًا: "أمّا نَفَس الاضطرار فذلك لانقطاع أمله ممّا سوى الله، فيضطر حينئذ بقلبه وروحه ونفسه وبدنه إلى ربه ضرورة تامة، بحيث يجد في كل منبت شعرة منه فاقة تامة إلى ربه ومعبوده، فهذا النفس نفس مضطر إلى ما لا غنى له عنه طرفة عين"(18).

 

نشأة الدين.. المذاهب التطورية

على الجانب المقابل للإسلام يعتنق بعض الباحثين رؤية تطوّرية ويعمّمونها على الاجتماع الديني الإنساني بأسره، فيرون أن أصل الأديان بدأ من فكرة انبثقت إما من أفراد وإما من جماعة بشرية ما ثم تفرعت عنها جميع الأديان في التاريخ، ما يعني -وفقا للرؤية التطورية- أن الدين لا حقيقة خارجية له، وإنما هو منتج إنساني محض مثل أي منتج فكري أو إنساني آخر. تنوّعت المدارس التطورية في تفسير أصل الأديان، أهم هذه المدارس هي المذهب الحيوي (Animism)، والمذهب الطبيعي (Naturism).

ذهب أتباع المدرسة الحيوية إلى أن الإنسان البدائي كان يرى في أحلامه أنه يتفاعل مع كائنات حية كما لو كان في الواقع بالضبط، فعظّم النفوس البشرية التي يراها في أحلامه، واعتبر النفوس الميتة التي يراها في الأحلام أنها أطياف لأرواح الأموات، ومن ثمّ اتجه الإنسان إلى تقديس أرواح أسلافه واعتقد أن فيها قوى خارقة خيّرة أو شريرة وعظمها كما يعظم المؤمنون بالله إلههم (19)، فاعتقد فيها أنها تسبب الألم أو تجلب السعادة، وكلما تقرب المرء من هذه الأرواح وقدم لها القرابين استدعى الأرواح الطيبة، وكلما عمل الإنسان على غضب هذه الأرواح واستجلاب سخطها كلما أصابته بسوء وأذى(20).

 

أمّا المذهب الطبيعي فرأى أصحابه بأن الإنسان البدائي رأى أن الكائنات الحيّة جميعها تخضع لقوى الطبيعة ولا يستطيع أي كائن التحكّم فيها أو تعديل نظامها، فاجتمع لدى الإنسان البدائي شعور مؤلّف من الدهشة والإعجاب رأى به الكون أشبه بالمعجزة(21). وذهب بعض أتباع هذه المدرسة إلى أن الأحداث الفجائية للطبيعة مثل الزلازل والبراكين والطوفان والصواعق أرهبت الإنسان البدائي وملّكته شعورًا بالخوف ومن ثمّ انبعث ولاء الإنسان إلى قوى الطبيعة خوفًا من بطشها ليتقي شرها ويستدر عطفها، فأصبحت قوى الطبيعة آلهة تُعبد بحدّ ذاتها(22).

 

نشأة الدين.. المذاهب المؤلهة

توجهت أقلام النقد إلى النظريات التطورية مع توالي الاكتشافات والبحوث الأنثروبولوجية، فعلى سبيل المثال، يقول عالم الآثار المصرية السير فلندرز بيتري، موجًها نقده إلى المذهب الحيوي بعد اكتشاف أديان توحيدية تسبق ديانات الأرواح (Animism): "في الأديان القديمة توجد مراتب مختلفة للآلهة، فمثلا في الهندوسية الحديثة توجد أطنان من الآلهة وأنصاف الآلهة، وهي تزداد بشكل مستمر حتى صاروا الآن بالملايين، بينما في بعض الشعوب الأخرى لا توجد عندهم عبادة الآلهة، وإنما توجهوا نحو الأرواحية، حيث كانوا يعتقدون بوجود أرواح مستقلة كالشياطين، إلا أن طبيعة هذه الأرواح وصفاتها تختلف تمامًا عن صفات الإله العظيم، فلو كان الإيمان بإله واحد تطورًا عن الإيمان بالأرواح وعبادتها لوجدنا أن الأخيرة تسبق الأولى، والواقع يكذب ذلك)(23).

الرؤية الإسلامية تقرّ بأن الديانة منذ خلق الله آدم هي الإسلام، كما في الآية الكريمة: {إِنَّ الدِّينَ عِندَاللَّهِ الْإِسْلَامُ}، ثمّ انحلت هذه العقيدة مع تطوّر الزمن

 

يرى الفيلسوف الألماني فريديرك شلنغ في كتابه "فلسفة الميتولوجيا" أن فكرة التوحيد هي التي كانت تسود الإنسانية الأولى، ثم انتقلت الإنسانية إلى التعدد والشرك، وهامت في بحار من الأساطير عن تعدد الآلهة وتكثرهم(24). الأمر الذي يتفق فيه معه عالم الآشوريات البريطاني ستيفن لانغدون قائلًا: "إن تاريخ الحضارة الإنسانية القديمة تزامن مع تدهور التوحيد إلى الوثنية والاعتقاد بالأرواح والأشباح، إن هذا يشكل انحطاطًا للإنسان بمعنى الكلمة".

 

وكما هو متوقع فإن الأديان تتفق وهذه الرؤية، فمثلًا: يقول الأستاذ بجامعة أوكسفورد السير مونير ويليزامز: "التوحيد متقدم على كل صور الشرك التي ظهرت لاحقًا، فالديانة الهندية مثلا بدأت بحسب نصوص الفيداس بالتوحيد ثم تحللت إلى صور متعددة للشرك"(26). أمّا الرؤية الإسلامية فتقرّ بأن الديانة منذ خلق الله آدم هي الإسلام، كما في الآية الكريمة: {إِنَّ الدِّينَ عِندَاللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]، ثمّ انحلت هذه العقيدة مع تطوّر الزمن، كما في الحديث النبوي الشريف: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" (27).

المصدر : الجزيرة