شعار قسم ميدان

مجزرة رابعة والنهضة.. كيف أسس السيسي لشرعيته بالمعارك؟

"همي هو القضاء على الجهل والفقر من أجل استعادة الدولة الحديثة. فالدولة المصرية الحديثة بدأت في عهد محمد علي، ثم توقفت وسقطت. وعادت من جديد في عهد عبد الناصر وسقط المشروع عام 1967، وما نراه الآن هو آثار وامتداد لما جرى عام 1967. أريد إقامة ركائز للدولة الحديثة وهي الركائز التي وُئدت، فأول خطة خمسية (1962/1967) كانت هي آخر خطة حقيقية"
(السيسي أثناء حواره مع الصحفي ياسر رزق)

حسب إريك تراغر(*) -وهو مساعد باحث في معهد واشنطن–  فإن ثورة يناير 2011 لم تقم لهدم الدولة(1)، بل إنها وكل ثورات الربيع العربي من تونس حتى اليمن، قامت لتنادي بتأسيس دولة الديمقراطية والقانون، وتطالب بالحد الأدنى لدولة الرفاه "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".

لكن، وفي حين نادت ثورات الربيع العربي ببناء دولة القانون والحريات، كانت الدولة العربية في حالة انهيار تبعا للحالة التي كانت مؤسسات الدولة الأمنية حينها تمر بها(2)،  حيث كان تعرض الجهاز الأمني للدولة العربية لحالة انكسار نتيجة موجة ثورات الربيع العربي تهديدا لبنية الدولة العربية نفسها، والتي كانت تحافظ على هيبتها أمام الشعوب العربية عن طريق تجبرها وقوتها الأمنية(3).

استمر حال الدولة في هذا التخبط أثناء حكم المجلس العسكري في مصر وأيضا بعد تولي محمد مرسي حكم مصر(4)، حتى جاء السيسي ليحقق مهمة محددة، وهي إعادة  التأسيس للدولة المصرية المرتخية والمنكمشة جراء ما حدث في يناير 2011، وما تبعها من أحداث، والتأسيس للدولة لن يتم إلا بإعادة السيطرة على المخيال الاجتماعي للشعب، بإعادة تجميعهم حول الدولة مرة أخرى، وإعادة بناء جدار الخوف الذي عَمِلت ثورة يناير على هدمه.

حيث أكد السيسي في مؤتمر له(5)، خلال كلمته بجلسة آليات مواجهة فشل الدولة، بالمؤتمر الوطني الرابع للشباب بالإسكندرية، أن "محاور حركة إستراتيجيتنا ورؤيتنا تجاه تثبيت الدولة المصرية خلال السنوات الأربع الماضية، كانت تسير عكس عوامل هدم الدولة، وضد العوامل الهادفة لتدميرها". وأضاف "أنه يجب أن يكون لدى الشعب فوبيا من إسقاط الدولة المصرية، ويجب أن يعمل الإعلام على هذا لحماية مصر من السقوط".

فكيف نجح السيسي في إعادة حشد فئات واسعة من الشعب حول الدولة مرة أخرى مستخدما العنف مثل "مذبحة فض اعتصامي ميداني رابعة والنهضة" وما تلاهما من أحداث لتثبيت فكرة "فوبيا إسقاط الدولة" والخوف من الفوضى؟

عنوان ميدان

"إدراك المرء لكونه في حالة حرب ومن ثم تتهدده الأخطار يجعل من تسليم كل السلطات لحفنة صغيرة من الناس أمرا طبيعيا وشرطا محتوما للبقاء على قيد الحياة"

                        (جورج أورويل  1984)

يذهب رينيه غيرار -عالم الاجتماع والأنثربولوجي الفرنسي- في كتابه "العنف المقدس" إلى أن هناك رغبة عنيفة توجد على الدوام تحت السطح الهادئ الذي يسوده التعاون السلمي الودود الذي يظهر على جماعة بشرية معينة(6)، وهذه الرغبة تحتاج إلى تنفيس خارج حدود الجماعة، ومن يطلق هذه الطاقات العنيفة الساكنة،  يريد أن يستأصل قشرة السكون الجماعي، تلك المساحة التي يُحظر فيها العنف، ويطلق طاقات العنف لأغراض محددة.

ويضيف غيرار أن "العنف، الذي يهدد سكون وطمأنينة الوحدة الجماعية، يُعاد تدويره سلاحا للدفاع الجماعي، وفي هذا الشكل الذي أُعيد تدويره يصير العنف شرطا لا غنى عنه، فلا بد من القيام به على الدوام لإعادة تعريف الجماعة، وإعادة فرض تماسكها(7)".

ولكي يُعاد ترسيم حدود أي (جماعة/أمة) وإعادة تعريفها لنفسها سواء من قبل السلطة الحاكمة أو من داخلها، يتم اختيار مجموعة من البشر يُفترض أنهم من داخل (الجماعة/الأمة) الواحدة(8)، "لكنهم يحتفظون بدرجة من الاختلاف سواء في العادات أو الثقافة تمنع أي لَبس ممكن، ثم يتم تحويل هذه المجموعة إلى عدو يهدد أمن (الجماعة/الأمة) واستقرارها الاجتماعي، فيتم شيطنتها وإعلان الحرب عليها، ومن ثم التضحية بها ككبش فداء أو قربان في سبيل إعادة التناغم بين (الجماعة/الأمة)، وتقوية النسيج الاجتماعي لها"(9).

بيد أنه ولكي يتم التنفيس عن تلك الطاقات العنيفة بغرض إعادة فرض حدود للجماعة البشرية، يجب أن يتم تفريغ ذلك العنف تجاه جماعة معينة بدوافع محددة، ومراسم رمزية تبرر ذلك العنف.

عنوان ميدان

يشرح غيرار على لسان زيغمونت باومان أنه يتم اختيار هذا (القربان/كبش الفداء) وتلك المجموعة البشرية بناءً على ما بينها وبين باقي (الجماعة/الأمة) من مشاحنات اجتماعية وتنافسات سياسية، "فلابد للمرشحين من أن "يكونوا في الخارج" ويشبهوا أعضاء الجماعة الشرعيين، لكنهم مختلفين قطعا. فالتضحية بهذه "الموضوعات البشرية"، تعني في نهاية الأمر رسم حدود صارمة لا يمكن تجاوزها بين "داخل" المجتمع وخارجه(10)".

وهذه "الموضوعات البشرية" يتم تقديمها قربانا مقدسا، "وتضحية بشرية على مذبح الوحدة الجماعية". وهذا الشكل لطقوس تقديم القرابين هو سعي إلى تخليد ذكرى الوحدة الجماعية التي تشكل لحظة انبثاق وإعادة تأسيس (الجماعة/الدولة) في التاريخ(11)".

ويذهب باومان تعليقا على دراسة غيرار أن ذلك الغياب للارتباط الاجتماعي لتلك المجموعة بأعضاء الجماعة الشرعيين، يتمتع بميزة أخرى. فالضحايا "يمكن ارتكاب العنف بحقهم دون الخوف من الثأر والانتقام"(12) فيمكن تعذيب الضحايا، وأن يفلت الجاني من العقاب، بل ويُعلن -على عكس المتوقع تماما- أن الضحية هو الجاني، ويرسم مقدرة الضحايا على سفك الدماء بأفظع الألوان، ويصدر بيانات تُذّكر بضرورة توحيد الصفوف، وضرورة حفظ قوة الجماعة ويقظتها الفائقة.

رابعة

وبرغم أن فكرة التضحية و"الدماء المقدسة" هي فكرة دينية سواء وثنية أو توحيدية، إلا أنها فكرة يتم استخدامها من قبل أكثر الجماعات ادعاءً للتنوير والعلمانية والتحضر؛ حيث على عكس الأديان يصبح سفك الدماء لديهم أكثر بشاعة وإجرامًا.

وهكذا اقتربت نظرية غيرار كثيرا من إدراك العنف المستفحل داخل الجماعات، خاصة التي تشهد نزاعا ما حول الهوية، ونوعا من غياب الحدود، لكن كيف تعمل إستراتيجية العنف على خلق تصور حي للجماعة وخلق صورة تخيلية لها؟

عنوان ميدان

يشرح باومان أنه لبناء تصور ذاتي لجماعة ما عن نفسها لا بد من وجود حدث تاريخي ما أو معركة أسطورية تحدد ميلاد الجماعة وانبثاقها في التاريخ، وفي حالة غياب هذا الحدث أو تناسيه بفعل تعاقب الأجيال فلا بد من تكرار حدث ما، سواء كان حقيقيا أو مفتعلا، تقوم الجماعة فيه بسفك الدماء والتضحية بكبش فداء من الأشخاص الحقيقين ليكون بمثابة رسم لحدود الجماعة وميلاد لها، احتفالا بتجديد العقد الاجتماعي غير المكتوب"(13).

وكما فعل محمد علي في مذبحة المماليك حين قضى عليهم داخل قلعته ليقضي على أي مراكز قوى خارج قلعته التي ستنبثق منها دولة مصر الحديثة الجديدة(14)،  فعل السيسي في مذبحتي رابعة والنهضة حين أطلق جيشه للقضاء على معارضيه السياسيين كما يفعل كاهن الجماعات البدائية حين يقوم بتقديم قربانه نحو الإله أو الطبيعة ليعيد تأسيس نسيج جماعته ويقويها ويحميها من الحروب والفتن.

"إن فكرة وجود جماعة ترتكب جريمة قتل حتى ينعم وجودها بالأمن والأمان، وتوحد صفوفها، إنما هي فكرة غير متسقة، فقبل ارتكاب جريمة القتل الأولى، لم تكن هناك صفوف حتى تتوحد، ولا وجود جماعي يمكن الحفاظ عليه في أمن وأمان"(15)، فالجماعة كانت مجموع والمطالب كانت متقاربة والمزاج العام مشترك، لكن يوضح باومان أن عملية القتل هي التي تحيي الحشود بتأكيدها على الدعوة للتضامن والحاجة إلى توحيد الصفوف عن طريق عملية فصل وإزاحة، تعيد رسم حدود الجماعة وتكتب عقد اجتماعي جديد بدماء الضحية في سجل تاريخ الجماعة البشرية.

لكن ولكي تستمر حالة الاستثناء تلك لإعادة شمل (الجماعة/الدولة) يشرح باومان "أن التضحية هي في الأساس فعل من أفعال العنف من دون مخاطر القصاص، لكنه فعل لم يكتمل، فحتى تتفعل التضحية، لا بد من إخفاء غياب المخاطرة بدقة أو إنكاره تماما، فلا بد من أن يخرج العدو من جريمة القتل سليما بين الحياة والموت، مثل زومبي مستعد للخروج من القبر في أي لحظة"(16).

هنا يظهر دور الذراع الإعلامي الذي تحدث عنه السيسي مؤخرا في بث "فوبيا سقوط الدولة"، فكلما كان العدو حيا أو بين الحياة والموت، كان هناك خطر يهدد (الجماعة\الدولة) فيتم إعادة عملية التضحية وتقديم القربان.

عنوان ميدان

يوضح آرنه يوهان وتلسن -عالم الاجتماع النرويجي بجامعة أوسلو- أنه وفي ظل غياب قواعد مؤسسية آمنة دائمة، فإن المتفرج غير المكترث يصير ألد أعداء الجماعة؛ "إذ يرى مرتكب الجرائم أن المتفرجين أناس لديهم طاقة كامنة لوقف الإبادة الجارية على قدم وساق"(17).

فسواء لجأ المتفرجون إلى تلك الطاقة أم لا، فإن وجودهم متفرجين، يمثل تحديا "للافتراض الوحيد" الذي تستمد منه الجماعات علة وجودها. "فالجماعة التي تضحي بقرابين من البشر لتعيد تصور نفسها لا يمكنها أن تضمن بقاءها طويلا إلا إذا حافظت على الجريمة الأولى من النسيان، ومن ثم، فإن أعضاءها الواعين بكثرة الأدلة على جريمتهم يكونون على قلب رجل واحد تجمع بينهم مصلحة مشتركة في توحيد الصفوف، وأفضل طريقة لتحقيق ذلك تتمثل في الإحياء المنتظم أو المتواصل لذكرى الجريمة، والخوف والعقاب، عبر إضافة جرائم جديدة إلى الجرائم القديمة، ويجب أن ترتكب الجريمة في العلن وفي وضح النهار وأمام أعين الجميع بحيث يشاهدها الناس ويعرفون مرتكبيها بأسمائهم وبذلك لا يكون الاختفاء من العقاب خيارا ممكنا"(18).

ويوضح ذلك دور التدوين والكتابة والإعلام كنقطة رئيسية في إعادة نشر الحقائق، وإعادة تذكير الجماعة (بالمذبحة/الجريمة) التي حدثت في وضح النهار، وإعادة الهجوم على الفاعلين والمتحمسين لها، لأن تفتيت تلك الذكرى للمذبحة يعني تفكيك مبرراتها، ومن ثم إسقاط شرعية الحاكم القائمة على تلك المذبحة، فتظهر سرديات جديدة تتصدى لما تنشره الأجهزة الإعلامية للدولة عن "فوبيا سقوط الدولة" التي تُستخدم كمبرر للعنف الذي ترتكبه الدولة وأذرعها الأمنية خارج إطار القانون.

وفي ظل تجدد ذكرى المجازر، يطرح سؤال ما بين الانعزال، وما بين الفاعلية في إطار المتاح لمحاولة السعي الفردي والجماعي لرفض الواقع، ومحاولة فتح آفاق نحو حلول أكثر فاعلية تفكك السردية القائمة.

========================================

الهوامش:

(*) إريك تراغر هو زميل واغنر في معهد واشنطن. كان في مصر خلال ثورة الغضب عام 2011، نشر مقالات في فورين بوليسي، وذي أتلانتيك، ونيو ريپبليك، وغيرها. من 2006-2007، عاش تراغر في مصر كزميل فولبرايت في برنامج الحضارات الإسلامية ودرس في الجامعة الأميركية في القاهرة حيث حصل على الماجستير في الدراسات العربية مع التركيز على الدراسات الإسلامية. شغل منصب مساعد باحث في معهد واشنطن 2005-2006 بعد التخرج من جامعة هارفارد في دراسات الحكومة واللغات العربية والعبرية. (التعريف منقول من موقع معهد واشنطن)
(*) رينيه غيرار (1923-2015) فيلسوف فرنسي، صاحب أطروحات إنثروبولوجية عمل مدرسا للأدب والحضارة الفرنسيّين في عدد من جامعات ستانفورد الأميركية  منذ الأربعينيات.
المصدر : الجزيرة