شعار قسم ميدان

يفضلون العلاقات العابرة.. السر وراء هرب الشباب من الزواج

midan - Couple
رغم توفر كثير من الخيارات ووسائل الرفاهية والترفيه التي لم تكن موجودة لدى الأجيال السابقة -مثل التكنولوجيا والإنترنت الذي يتيح مصادر المعرفة ويُمكننا من التواصل مع الناس حول العالم- فإن هذا الجيل -بحسب الكثير- يعيش حالة من التيه لم تكن في سابقه.

 

فبينما تتعدد وسائل الاتصال والترفيه وتتعدد الخيارات بل وتتعدد الوظائف وتتسع المجالات ويتقدم العلم يقف شباب هذا الجيل على حافة الإجهاد والإرهاق، فإذا كان هذا العصر قد منحهم كل وسائل الترفيه فقد سحب منهم الحياة، وإذا كان قد أعطاهم اختيارات عديدة فقد سحب منهم القدرة على الاختيار، فهذا الجيل -بحسب ما يراه كثيرون- لا يعلم ماذا يريد.

 

تشير دراسة لجمعية علم النفس الأميركية(1) أن جيل الشباب الحالي حول العالم يتمتع بأعلى نسب من الإجهاد والتوتر بالنسبة للأجيال السابقة، بينما أضافت الدراسة أن أكثر من 50% منهم مصابون بالأرق أو يستيقظون ليلا بسبب التوتر.

 

وتأتي مسألة الزواج واختيار شريك الحياة كعملية في غاية الصعوبة وسط هذه الحالة من الإجهاد والتوتر والخوف والقلق(2) التي تتسبب فيها سرعة تغيرات الحياة، وتعدد الخيارات، وعدم الاستقرار الوظيفي، وانتشار العزلة(3)، واعتبار معايير النجاح والارتفاع الوظيفي هي معايير الحياة الوحيدة.

 

في العالم العربي تعد مسألة التأخر في الزواج أو الإحجام عنه تعد مسألة معروفة ومنتشرة. فما سبب الإحجام عن الزواج؟ ولماذا يخاف شباب هذا الجيل الإقدام على خطوة الزواج؟
في العالم العربي تعد مسألة التأخر في الزواج أو الإحجام عنه تعد مسألة معروفة ومنتشرة. فما سبب الإحجام عن الزواج؟ ولماذا يخاف شباب هذا الجيل الإقدام على خطوة الزواج؟
 

وقد يظن البعض أن أبناء هذ الجيل أكثر حظا من غيرهم، وأن التكنولوجيا وفرت لهم سبلا كثيرة لارتياد مجالات الحياة بشتى أنواعها، وأن ما كان يُعدُّ مستحيلا عند أجدادهم هو شيء في غاية البساطة الآن، فهم لا ينقصهم شيء. لكن -وعلى النقيض من ذلك- تشير دراسة أجراها مركز "بيو" (pew) للأبحاث في واشنطن(4) أن 59% من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-29 عاما كانوا متزوجين في عام 1960، في حين أن 20% فقط من الشريحة العمرية نفسها في عام 2011 متزوجون، واستنادا إلى استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" مؤخرا فإن 64% ممن تتراوح أعمارهم بين 18-29 سنة غير متزوجين.

 

أما في العالم العربي فرغم غياب الدراسات الميدانية الموثقة فإن مسألة التأخر في الزواج أو الإحجام عنه تعد مسألة معروفة ومنتشرة(5)، ويشتهر العالم العربي بتعقد منظومة الزواج وصعوبة تحقيق متطلباته ومعاناة الشباب من ذلك الأمر، كما يشتهر بارتفاع حالات الطلاق والمشكلات الأسرية(6)فما سبب الإحجام عن الزواج في ذلك الجيل؟ ولماذا يخاف شباب هذا الجيل الإقدام على خطوة الزواج؟

 

الارتباط مغامرة غير مضمونة

تذهب كارولاين بيتون (Caroline Beatonn) -الكاتبة والباحثة في علم النفس، والمتخصصة في المشكلات التي يعانيها جيل الألفيَّة- أن ثلاثة أرباع الجيل المولود منذ أواخر الثمانينيات وحتى أواخر التسعينيات يعتبر المال عاملا مهما ورئيسا للإجهاد، كما أنه المعرقل الرئيس لإتمام الزواج(7). أما في عالمنا العربي يعد المال من أهم مصادر القلق، ليس فقط بسبب شيوع الفقر وارتفاع الأسعار، بل أيضا بسبب حالة عدم اليقين التي يعيشها هذا الجيل، حيث أضحت كل الوظائف مؤقتة وكل الموظفين معرضين للطرد أو أن تستغني عنهم شركاتهم، أو يتغير السوق كليا، -بالتالي تفقد الشركات احتياجها للموظفين- فتصبح وظائفهم بلا داع بسبب تقدم التكنولوجيا وتغير مزاج المستهلكين، في هذه الحالة يصبح الارتباط مغامرة غير عقلانية وغير محسوبة النتائج، بل غامضة ومفزعة.

 

يذهب عالم الاجتماع البارز زيغمونت باومان إلى أن العالم في شكله الحالي لم يعد مكانا مستقرا، بل عالم بلا يقين، خاصة فيما يسمى "الحياة المهنية"، وإذا كانت تلك الحياة المهنية منذ قديم الزمن تتصف بالتقلب ويسودها عدم الاستقرار فإن اللايقين في أيامنا الراهنة مختلف بشكل واضح، فالكوارث التي يخشى المرء أن تقضي على مصدر رزقه واحتمالاتها ليست من النوعية التي يمكن منعها أو على الأقل مقاومتها وتخفيف حدتها بجمع القوى وتوحيد الصفوف واتخاذ الإجراءات التي تصدر عن النقاش والاتفاق والتأييد المشترك(8).

 

 زيغمونت باومان عالم الاجتماع البولندي  (مواقع التواصل)
 زيغمونت باومان عالم الاجتماع البولندي  (مواقع التواصل)

 

وحسب باومان فقد اختفى من العالم الحالي المعنى القديم لمصطلح "المشوار المهني" أو"الوظيفة" بمعناها الثابت، وأضحى من الطبيعي أن يغير الشخص مهنته كل ثلاث سنوات أو أقل، فينتقل من شركة لأخرى ومن عمل لآخر، بل من تخصص لآخر، وفي هذا العالم الحديث بات الإنسان ينتقل من مكان لآخر ومن دولة إلى أخرى ومن قارة إلى أخرى، ما دعا باومان لأن يسمي العالم الحالي "عالم البداوة الحديثة"(9).

 

فعندما تحدث بيير بورديو(10) إلى الناس الذين تضرروا أو كانوا يخشون أن يتضرروا من التغيرات الراهنة في أحوال عملهم سمع كثيرا أنه "في ظل الأشكال الجديدة للاستثمار الذي يروق له تحرير سوق العمل تماما واستحداث العمالة المؤقتة تبدو الأشكال التقليدية للعمل النقابي غير كافية"، فالعمل النقابي بمعناه القديم لم يعد يستطيع التعامل مع مشكلات العمل الحالية، مثل: العمالة المؤقتة وتحرير السوق والمعايير الصارمة التي تضعها الشركات لقبول العمال والموظفين، ويخلص بورديو إلى أن "التحولات الأخيرة حطمت الأسس التي قامت عليها علاقات التضامن في الماضي"، كما أشار مارك غرانوفتير(11) -عالم اجتماع أميركي بجامعة ستانفورد- إلى أن "الزمن الذي نعيش فيه هو زمن الروابط الضعيفة"، بينما رأى سينيت(12) -عالم الاجتماع بجامعة لندن– أن "الأشكال العابرة للعلاقات أكثر فائدة للناس من الارتباطات طويلة الأجل"، حيث يسهل على الإنسان الارتحال السريع بدون مشاغل أو أحمال أو هموم.

 

فهذا الانفصال بين العمالة والمصنع وبين العمل ورأس المال -بعد أن كان بينهم زواجا كاثوليكيا- منذ الثورة الصناعية وصفه باومان بأنه "انتقال للعالم من عصر الزواج إلى عصر المعاشرة"، وامتدت هذه الظاهرة لجل العلاقات في هذا العالم، حيث ظهرت بشدة الطبيعة المؤقتة للمعاشرة(13)، وإمكانية انتهاء العلاقة في أي لحظة ولأي سبب كلما اقتضت الحاجة أو انطفأت الرغبة، حيث لم يعد هناك شيء مضمون، وعلى الإنسان أن يتخفف من الأحمال التي ترهقه.

 

"فإذا كانت المعاشرة تقوم على الاتفاق بين الطرفين والاعتماد المتبادل بينهما فإن فك الارتباط أحادي الجانب، وقد اكتسب كلا الطرفين استقلالا ربما كان يرغب فيه على الدوام في الخفاء"(14)، حيث لم يعد الناس في عصرنا يريدون ما هو أبدي وثابت ومستقر، بل يميلون دائما للتبديل والتغيير الذي يشمل كل ما في العالم الحالي، وأصبح التفكير في حياة أساسية كريمة هو تفكير في عمل مربح ومستقبل غامض وسوق متقلب.

 

حيرة الخيارات والخوف من القرار

على عكس ما هو شائع وما يظنه البعض من أن كثرة الخيارات تجعل الأمور الحياتية أسهل وأكثر رفاهية تذهب كارولاين بيتون إلى أن كثرة الخيارات المتاحة وتعدد وسائل الاتصالات جعل الأمر يبدو أصعب، خاصة لهذا الجيل من الشباب، حيث باتت وفرة الخيارات تحيِّر المرء أكثر، وليس هناك في عالم العلاقات اليوم ما هو أوفر من المواعَدة عبر الإنترنت (Online Dating)، هذا النوع من العلاقات الذي بدأ مع ظهور مواقع التعارف وغُرف المحادثة، وكما جاء في فيلم "وصلك بريد" (You’v Got Mail) تحولت اللقاءات الرومانسية والبحث عن شريك الحياة من أرض الواقع للفضاء الافتراضي، لكن تشير بيتون إلى أنه غالبا ما تظل المواعَدة عبر الإنترنت -على عكس الفيلم- محصورة في نطاق الشبكة العنكبوتية، ولا تتطور إلى لقاءات حقيقية(15).

 

بسبب الانتشار المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المواعدة يظن الجميع أنه من السهل الحصول على شريك أو تدبير موعد غرامي
بسبب الانتشار المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المواعدة يظن الجميع أنه من السهل الحصول على شريك أو تدبير موعد غرامي
 

ففي العام الماضي وجد مركز بيو للأبحاث في واشنطن(16) أن واحدا من كل خمسة أفراد بين 25-34 من العمر جرَّب المواعَدة عبر الإنترنت، فهناك أكثر من 2500 موقع لخدمات المواعَدة عبر الإنترنت في الولايات المتحدة وحدها، ومعظم هذه المواقع مثل "تندر" و"هاينغ" و"بامبل"، يستهدف أبناء جيل الألفيَّة بالتحديد، فعلى سبيل المثال، 90% من مستخدمي "تندر" تتراوح أعمارهم بين 18-34 عاما(17).

 

وبسبب الانتشار المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المواعدة يظن الجميع أنه من السهل الحصول على شريك أو تدبير موعد غرامي، لكن المشكلة لا تكمن في رغبة أبناء هذا الجيل في العثور على شريك لهم، أو حتى في أنهم يريدون ممارسة الجنس دون ارتباط عاطفي، بل تكمن مشكلة أبناء هذا الجيل في عدم المقدرة على الوصول لمرحلة اللقاء الأول من الأساس، فغالبا ما يظل هذا النوع الرقمي من المواعَدة محصورا في نطاق الشبكة العنكبوتية، ولا يتطور إلى ما هو أبعد من ذلك(18).

 

حيث تشير الاستطلاعات التي أجراها مركز بيو إلى أن ثلث من بدأوا مواعَدة شخص ما على الإنترنت لم يلتقوا بهذا الشخص في الحقيقة، ورغم أن "تندر" يتحدث برقم 26 مليون مستخدم يعثرون على شريك في اليوم الواحد فإن نسبة 8% فقط منهم تجاوزت علاقاتهم فضاء الإنترنت إلى عالم الواقع(19).

 

يحيل هذا الأمر -الذي يتركب من توفر الخيارات التي تسبب الحيرة، والظن في سهولة المواعدة، وكذلك فشل نسبة كبيرة من المعتمدين على المحادثات الافتراضية للحصول على لقاء حقيقي يؤدي لعلاقة دائمة ومستقرة- إلى دخول الشباب من هذا الجيل في حالة من الارتباك بخصوص السعي للارتباط، فتجاربهم الفاشلة أو انعدام التجربة من الأساس يؤدي إلى أن يظنوا أنهم لن يفلحوا أبدا في تحقيق علاقة ناجحة ومستقرة ودائمة تمنحهم ما يتمنون من عطف وتضامن وسكن ومودة.

 

كذلك يقع هذا الجيل من الشباب في مفارقة، حيث من الناحية العملية يتوقع الشاب صورة مثالية من شريكه من خلال ما تعززه المحادثات الافتراضية على وسائل التواصل من صورة مثالية يعكسها الفرد عن نفسه من خلال ما يعرضه من مميزات، فيعيش الشاب في عالم من الخيالات المثالية، وفي المقابل فإنه وبسبب انتشار وسائل التواصل تقل ثقة الشباب ببعضهم، فمع انتشار الفساد الأخلاقي لم يعد الشباب يثقون بشركائهم، ويعمل كل هذا على عرقلة حصولهم على شريك في الحياة.

 

يضرب باومان مثلا بثقافة قوائم المطاعم، فرغم أننا نحار في اختيار وجبة في كل مرة إلا أننا نعلم بأن هناك فرصة لاختيار جديد. ويكمل باومان أنه إذا أصبح الاختيار وحيدا ونهائيا ويتبعه مسؤولية أو سيكلفنا الكثير من الوقت والجهد فسيمتنع الكثيرون عن مغامرة الاختيار (بكساباي)
يضرب باومان مثلا بثقافة قوائم المطاعم، فرغم أننا نحار في اختيار وجبة في كل مرة إلا أننا نعلم بأن هناك فرصة لاختيار جديد. ويكمل باومان أنه إذا أصبح الاختيار وحيدا ونهائيا ويتبعه مسؤولية أو سيكلفنا الكثير من الوقت والجهد فسيمتنع الكثيرون عن مغامرة الاختيار (بكساباي)

 

علاقات الجيب العلوي وروابط إنسانية هشة

"ما الذي يهمك إذن؟

– الحب 
قال فرانز متعجبا: الحب؟
أطلقت ماري كلود ابتسامة: الحب صراع، وسأقاتل وقتا طويلا حتى النهاية.
 الحب صراع؟ ليست لي أدنى رغبة فى القتال. قال فرانز وخرج"

(ميلان كونديرا، كائن لا تحتمل خفته)

 

يرى عالم الاجتماع البولندي زيجمانت باومان أن عالمنا أصبح عالما مخيفا، "يفزعه الأغيار بكل أشكالهم"(20)، وأصحابه يريدون التقوقع حول ما يشبههم دون أن يلتحموا بهم، "كذلك أضحت المسؤولية ثقيلة ومزعجة تدعو للفرار منها".

 

ويضرب باومان مثلا بثقافة قوائم المطاعم التي تعرض على الناس أشكالا متنوعة من الطعام والشراب، فرغم أننا نحار في اختيار وجبة في كل مرة فإننا علمنا أن هناك فرصة أخرى لتجريب وجبة أخرى ومذاق آخر يدفعنا للاختيار. ويكمل باومان أنه إذا أصبح الاختيار وحيدا ونهائيا ويتبعه مسؤولية أو سيكلفنا الكثير من الوقت والجهد فسيمتنع الكثيرون عن مغامرة الاختيار(20)، ويقيس باومان أمر اختيار شريك الحياة على هذا المنطق، حيث سيلجأ هؤلاء إلى علاقات افتراضية أو حتى حقيقية لكنها عابرة يمكنهم ببساطة أن يستغنوا عنها لو جلبت لهم الضيق والملل.

 

يتحدث باومان هنا عن رجال ونساء من عصرنا ومن أولاد جيلنا، "هؤلاء هم أبطال حكاية من المعاناة، فهم يائسون بعدما تُركوا لحيلتهم ومهارتهم الخاصة، فقد أصبح السعي لشريك الحياة أمرا يتطلب قدرات خاصة غير فطرية، رجال ونساء متوجسون من نبذهم واستبدالهم بغيرهم، ومشتاقون إلى الأمن الذي يكفله التضامن وقت الشدة، ومستميتون في طلب الارتباط والسعي إلى الحب، لكنهم في الوقت نفسه حذرون من الارتباط ولا سيما الارتباط الدائم، فهم يخشون أن يجلب ذلك الارتباط أعباء ويسبب ضغوطا لا طاقة لهم بها وهم في غنى عنها، فتقيد الحرية التي كانوا يتوقون إليها"(20).

 

فيلجؤون إلى "علاقات الجيب العلوي" كما يسميها زيغمونت باومان، أي تلك العلاقات التي "يمكنهم إخراجها من الجيب عندما يحتاجون إليها، ويدفعونها أسفل الجيب عندما لا يريدونها ويتعلمون أن العلاقات مثل السيارات ينبغي أن تخضع للفحص السنوي الدوري للتأكد من صلاحيتها".

 

يحكي باومان أنه في حوار مع شاب في الثامنة والعشرين عن الشعبية الجارفة لعلاقات الصداقة الافتراضية أشار الشاب إلى ميزة فارقة للعلاقات الإلكترونية قائلا: يمكنك دائما أن تضغط على كلمة
يحكي باومان أنه في حوار مع شاب في الثامنة والعشرين عن الشعبية الجارفة لعلاقات الصداقة الافتراضية أشار الشاب إلى ميزة فارقة للعلاقات الإلكترونية قائلا: يمكنك دائما أن تضغط على كلمة "حذف" (بكساباي)

 

ويخلص باومان إلى أن ما يتعلمه هؤلاء الناس هو "أن الالتزام -ولا سيما الالتزام طويل المدى- هو أخطر فخ ينبغي عليهم الحذر منه عند الارتباط"، ويحكي باومان أن إحدى خبيرات الإرشاد النفسي تنصح قراءها قائلة "عندما تلزمون أنفسكم -مهما كان الالتزام فاترا- تذكروا أنكم قد تغلقون بالتزامكم الباب أمام إمكانات رومانتيكية أخرى ربما تكون أكثر إمتاعا"(21) وتقول خبيرة أخرى "إن وعود الالتزام لا معنى لها على المدى البعيد، إنها مثل الاستثمارات تخضع لحسابات المكسب والخسارة"(22).

 

بيد أن ما يهرب له هؤلاء الشباب من علاقات عابرة وافتراضية تفرض عليهم نمطها، فتضعهم في مزيد من الحيرة والوحدة والعلاقات الهشة التي تزيد من إحساسهم بالهلع من الارتباط(23)، فالعلاقات الافتراضية -على العكس من العلاقات الواقعية- يسهل الدخول فيها والخروج منها.

 

"فهي تبدو أنيقة ونظيفة، مألوفة، وسهلة الاستخدام مقارنة بالعلاقات الواقعية الهامدة الثقيلة والخاملة والتي تطلب جهدا كبيرا لخلق الحب، لكنها تزيد من هشاشة الإنسان أمام نفسه"(24)، حيث يحكي باومان أنه في حوار مع شاب في الثامنة والعشرين عن الشعبية الجارفة لعلاقات الصداقة الافتراضية أشار الشاب إلى ميزة فارقة للعلاقات الإلكترونية قائلا: يمكنك دائما أن تضغط على كلمة "حذف".

  

علاقات تراحمية محطمة.. العودة للعلاقات المشروطة

"كان الحب بينه وبين تيريزا جميلا بكل تأكيد، ولكنه كان متعبا، وجب عليه دائما أن يخفي أمرا ما، وأن يتكتم، وأن يستدرك، وأن يرفع من معنوياتها، وأن يواسيها، وأن يثبت باستمرار حبه لها وأن يتلقى ملامات غيرتها وآلامها وأحلامها، وأن يشعر بالذنب، وأن يبرر نفسه وأن يعتذر. الآن كل التعب تلاشى ولم تبقَ إلا الحلاوة".

(ميلان كونديرا، كائن لا تُحتمل خفته)

  

قبيل الصعود المفاجئ للقرب الافتراضي الإلكتروني بسنوات قليلة لاحظ ميشيل شولتر وديفيد لي "أننا نرتدي الخصوصية مثلما نرتدي الملابس التي تحمينا من الضغط الجوي، كل شيء إلا ما يدعونا للالتقاء، كل شيء إلا ما يدعو للارتباط"، ويعلق باومان أن البيوت لم تعد الجزر الحميمية الدافئة بين بحار الخصوصية الباردة، بل تحولت البيوت من مساحات مشتركة للحب والصداقة إلى ساحات للمناوشات والصدامات الرافضة لتدخل الآخرين وتطفلهم، "لقد أسرعنا إلى منازلنا المستقلة وأغلقنا الباب، ثم أسرعنا إلى غرفنا المستقلة وأغلقنا الباب، وصار البيت مركزا ترفيهيا متعدد الأغراض، حيث يستطيع أفراد الأسرة أن يعيشوا منفصلين جنبا إلى جنب"(25).

 

أما العلاقات السائدة هذه الأيام فترتدي قناع السعادة الزائفة التي تروجها وسائل التواصل الاجتماعي، فتصبح العلاقة بين زوج وزوجة أو شاب وفتاة مجرد صورة على مواقع التواصل الاجتماعي أو مجرد تحديث حالة اجتماعية، "صورة باهتة من الحب بين الأزواج أو بين الشركاء إذا أمعنا النظر فيها ونزعنا القناع فإنه سرعان ما تظهر لنا رغبات محبطة، وأعصاب مدمرة وحب خائب وجراح ومخاوف ووحدة ونفاق وأنانية وقهر"(26).

 

وويضيف باومان أن "المتعة واللذة الجنسية التي يسعى لها الشاب أو الأداء الجيد في الفراش حلت محل الإحساس بالنشوة والحب"(27)، بيد أن ليس كل العلاقات الحالية هي مجرد نفاق وأنانية وصراع، فهناك علاقات ما زالت قائمة على الود والسكن والرحمة(28)، فارتباط الجنس بالحب والأمن والاستقرار والخلود عبر استخلاف الذرية لم يكن في نهاية الأمر قيدا ولا خسارة كما ساد الاعتقاد حاليا.

 

   محاضرة الخبير الأسري مارك غونغور

 

حيث يشرح المبشر والخبير الأسري مارك غونغور (Mark Gungor) في محاضرته "Tale of two brains" أن العلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون مشروطة مثلما يحدث عندما يريد المرء الحصول على أي شيء في الحياة، فكل شيء له تكلفته، لذلك يجب على المرأة ألا تمنح جسدها إلا بعقد يضمن حقوقها، ويجب على الرجل أن يخضع لهذا العقد ويؤمن أن الحياة تسير بتكلفة متبادلة وتضامن متبادل وليس بالحصول السهل على الأشياء (29). يقول تعالى سبحانه "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ"(92، آل عمران).

 

وتعلق الدكتورة هبة رؤوف عزت قائلة "ليس الأمر خيارات أفراد يكفي تعديلها فحسب، فالمشهد برمته يحتاج إلى تغيير جذري كي نسترد إنسانيته، فقد أنتجت الحداثة والرأسمالية إنسانها، وأنشأت لها دولة عبر أدوات التربية والتثقيف على النفعية والتفكير النرجسي، وفككت علاقاته وروابطه هيكليا عبر عقود، بل قرون وبشكل منظم، وبالتالي فإنه ليس من المباغتة القول إن الدولة حاضرة في العلاقات الجنسية، فهي التي قامت بتشكيل كل السياقات التي تؤدي إلى هذه اللحظة وفرغتها من مضمونها التراحمي والثقافي والزمني والوجودي، بل والغيبي الميتافيزيقي الأعلى، وبالتالي لم يبق لتلك اللحظة إلا علاقة الأجسام، والأجساد في النهاية يصيبها الملل أو تزهد في جسد آخر قد أصابه التعب"(30).

المصدر : الجزيرة