شعار قسم ميدان

وهم المعرفة.. الجهل كحالة طبيعية للإنسان

midan - man
مقدمة المترجم
لا يملك معظمنا من المعرفة إلا ما يكفيه للبقاء حيا، ومع ذلك قام الجنس البشري باكتشافات علمية هائلة، فكيف نحل هذه المفارقة؟ هذا عرض لكتاب مميز يدرس هذه المفارقة، ويكشف لنا كيف يقع جزء كبير من معارفنا خارج أدمغتنا. كما يناقش أثر توزيع الخبرات، والتخصص على التطور العلمي، والجانب الأكثر ظلمة من الذكاء الجمعي، وآليات دعم الجماعات للمعتقدات التي تفتقر إلى أسس سليمة، والطريقة الأيسر لتشجيع الآخرين على نبذها.

 

نص المقال
بالكاد يستطيع أي شخص شرح طريقة عمل السَحَّابٌ. ومع ذلك، استطعنا تفتيت الذرة، واستكشاف الفضاء السحيق. كتاب جديد يشرح كيفية قيامنا بذلك. في مشهد مسرحي هزلي كلاسيكي، قدمته فرقة مونتي بايثون، يتعهد أحد مقدمي البرنامج الحواري "كيف تفعلها" بتعليم المشاهدين كيفية شطر الذرة، وتشييد جسر ذو عوارض صندوقية، وري الصحراء "لاستصلاح مساحات شاسعة جديدة". لكن أولا، سيعلّمهم عزف الفلوت: يلتقط جون كليز الآلة الموسيقية، ويشير إليها، معلنا "تنفخ هناك، وتحرك أصابعك إلى الأعلى والأسفل هنا".

undefined

ومثلما يروي ستيفن سلومان، وفيليب فيرنباخ، بأسلوب أقل سخافة، في كتابهما "وهم المعرفة"، فإن معظمنا لا يملك، في حقيقة الأمر، فهما أكثر عمقا من ذلك، لكيفية عمل الأجهزة التي نستعملها يوميا، مثل المرحاض، والسَحَّابٌ، وماكينة تحضير القهوة، ناهيك عن الساعات، والهواتف المحمولة، ومسبار الفضاء. ومع ذلك، نفترض جميعا فهمنا لطريقة عمل المرحاض، إلى أن يطلب منا فعليا، من قبل باحثين مثل مؤلفي الكتاب، شرح هذه الكيفية، وهو ما قدما له وصفا أنيقا ومفيدا. إن هذه الفجوة، بين ما نعرفه، وما نظن أننا نعرفه، تعرف باسم "وهم العمق التفسيري" (the illusion of explanatory depth).

 

كتب سلومان وفيرنباخ "نحن لا نعني بذلك أن الناس جهلاء، بل أنهم أكثر جهلا مما يظنون". في الحقيقة، نحن نعرف بالكاد ما يكفي للاستمرار في الحياة. يقوم سلومان، المتخصص في علم النفس بجامعة براون، ومحرر دورية "معرفة"، ومعه فيرنباخ، المتخصص في العلوم المعرفية بجامعة كولورادو، بدراسة المفارقة القائمة بين إمكانية اتصاف أفراد البشر بالجهل التام فيما يتعلق بكيفية عمل الكون، مع قدرتنا الجمعية نحن البشر على بلوغ أسمى درجات العبقرية. إن دليلهم الممتع إلى آليات الذكاء البشري، يفككنا تماما، ثم يعيد بنائنا، لا لشيء إلا ليفككنا مرة أخرى: نحن جهلاء، لكن لا بأس بذلك، لأن المعرفة الفعالة سهلة المنال، متاحة في كل مكان. لكن سهولة الوصول إلى المعلومات يجعلنا نبالغ في الثقة بأنفسنا، إلى درجة الاستهتار.

 

بنك أدمغة عالمي
إن الدماغ البشري آلة حل مشاكل استثنائية، لكنه جهاز تخزين أقل إثارة للإعجاب. فأدمغتنا ليست أجهزة كمبيوتر. إنها لا تعتمد بالكامل على الذاكرة والتأني، مثلما يتوجب على الآلة، بل على تمييز الأنماط ونفاذ البصيرة. هذا إلى جانب غزارة المادة المتاحة للمعرفة. لا تقع معظم معرفتنا داخل رؤوسنا، بل في الخارج، في أجسامنا، وفي البيئة، وفي الأشخاص الآخرين، وهو الأهم.
رغم عدم معرفتنا إلا بأجزاء قليلة جدا من العالم، إلا أننا في الوقت ذاته نعلم جيدا أنه مازال هناك الكثير لنعرفه
رغم عدم معرفتنا إلا بأجزاء قليلة جدا من العالم، إلا أننا في الوقت ذاته نعلم جيدا أنه مازال هناك الكثير لنعرفه

لا يعد هذا ضعفا، بل قوة. "أنت لا ترى سوى جزء دقيق من العالم، لكنك تعرف أن البقية ما تزال هناك"، كتب المؤلفان ذلك. تمكننا معرفتنا بطريقة سير العالم الطبيعية، من تعلم كل ما نحتاج إليه عن الطبيعة، بمجرد تقليب النظر فيما يحيط بنا، وكذلك يمكننا التوصل إلى استنتاجات صحيحة، عن الفضاء الذي نشغل جزءا منه، دون حاجة إلى رؤيته بالكامل في آن واحد. بعبارة أخرى، إن العالم جزء من ذاكرتك. هل نسيت بالفعل الجملة الرئيسية في مشهد بونتي بايثون الهزلي؟ لا بأس بهذا: أنت تعرف أنها هناك، في أعلى الصفحة، سهلة النوال.

 

لقد نجح نوعنا، بسبب الجودة التي تعمل بها مجتمعات الأدمغة معا. فكل مشروع ضخم، أجري في أي وقت، سواء كان هرما، أو كاتدرائية، أو ناطحة سحاب، كان سيستحيل تصوره، لو أنه اعتمد على دماغ واحد فقط. وفي سياق تطوري، تكون هذه هي فرضية الدماغ الاجتماعي. فمع ازدياد حجم وتعقيد الجماعات الاجتماعية، قمنا بتطوير قدرات معرفية جديدة، لدعم مجتمعاتنا عبر التخصص، وتوزيع الخبرات، وتقسيم العمل المعرفي. باختصار، نحن نتقاسم عن عمد، وهي سمة يسهل ملاحظتها في ألعاب الأطفال الجماعية، وفي التعاون العالمي في البحث العلمي.

 

الجهل هو حالتنا الطبيعية، ولا شيء في هذا يستحق الخجل، ما دمنا نمزجه بالتواضع. أما في خلاف ذلك، فقد نسقط فريسة لتأثير دانينغ-كروغر

إن ما ينطبق على مسرع الجسيمات، وهو جهاز هائل التعقيد، من منتجات توزيع الخبرات، ينطبق أيضا على أصغر جماعاتنا: الأزواج أكثر عرضة لنسيان تفاصيل تخص مساحات تخصص أزواجهم المحضة، والعكس صحيح. فنحن نستطيع تركيز ذاكرتنا على ما نضطر إليه، أو نرغب فيه، ما دام شريكنا يحسن تغطية مساحة تخصصه.

 

لو لم يكن بإمكاننا الاستفادة من معارف الآخرين، لما استطعنا النجاح. نحن بالكاد نؤدي أدوارنا. لكننا إن عجزنا عن استيعاب وقوع معظم معرفتنا خارج أدمغتنا، فسنواجه مشكلة أخرى، وبقدر ما تتعلق هذه المشكلة بالمعرفة، يتعلق وهم المعرفة بالغرور.

 

نحيا جميعا في وهم العمق التفسيري، بدرجات مختلفة. "نحن نفشل في رسم حدود دقيقة، بين ما هو داخل رؤوسنا، وما هو خارجها"، هذا ما كتبه المؤلفان؛ "لذا فكثيرا ما لا نعرف ما لا نعرفه". والوهم، في بعض جوانبه، من منتجات النضج الثانوية. ففي مرحلة ما قبل المدرسة، نمسك بالشيء في أيدينا ونسأل عن سبب وطريقة عمله، إلى أن ننال جوابا يرضينا، أو إلى أن يهز الأهل أكتافهم علامة على نفاد الأجوبة، أو ينجحون في تشتيت انتباهنا. في النهاية، نتوقف عن السؤال. نحن نتسامح مع عجزنا عن فهم أدواتنا المعقدة، عندما نقرر الكف عن ملاحظتها. ثم نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. "نحن نظن أن المعرفة التي نملكها عن كيفية عمل الأشياء، ترقد داخل جماجمنا، في حين أننا نستدعي أكثرها من البيئة ومن أشخاص آخرين".

 

يذكرنا الكاتبان أن الجهل هو حالتنا الطبيعية، ولا شيء في هذا يستحق الخجل، ما دمنا نمزجه بالتواضع. أما في خلاف ذلك، فقد نسقط فريسة لتأثير دانينغ-كروغر، حيث تجد الذين يبلون أسوأ بلاء في مهمة ما، يبالغون في تقدير مهاراتهم إلى أقصى درجة. ومثلما أظهرت الدراسات التي أجريت على الأطباء، والعمال، والطلاب، والسائقين، ولعل الأخيرة أبرزها، فإن الأكثر مهارة يميلون إلى التقليل من شأن قدراتهم، فهم يدركون مقدار ما يجهلونه، وإلى أي درجة يمكنهم تحسين أدائهم. في حين يميل أصحاب الأداء الأسوأ، إلى افتقاد الإحساس بالمهارات التي تنقصهم، فيبقون غافلين عمدا، عن قدراتهم الكامنة. "عندما تكون معرفتك هي الأداة الوحيدة لتقييم ما تعرفه، فلن تحصل أبدا على تقييم صادق".

إن أفضل طريقة لتغيير آراء الآخرين هي تبني الاستراتيجية نفسها التي تساعدهم على إدراك جهلهم
إن أفضل طريقة لتغيير آراء الآخرين هي تبني الاستراتيجية نفسها التي تساعدهم على إدراك جهلهم

يعتبر تأثير دانينغ-كروغر خطرا أشد ارتباطا بالساحة السياسية. حيث تقع على كاهل الزعماء "مسؤولية التعرف على جهلهم، واستغلال معرفة الآخرين ومهاراتهم على نحو فعال"، كما يقول المؤلفان، وكذلك هناك واجب على المصوتين: "فالناخب الناضج، هو من يبذل الجهد، لدعم الزعيم الذي يدرك الطبيعة المعقدة للعالم وصعوبة فهمه".

 

كيف يمكن للحقائق هزيمة المعتقدات؟
ليست المعرفة وحدها التي تنتشر عبر المجتمعات، بل كذلك تفعل المعتقدات والقيم، وهي أمور لا تبنى دائما على الحقائق. والتفكير الجماعي هو الوجه الآخر للذكاء الجمعي، وفيه يوفر أعضاء الجماعة الدعم للمعتقد المشترك فيما بينهم، الذي قد يكون مفتقرا إلى أساس وقائعي. يساعد وهم العمق التفسيري في تفسير قدرتنا على التبني الصادق لأفكار قوية، لا تملك إلا القليل من الدعم الوقائعي. لكن نبذ اعتقاد خاطئ، يحظى بموافقة مجتمع المرء، مثل التغير المناخي، لهو تَحَدٍّ معرفي مرعب.

 

توفر دراسة هذا الوهم مخرجا، لا عبر الجدال، بل عبر الشك المُفضي إلى التواضع. أظهرت الدراسات أن أفضل طريقة لتغيير آراء الآخرين هي تبنّي الاستراتيجية نفسها التي تساعدهم على إدراك جهلهم بطريقة عمل المرحاض: اطلب منهم شرحا. عندما يدفع الناس إلى فعل ذلك، يضطرون إلى التسليم بنقص معرفتهم. هكذا يتحطم الوهم، وبعد عدد من هذه المواجهات، يفيد الأشخاص بانخفاض درجة تعلقهم بالأفكار المتطرفة. بالمثل، عند عرض أفلام أو مقالات عن العلم الكامن وراء التغير المناخي، يبدأ الجدار المعرفي للمشككين في التصدع. في النهاية، يقول الكاتبان: "لا أحد يرغب في أن يكون مخطئا".
 

————————————————————-

المقال مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة