وهم المعرفة.. الجهل كحالة طبيعية للإنسان

ومثلما يروي ستيفن سلومان، وفيليب فيرنباخ، بأسلوب أقل سخافة، في كتابهما "وهم المعرفة"، فإن معظمنا لا يملك، في حقيقة الأمر، فهما أكثر عمقا من ذلك، لكيفية عمل الأجهزة التي نستعملها يوميا، مثل المرحاض، والسَحَّابٌ، وماكينة تحضير القهوة، ناهيك عن الساعات، والهواتف المحمولة، ومسبار الفضاء. ومع ذلك، نفترض جميعا فهمنا لطريقة عمل المرحاض، إلى أن يطلب منا فعليا، من قبل باحثين مثل مؤلفي الكتاب، شرح هذه الكيفية، وهو ما قدما له وصفا أنيقا ومفيدا. إن هذه الفجوة، بين ما نعرفه، وما نظن أننا نعرفه، تعرف باسم "وهم العمق التفسيري" (the illusion of explanatory depth).
كتب سلومان وفيرنباخ "نحن لا نعني بذلك أن الناس جهلاء، بل أنهم أكثر جهلا مما يظنون". في الحقيقة، نحن نعرف بالكاد ما يكفي للاستمرار في الحياة. يقوم سلومان، المتخصص في علم النفس بجامعة براون، ومحرر دورية "معرفة"، ومعه فيرنباخ، المتخصص في العلوم المعرفية بجامعة كولورادو، بدراسة المفارقة القائمة بين إمكانية اتصاف أفراد البشر بالجهل التام فيما يتعلق بكيفية عمل الكون، مع قدرتنا الجمعية نحن البشر على بلوغ أسمى درجات العبقرية. إن دليلهم الممتع إلى آليات الذكاء البشري، يفككنا تماما، ثم يعيد بنائنا، لا لشيء إلا ليفككنا مرة أخرى: نحن جهلاء، لكن لا بأس بذلك، لأن المعرفة الفعالة سهلة المنال، متاحة في كل مكان. لكن سهولة الوصول إلى المعلومات يجعلنا نبالغ في الثقة بأنفسنا، إلى درجة الاستهتار.

لا يعد هذا ضعفا، بل قوة. "أنت لا ترى سوى جزء دقيق من العالم، لكنك تعرف أن البقية ما تزال هناك"، كتب المؤلفان ذلك. تمكننا معرفتنا بطريقة سير العالم الطبيعية، من تعلم كل ما نحتاج إليه عن الطبيعة، بمجرد تقليب النظر فيما يحيط بنا، وكذلك يمكننا التوصل إلى استنتاجات صحيحة، عن الفضاء الذي نشغل جزءا منه، دون حاجة إلى رؤيته بالكامل في آن واحد. بعبارة أخرى، إن العالم جزء من ذاكرتك. هل نسيت بالفعل الجملة الرئيسية في مشهد بونتي بايثون الهزلي؟ لا بأس بهذا: أنت تعرف أنها هناك، في أعلى الصفحة، سهلة النوال.
لقد نجح نوعنا، بسبب الجودة التي تعمل بها مجتمعات الأدمغة معا. فكل مشروع ضخم، أجري في أي وقت، سواء كان هرما، أو كاتدرائية، أو ناطحة سحاب، كان سيستحيل تصوره، لو أنه اعتمد على دماغ واحد فقط. وفي سياق تطوري، تكون هذه هي فرضية الدماغ الاجتماعي. فمع ازدياد حجم وتعقيد الجماعات الاجتماعية، قمنا بتطوير قدرات معرفية جديدة، لدعم مجتمعاتنا عبر التخصص، وتوزيع الخبرات، وتقسيم العمل المعرفي. باختصار، نحن نتقاسم عن عمد، وهي سمة يسهل ملاحظتها في ألعاب الأطفال الجماعية، وفي التعاون العالمي في البحث العلمي.
الجهل هو حالتنا الطبيعية، ولا شيء في هذا يستحق الخجل، ما دمنا نمزجه بالتواضع. أما في خلاف ذلك، فقد نسقط فريسة لتأثير دانينغ-كروغر |
إن ما ينطبق على مسرع الجسيمات، وهو جهاز هائل التعقيد، من منتجات توزيع الخبرات، ينطبق أيضا على أصغر جماعاتنا: الأزواج أكثر عرضة لنسيان تفاصيل تخص مساحات تخصص أزواجهم المحضة، والعكس صحيح. فنحن نستطيع تركيز ذاكرتنا على ما نضطر إليه، أو نرغب فيه، ما دام شريكنا يحسن تغطية مساحة تخصصه.
لو لم يكن بإمكاننا الاستفادة من معارف الآخرين، لما استطعنا النجاح. نحن بالكاد نؤدي أدوارنا. لكننا إن عجزنا عن استيعاب وقوع معظم معرفتنا خارج أدمغتنا، فسنواجه مشكلة أخرى، وبقدر ما تتعلق هذه المشكلة بالمعرفة، يتعلق وهم المعرفة بالغرور.
نحيا جميعا في وهم العمق التفسيري، بدرجات مختلفة. "نحن نفشل في رسم حدود دقيقة، بين ما هو داخل رؤوسنا، وما هو خارجها"، هذا ما كتبه المؤلفان؛ "لذا فكثيرا ما لا نعرف ما لا نعرفه". والوهم، في بعض جوانبه، من منتجات النضج الثانوية. ففي مرحلة ما قبل المدرسة، نمسك بالشيء في أيدينا ونسأل عن سبب وطريقة عمله، إلى أن ننال جوابا يرضينا، أو إلى أن يهز الأهل أكتافهم علامة على نفاد الأجوبة، أو ينجحون في تشتيت انتباهنا. في النهاية، نتوقف عن السؤال. نحن نتسامح مع عجزنا عن فهم أدواتنا المعقدة، عندما نقرر الكف عن ملاحظتها. ثم نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. "نحن نظن أن المعرفة التي نملكها عن كيفية عمل الأشياء، ترقد داخل جماجمنا، في حين أننا نستدعي أكثرها من البيئة ومن أشخاص آخرين".
يذكرنا الكاتبان أن الجهل هو حالتنا الطبيعية، ولا شيء في هذا يستحق الخجل، ما دمنا نمزجه بالتواضع. أما في خلاف ذلك، فقد نسقط فريسة لتأثير دانينغ-كروغر، حيث تجد الذين يبلون أسوأ بلاء في مهمة ما، يبالغون في تقدير مهاراتهم إلى أقصى درجة. ومثلما أظهرت الدراسات التي أجريت على الأطباء، والعمال، والطلاب، والسائقين، ولعل الأخيرة أبرزها، فإن الأكثر مهارة يميلون إلى التقليل من شأن قدراتهم، فهم يدركون مقدار ما يجهلونه، وإلى أي درجة يمكنهم تحسين أدائهم. في حين يميل أصحاب الأداء الأسوأ، إلى افتقاد الإحساس بالمهارات التي تنقصهم، فيبقون غافلين عمدا، عن قدراتهم الكامنة. "عندما تكون معرفتك هي الأداة الوحيدة لتقييم ما تعرفه، فلن تحصل أبدا على تقييم صادق".

يعتبر تأثير دانينغ-كروغر خطرا أشد ارتباطا بالساحة السياسية. حيث تقع على كاهل الزعماء "مسؤولية التعرف على جهلهم، واستغلال معرفة الآخرين ومهاراتهم على نحو فعال"، كما يقول المؤلفان، وكذلك هناك واجب على المصوتين: "فالناخب الناضج، هو من يبذل الجهد، لدعم الزعيم الذي يدرك الطبيعة المعقدة للعالم وصعوبة فهمه".
توفر دراسة هذا الوهم مخرجا، لا عبر الجدال، بل عبر الشك المُفضي إلى التواضع. أظهرت الدراسات أن أفضل طريقة لتغيير آراء الآخرين هي تبنّي الاستراتيجية نفسها التي تساعدهم على إدراك جهلهم بطريقة عمل المرحاض: اطلب منهم شرحا. عندما يدفع الناس إلى فعل ذلك، يضطرون إلى التسليم بنقص معرفتهم. هكذا يتحطم الوهم، وبعد عدد من هذه المواجهات، يفيد الأشخاص بانخفاض درجة تعلقهم بالأفكار المتطرفة. بالمثل، عند عرض أفلام أو مقالات عن العلم الكامن وراء التغير المناخي، يبدأ الجدار المعرفي للمشككين في التصدع. في النهاية، يقول الكاتبان: "لا أحد يرغب في أن يكون مخطئا".
المقال مترجم عن: الرابط التالي