الإلحاد.. موقف علمي أم مشكلة نفسية؟

لكن هل يمكن النظر إلى العامل الاقتصادي في العالم العربي على أنه سببٌ رئيس للإلحاد؟ يبدو أن ذلك من الصعوبة بمكان، فعلى ما يعانيه العالم العربي من استبداد سياسي، وظلم اجتماعي، ومعدلات قياسية في الفقر والمرض والجهل والأميّة، إلا أن نسبة الإلحاد مستمرة في الزيادة رغم كل شيء، الأمر الذي يمكن إرجاع أسبابه إلى العوامل النفسية والسياسية وغيرهما؛ لا العوامل الاقتصادية فحسب. ومع ذلك فإن الأعداد الدقيقة للملحدين غير متوفرة؛ لأن التقارير التي تتناول أعداد الملحدين في العالم العربي غالبًا ما تتضارب.
فمثلًا يؤكد تقرير مركز "وين/جيا غالوب" (WIN/Gallup International) البحثي على أن 5% من السعوديين ملاحدة؛ أي أن هناك ما يقرب من 300.000 ملحد في السعودية وحدها، ما جعلها في المركز الأول عربيًا وفقًا للتقرير (2)، أمّا مركز "ريد سي" (Red C) التابع لمعهد "غلوبل" (Global) فيعلن بعد دراسة ميدانية في عدة دول عربية "المغرب، تونس، العراق، السعودية، الأردن، السودان، سوريا، ليبيا، اليمن" أن مصر هي الأولى عربيًا في نسبة الإلحاد بعدد 866 ملحدًا فقط (3)، وأخيرًا فقد كشفت دراسة أعدّها "مركز بيو للأبحاث" (Pew Forum) الأميركي أن الشرق الأوسط وحده يحتوي على مليونين ومئة ألف ملحد (4).

وعلى أية حال، فإن تمدّد ظاهرة الإلحاد واضح للعيان في العالم العربي، لكن ما هي الأسباب المؤدية إلى شيوع ظاهرة الإلحاد؟ وما هي العوامل الحقيقية التي تشكّل مقدّمات الظاهرة؟ وهل فعلًا يمكننا النظر إلى الإلحاد على أنه التطور الحتمي للعلوم التجريبية بصفته موقفا علميا صرفا، أم أنه أحيانًا يكون موقفًا سياسيًا أو نفسيًا خاضعًا لسياقات ذاتية وموضوعية لا تتعلق بالعلم التجريبي من قريب أو بعيد؟
يبدأ الإلحاد من التشكيك أو من نفي كل شيء: الأديان، والعقائد، الإله، الكتب المقدسة، النبوات. ومن هذا المنطلق، كما يؤكد البروفيسور الأميركي فيليب جونسون، فإن الإنسان الذي يشكّك في مجموعة من العقائد هو في الحقيقة مؤمنٌ حقيقي بمجموعة أخرى من العقائد، مهما ادّعى غير ذلك(5).
فمثل جُلّ الأفكار البشرية، لا يأتي الإلحاد كفكرة مجرّدة معزولة عن أية سياق أيديولوجي أو تاريخي، وإنما تصاحبه عدّة مقولات إيمانية ومضامين ثقافية وأيديولوجية تمثل ركائز نظام اعتقادي (Belief system) مثله مثل أي نظام اعتقادي "ديني" آخر، يتفرّع من هذا النظام الاعتقادي رؤية كونية (Worldview) تقدّم الإجابات النهائية على الأسئلة الكبرى في الحياة مثل "من نحن؟ وما هي الحقيقة؟ ما معنى الحياة؟ كيف يمكننا المعيشة؟ إلخ.." (6)، وتقام على أساس تلك المقولات والمضامين عملية التمييز بين ما هو إلحادي وما هو (لا إلحادي/إيماني) "أي الولاء والبراء إن صحّ التعبير".
أحد أهم مقولات الرؤية الكونية الإلحادية وأكثرها مركزية هو مبدأ "أزلية المادة"، أي قِدم العالم بلا بداية له في الزمان أو المكان؛ لكن ما الذي يجعل هذا المبدأ بالذات مركزيًا للرؤية الإلحادية؟ يقدم أستاذ التاريخ بجامعة كامبريدج، مارتن رودريك، الإجابة قائلًا بأن مبدأ أزلية المادة يشكّل تهديدًا عميقًا لأي عقيدة دينية؛ بل حتى لأي نظام اجتماعي أو أخلاقي، لما تقتضيه أزلية الكون من إنكار لمبدأ الخلق من عدم، ومن ثمّ استقلالية البشر وعدم حاجتهم إلى الخضوع لخالق (7).
ورغم أن اللادينية تنتشر في آسيا أكثر منها في أوروبا، إلا أن الإلحاد يتسرب إلى عالمنا العربي عبر المنافذ الغربية لا الشرقية، فمن ثمّ فإن تركيزنا سيكون على الجانب الغربي من العالم لا الجانب الشرقي.

باستقراء سريع للتاريخ المبكر للإلحاد فإننا نجد أن فكرته المركزية، أزلية مادة الكون، كانت تتنوع المصطلحات والرموز للتعبير عنها. قديمًا، في الفلسفات ما قبل السقراطية، أحد أقدم المدارس الفكرية الغربية في التاريخ، كانت المدرسة المَلَطِيّة "طاليس، أنكسيمندريس، أنكسيمانس" تقول بأزلية عنصر مادي معين كالهواء أو النار ويتفرع من هذا العنصر أو ذاك جميع الموجودات.
أما المدرسة الذرّية "لوقيبوس، ديمقريطس" فتذهب إلى أن الوحدات الأصغر في الكون التي لا تقبل القسمة هي في حقيقتها أزلية لا بداية لها وفي حالة حركة عشوائية دائمة تتشكّل على إثرها جميع الموجودات، أما بالنسبة لأبيقور، تلميذ معلّمه الملحد تيودوس الإلهي، فقد أكّد على أن العالم كان قديمًا كما هو الآن وسيظل هكذا إلى الأبد، رغم أنه كان أقل وضوحًا في التصريح بإلحاده من معلّمه (8). بل حتى إن الفيلسوف الكبير أرسطو رغم برهنته على وجوب وجود المحرّك الأول "الإله" فإنه لم ينفِ من العالم أزليته، وذهب إلى القول بقدم المادة أو كما أسماها هو "الهيولي" (9). بشكل عام، فإننا يمكننا اعتبار الرأي السائد عند الإغريق هو إرجاع جميع المركبّات والموجودات إلى عناصر أولية أزلية (10).
وختامًا للجدل النظري الحاد بين مختلف المذاهب الفلسفية، سقطت أثينا عام 88 ق م. على يد الرومان، ما أدى إلى أفول نجم الفلسفة اليونانية وتحلّل فكرة أزلية المادة شيئًا فشيئًا. ومع التحوّل الدراماتيكي الذي شهدته الدولة الرومانية باعتناق الإمبراطورية الرومانية رسميًا للديانة المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي، تلاشت فكرة أزلية المادة وبالتبعية فكرة إنكار وجود الله؛ إذ إن مسمار المحور في العقيدة المسيحية هو مبدأ الخلق من العدم، الأمر الذي كان غريبًا بالكلية على الفلسفة الإغريقية (11).

ومنذ القرن السابع عشر فصاعدًا، وعقب الثورة الفرنسية التي تسببت في تسارع حركة الدنيوية "العلمانية" (Secularism)؛ أي اضمحلال الحيّز الديني وانكماشه في مقابل وعي الجماهير والمفكرين بالعالم كحيّز دنيوي مستقل عن الكنيسة بصفته مجالا وموضوعا قابلا للدراسة والنظر والرصد والتأمل (12).
منذ وقتها، وجنبًا إلى جنب مع تقدّم الحركة العلمية، ألقى اللاهوت بنفسه تحت رحمة العلم التجريبي إراديًا ولا إراديًا على السواء، فبدأ المفكّرون -المؤمنون- في التلميح حينًا والتصريح حينًا بعدم حاجة الطبيعة لإله يدير شؤونها أو التدخل فيها، بما أن العلم التجريبي يمكنه تفسير كل شيء في العالم، وهي الفكرة التي يمكن النظر إليها كمقدّمة للتخلص من المقولة الدينية بالخلق من عدم بالكلية، ومن ثمّ العودة مرة أخرى إلى مبدأ أزلية المادة واكتفاء المادة بالمادة.
والملاحظ أنه في أوج الثورة العلمية كان أحد أكبر هموم رجال العلم هو فهم النظام الكوني، تقاطع العلم مع الدين في مساحات قليلة وخالفه -وأحيانًا نقضه- في مساحات أخرى. كان من ضمن الجهود العلمية الملفتة للنظر في القرن الثامن عشر النظرية التي صاغها الجيولوجي الأسكوتلندي الملقب بأبي الجيولوجيا الحديثة، جورج هاتون، في كتابه "نظرية للأرض" والذي ختمه بتقريره أن الكون أزلي لا بداية له ولا نهاية، وهي النظرية التي اقتنع بها العالِم الإنجليزي إراسموس داروين -جدّ تشارلز داروين- ليؤكد على أن الكرة الأرضية كانت، وستظل، أزلية (13).
لكن نظرية هاتون لم تدم طويلًا، فقد مثّل إنجاز العالم الإنجليزي نيوتن نقطة تحوّل كبيرة في مسيرة العلم، فقد نجح في صهر فلسفة ديكارت وقوانين كبلر وغاليليو في بوتقة واحدة والخروج بنظريته للجاذبية، ليصبح النظام الشمسي، أخيرًا، مفهومًا (14). وعلى الرغم من تديّنه العميق، إلا أن نيوتن أطّر نظريته في قالب الربوبية؛ أي الاعتقاد بأن الكون لا يحتاج إلى تدبير الخالق لضبطه لأن الإله قد اكتفى بخلق الكون ثم تركه ليعمل بشكل آلي، تمامًا كصانع الساعة.

هذا اللون من التديّن "الربوبية" هو ما كان منتشرًا لدى مفكّري عصر التنوير، كجون لوك، وديفيد هيوم، وجان جاك روسو، وقد شكّل بيئة خصبة لنمو الإلحاد؛ إذ إن الحدّ الفاصل بين الربوبية والإلحاد أضعف بكثير من مثيله بين الإلحاد والديانة المسيحية، وهو ما حذر منه عالم الرياضيات الفرنسي بليز باسكال؛ إذ رأى أن الإله في التصوّر الربوبي لن يتسبب إلا في إلحاد الناس (15)، الأمر الذي اتفق فيه مع الفرنسي الملحد بارون دي هولباخ، الذي اعتقد بأن جميع من حاولوا "إنقاذ" الإله عبر اعتناق التصوّر الربوبي كانوا في الحقيقة ملحدين مقنّعين (16).
ظل الاعتقاد بأزلية المادة والإلحاد عمومًا خافتين خلال القرن الثامن عشر، حتى العلماء الذين قادوا المسيرة الفكرية والعلمية مثل نيوتن وديكارت وبويل وبيكون، كانوا يعتقدون ببدهية وجود خالق للكون ويؤمنون بأن اكتشافاتهم العلمية وظيفتها دراسة أعمال الله؛ مما يعزز مركز الدين ويسدي إليه خدمة (17). لذا كان عدم الإيمان بالله -حينئذٍ- يعني نبذ التفسير العلمي المقنع الوحيد للعالم (18). في هذا السياق، لم تبرز الأصوات المنادية بأزلية المادة إلا حين انتقدها المتدينون، حتى قدمت الفلسفة الماركسية في القرن التاسع عشر بماديتها الصارمة التي تصرّعلى أسبقية المادة على الفكر، والوعي، والحياة، وعلى كل شيء في الحقيقة. لقد أحيت الفلسفة الماركسية أزلية المادة بشكل راديكالي، فالمادة في التصوّر الماركسي أزلية، لا بداية لها، وقوّتها مصدر كل الموجودات الحيّة وغير الحيّة (19).
بالتوازي مع نشوء الفلسفة الماركسية وشيوعها، برز البريطاني تشارلز دارون في القرن التاسع عشر وأتى بنظريته للانتقاء الطبيعي التي أزاحت فكرة العناية الإلهية بشكل كلّي؛ مما دفع ماركس إلى الاحتفاء بها احتفاءً كبيرًا في رسائله إلى أقرانه. أحدثت نظرية التطور جدلًا علميًا هائلًا، وأصبح بإمكان العلماء بعدها أن يصرّحوا بإنكار وجود الله، وصار الشك والإلحاد من يومها خيارًا فكريًا قابلًا للحياة يمكن الدفاع عنه علميًا. من تلك اللحظة أصبح المجتمع العلمي في الغرب أكثر ازدحامًا بالعلماء الملاحدة يومًا وراء يوم، وأصبح ذات المسار العلمي الذي كان خادمًا للرؤى الدينية هو نفسه المسار الذي صار معززًا للرؤى الإلحادية، ما يؤكد على أن العلم التجريبي مجرّد أداة قابلة للتوظيف في سياقات أيديولوجية، إلحادية كانت أم دينية.

عبر القرن التاسع عشر وحتى أواخر القرن العشرين، ظل مبدأ أزلية الكون مركزيًا للرؤية الكونية الإلحادية، لكن بشكل غير متوقع حدث انقلاب هائل عقب سلسلة متتابعة من الاكتشافات العلمية التي تثبت علميًا وجود نقطة بدء للكون؛ مما تسبب في نقض إحدى أهم قواعد الإلحاد بشكل جذري، قاعدة أزلية المادة.
بدأت سلسلة الاكتشافات تلك عام 1924م مع جورج لومتر وألكسندر فريدمان اللذين عملا على نظرية النسبية لأينشتين وطرحا أنموذجًا للكون تكون النجوم والمجرات فيه في حالة تمدّد بدلًا من أنموذج الكون الثابت المفترض السائد آنذاك (20)، ثمّ في عام 1929م رصد الفلكي إدوين هابل تباعد المجرات من حولنا وازدياد سرعة التباعد كلما اتسعت المسافة الفاصلة بينها، ثم جاء جورج جاموف عام 1946م ليفترض أنه مع تمدد الكون فإن فوتونات الضوء تصدر إشعاعًا يُفترض وجوده، وهو ما تم اكتشافه بالفعل صدفًة على يد أرنو بنزياس وروبرت ويلسون والذي بات يُعرف بإشعاع الخلفية الكونية فائقة الصغر (Cosmic microwave background radiation) ، والذي شكّل واحدًا من أقوى أدلة ما بات يُعرف بنظرية الانفجار العظيم (Big bang)، الأمر الذي استحق الباحثان من أجله جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978م (21).
مثّلت هذه السلسلة من الاكتشافات صدمة كبيرة للمجتمع العلمي والمفكرين الملحدين على السواء؛ إذ لم يكن هناك دليل تجريبي واحد على محدودية الكون في الزمان والمكان حتى هذه المستجدّات، لذا كان قدوم نظرية الانفجار العظيم مؤذنًا بفتح سجالات علمية حادّة حول موقف العلم من وجود الله. في إحدى محاضراته، يوضّح الفيزيائي المشهور ستيفن هوكنغ طبيعة المجتمع العلمي في ذاك الوقت وعدم تقبّله -نفسيًا وأيدولوجيًا- لخطأ مبدأ أزلية المادة، قائلًا "فكثيرٌ من الناس كانوا غير سعداء بفكرة أنَّ الكون له بداية؛ لأنَّها أبدت أنَّها تعني وجود موجود "فوق طبيعي" خلق الكون. لقد فضّلوا أن يؤمنوا أنَّ هذا الكون والجنس البشري أزليان" (22).

ورغم أن طبيعة العلم التجريبي، حتى في أشد فتراته ثوريةً وانقلابًا، دائمًا ما يتم توظيفها في سياقات أيديولوجية، إيمانية كانت أم إلحادية، إلا أن الجدل العلمي حول نظرية الانفجار العظيم خصوصًا كان حادًا لارتباطها المباشر بمسألة وجود الله، لذا فقد تم اعتبارها انتصارًا ملحميًا للمؤمنين وخيبة أمل كبيرة للملاحدة، لذلك فإننا نجد -مثلًا- أن السوفيت اعتمدوا نظرية الكون المستقر (Steady state universe) المنافسة -حينئذٍ- لنظرية الانفجار العظيم، مع إضافة كلمة "لا متناهٍ" إلى الكون المستقر في مقررات الدراسة، بسبب أن نظرية الانفجار العظيم حملت لوازم إيمانية لا تتوافق وأيدولوجيا السوفيت، كما يوضح ذلك المنظر الأيديولوجي لستالين، أندريه جدانوف، الذي قال في إحدى خطاباته عام 1947م عن نظرية الانفجار العظيم "هؤلاء الذين يريدوننا أن نصدق قصة الأطفال تلك، في أن الكون له بداية مطلقة من العدم، بدلًا من العلم الجادّ المتمثل في نظرية الكون المستقر اللانهائي" (23).
أمّا المجتمع العلمي في الغرب الأوروبي فلم يكن مختلفًا كثيرًا عن نظيره في الشرق، فعلى سبيل المثال، يخبرنا الكيميائي المرموق هنري شافر أن آينشتاين كان مؤمنًا بأزلية المادة، لدرجة أنه افترض في نظريته العامة للنسبية عاملًا فيزيائيًا متخيلًا ليتوافق وإيمانه بمبدأ أزلية المادة، لكن أينشتاين اعترف بخطئه الضخم هذا، وتقبّل على مضض، في نهاية المطاف، ضرورة وجود نقطة بدء للكون، ومن ثمّ وجود قوّة مهيمنة متسببة في الخلق، إلا أنه لم يقبل تعيين تلك القوة أو تسميتها (24).
على هذا المنوال، حاول الكثير من العلماء التجريبيين إنكار النظرية بطريقة أو بأخرى، لا لشيء إلا لإحياء مبدأ أزلية المادة، وهو ما اعتبره الفيزيائي ألكسندر فيلنكن مراوغة غير موفقة؛ حيث إن الحقيقة فرضت عليهم في النهاية الاستسلام لنشوء الكون من عدم، قائلًا "العلماء لـم يعد يمكنهم الاختباء خلف كون أزلي، لا يوجد مخرج، لا بُدَّ أن يواجهوا مشكلة أنَّ للكون بداية" (25).
لكن السؤال هنا: لماذا يجد الملاحدة صعوبة شديدة في الإيمان بإله أزلي؟ لعدة قرون لم يكن لدى الملاحدة مشكلة في الإيمان بكون أزلي، وأقاموا لذلك النظريات تلو النظريات. فلماذا فجأة صار عندهم مشكلة في الإيمان بإله أزلي؟
لا تقتصر دوافع الإلحاد في مصر على الدافع العلمي فحسب؛ وإنما تمتد كذلك لدوافع اجتماعية ونفسية وسياسية، وهذه الدوافع المتعددة ليست طابعًا خاصًا بظاهرة الإلحاد في مصر أو العالم العربي وإنما هي طبيعة الظاهرة بشكل عام. في كتابه "الإلحاد مشكلة نفسية" يشير الدكتور عمرو شريف إلى عدة نظريات تفسر الظاهرة الإلحادية عبر مقاربات علم النفس.

على سبيل المثال، ثمّة دراسة بعنوان "النمط النفسي للملحد" شملت 320 ملحدًا من الذكور الأميركيين، كشفت الدراسة أن نصف من تبنوا الإلحاد كخيار فقدوا أحد والديهم قبل سن العشرين، وأن عددًا كبيرًا منهم عانى كثيرًا في طفولته وصباه، ما دفع أحد الباحثين المشاركين في الدراسة إلى التوصية بضرورة دراسة ظروف نشأة وتربية الملحدين عند رصد ظاهرة الإلحاد. والملفت أنه يمكن تطبيق تلك التوصية على ملاحدة أو لا أدريين أو حتى ربوبيين كبار مثل آرثر شوبنهاور، وبرتنارد راسل، وجان بول سارتر، وفولتير، وبارون دي هولباخ، الذين عانوا جميعًا من ظروف أسرية صعبة اختلّ فيها التوازن الأسري بشكل كبير فارتدّ ذلك عند هؤلاء لا إلى صورة الأسرة فحسب؛ وإنما إلى مفهوم الإله كذلك (26).
في ذات السياق الذي نؤكد فيه على مركزية العامل النفسي في ظاهرة الإلحاد، يؤكد ستيفن هوكينغ على أن علماء الفلك ينفرون "غريزيًا" من فكرة أن يكون للزمان بداية أو نهاية (27)، ما يجعل ساحات العلم ميدانًا للتحيزات النفسية والاختيارات الأيديولوجية مثلها مثل أي ميدان في المجال العام تمامًا، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع. أمّا لورنس كراوس، أستاذ الفيزياء الأميركي والملحد ذائع الصيت، فإنه يقرّ بأنه "يحتفل" بغياب أدلة لوجود الله؛ مما يوضح أنه لا يؤمن بعدم وجود الله فحسب؛ بل إنه لا يريد أن يكون هناك إله أصلًا (28).