طفولتك المضطربة قد تجعلك فريدا في المستقبل

نشأت سارة في بيت لعائلة من الطبقة المتوسطة، لم يكن مُشرقا إلى الحد الذي بدا عليه من الخارج. في الأمسيات القليلة التي تناول فيها الأب العشاء معها، كانت تتمنى لو أنه ظلّ في المكتب. كان يكفيها التوتر الذي كانت تجلبه أمها إلى مائدة العشاء. لكن التعامل مع اثنين من عشاق المشروبات الكحولية كان أكبر من أن تستطيع ابنة 10 أعوام التعامل معه. إما أن تمر الأمسية بسلام أو تهوي زجاجة المشروب على رأس أحدهما.
تركت الطفولة آثارًا لا تُمحى من حياة سارة، التي تعمل اليوم مؤلفة وأستاذة في الكتابة، وتُشارف على عامها الستين مع أحفاد ثلاثة من زواج سعيد. إنها تستذكر نشأتها في ظل "خطر عاطفي مستمر؛ لا أذكر أنه قد مرّ وقت شعرت فيه بالراحة، أو بأن في وسعي أن أسترخي". تذكر سارة أنها كانت تلوم نفسها دومًا وتضيف بأنها ظلت تميل للاعتذار عن كل شيء حتى اليوم. أقلّ لفتة حُبّ قادرة على إعادتها إلى أيام الشباب، عندما كانت تحس بأنها محاصرة، وقلقة، وتتوق للهرب. وتضيف "أعترف بأنني أشعر بالأسى لأجل زوجي؛ بالأخص حينما يمسك بيدي في انتظارنا عند تقاطع ممرات المشاة، فيُخبرني حدسي لأن أفلتها، وأبدأَ بالجري".

لكن سارة تقول إنها أيضا مدينة للظروف التي أحاطت نشأتها؛ لأنها وفرت لها مهارات ملاحظة جاسوسة محترفة؛ فهي تستطيع أن تشعر إن كان أحدهم يخفي عنها شيئا، وأن تستقرئ ديناميكيات القوة في أي مكان بالحدس. وتقول "أستطيع أن أستشف طبيعة علاقة الناس ببعضهم بعضا، على سبيل المثال، منابع الخوف لديهم، أو الانعتاق". يبدو وأن المهارات التي طورتها سارة لاجتياز طفولتها المضطربة -إذن- تساعدها في حياتها كبالغةٍ أيضا.
أي فائدة يمكن أن تُرجى من طفولة مضطربة؟ إنه ليس بالسؤال السهل، بالأخص وأن كل نشوء مضطرب يكون مضطربا بطريقته الخاصة؛ قد يتضمن بعضها الفقر الطاحن، أو الإساءة المفرطة، بينما تُبنى طفولات أخرى على الإهمال المزعزِع أو "نقص الاهتمام المطلوب". هذه التجارب المتنوعة هي اليوم موضوع بحث متعدد الاختصاصات يشير إلى أن قصصًا كقصةِ سارة ليست وحسب نتيجة التفكير الإيجابي؛ إذ تشكل الحياة المبكرة أدمغتنا إلى حد كبير؛ لتترك بعض الأشخاص ضعافا في جوانب معينة، بينما تمنح القوة للبعض الآخر. وللمفاجأة، قد تُصبح بعض سلوكيات التأقلم التي يتبناها الأطفال في البيئات المتوترة ذات منفعة عند التقدم في السن.
قلة ممن عانوا في طفولتهم قد يتمنون التجربة ذاتها لأبنائهم. لكن كما تقول إحدى الناجيات، كما تعرّف نفسها، "سأكون أكذب إن لم أعترف بأن تلك التعاسة قد أفادتني في عدد من النواحي".

سلبيات النشوء في بيئات صعبة معروفة سلفا؛ فالنموذج التقليدي يشير إلى أن المعاناة التي نخوضها في سن مبكرة تؤدي إلى انتكاسات إضافية في سن الرشد؛ بالزعم أن أولئك الآتين من طفولة معذَّبة تضرروا بفعل تلك السنوات؛ بحيث قد لا يستطيعون ملاقاة إمكاناتهم الكاملة في سن الرشد، وقد يكونون أشد عرضة للاكتئاب ويسجّلون نقاطا أقل في امتحانات الذاكرة والذكاء . و يبدو أنهم يكونون أيضا أكثر عرضة لعدد من الأمراض الجسدية؛ ابتداء بآلام الظهر المزمنة إلى أمراض القلب.
قد يُظهر البالغون الذين عانوا من توتر كبير في سن الطفولة تحيز الإحالة العدائي؛ ما يعني أنهم يتوهمون تهديدات في أوضاع يراها الآخرون حيادية بشكل محقّ. إن هكذا خللا إدراكيا قد يقوض القدرة على تشكيل تحالفات يعتمد عليها النجاح الاجتماعي والمهني على حد سواء. يقول دانيال كيتينغ، من جامعة ميشيغان "إنها جوهريا ظاهرة بيولوجية" أو خلل في استجابة المواجهة والفرار "ما يعني بأن النظام المصمم بغرض ضبط استجابتك للتوتر إما أنه يتجاوز العلامة أو لا يصلها". أن يتجاوز النظام العلامة معناه "التصرف حيال أمور لا تشكل أي تهديد في العالم، على أنها تهديدات متخيلة أو تفسير أمور حيادية على أنها تشكل تهديدا". فضلا عن أنه يبطئ من عودتك إلى حالتك الطبيعية مع الوقت. قد يؤدي هذا التأثير بالأطفال لأن يتصرفوا بتهور؛ حتى عندما لا يستدعيهم أمر لذلك، ليكبروا كمراهقين نكدين انطوائيين، وربما يمتد بهم الأمر؛ لأن يصلوا سن الرشد وهم يغضبون بلا مقدمات.
يميل أولئك الذين كبروا في بيئات آمنة، ومستقرة ماديا إلى توظيف استراتيجيات "بطيئة"، مثل أنهم يدرسون بجد، ويتبعون بشكل عام النصيحة التي تُمنح لغالب أبناء الطبقة المتوسطة؛ بينما الذين يختبرون اضطرابا معتبرا في حياتهم المبكرة يميلون إلى توظيف استراتيجيات "سريعة" |
بيد أن حسا متبرما من الصورة البائسة التي رسمتها الحكمة التقليدية للمسألة قد دفع بكل من ويليام فرانكنويز وكارولينا دي ويرث، من جامعة رادبود في هولندا، إلى نشر بحث استُشهد به مرارا يفيد بأن الأمر يحمل وجها آخر، أو على الأقل من الممكن استدراكه. فقد أظهرت دراسات أجريت مؤخرا بأن الأفراد الذين حظوا بطفولة فوضوية قد أبانوا عن قدرة أعلى على رصد واكتشاف التهديدات أو تذكّر أحداث سلبية. هل من الممكن عندئذ، أن يؤدي الأطفال القادمين من بيئات متوترة، وفي ظل الظروف المناسبة، بطريقة أفضل من المتوقع فيما يتعلق بجمع المعلومات، وتقييم سمعة الأفراد، وقدرات التساؤل الأخرى؟
تقول جان ماري بيانشي من جامعة ويلسون بأن "معظم الأبحاث المجراة حول الأشخاص الآتين من بيئات مؤذية تركّز على ما لا يُفلحون فيه. وعليه، فقد كانت غايتنا الكشف عن المزايا النفسية لدى هذه الفئة؛ لأن ما نعرفه بهذا الخصوص يسير جدا".
الباحثون الذين باشروا هذا العمل -مثل فلادا جريتزكي فيزيتش، أستاذ كلية الإدارة بجامعة مينيسوتا حاليا- يرون أن السؤال جوهريا ناجم عن نظرية تاريخ الحياة، التي تفترض بأن الناس يبنون حياتهم وفقا لبيئة طفولتهم. بالإجمال، يميل أولئك الذين كبروا في بيئات آمنة، ومستقرة مع موارد مالية كافية إلى توظيف استراتيجيات "بطيئة"؛ إنهم يدرسون بجدّ، يؤخّرون المتع، يؤجلون الزواج والإنجاب، ويتبعون بشكل عام النصيحة التي تُمنح لغالب أبناء الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة العليا بالبقاء على هذا النسق؛ لكن أولئك الذين يختبرون اضطرابا معتبرا في حياتهم المبكرة يميلون إلى توظيف استراتيجيات "سريعة"؛ على سبيل المثال، ممارسة الجنس في سن مبكرة أو الإنجاب وهم يافِعون؛ إن "أفق المكافأة" في الاستراتيجيات السريعة أقصر، وبما أن مستقبلهم مضمون بدرجة أقل؛ يفضل هؤلاء المكافآت الصغيرة السريعة عن تلك الكبرى التي تنتظر وقتا أكبر.
لكن عوض التفكير إذا ما كانت استراتيجية الحياة السريعة والبطيئة "جيدة" أم "سيئة"، ألا يستطيع المرء التفكير بالتكيف الأنسب بحسب البيئة التي هو فيها؟ عندما يكافأُ طفل ينمو في بيت محب، ومستقر بلوح سكاكر، ويتم إخباره بأنه إن انتظر نصف ساعة، فإنه سيحصل على واحد آخر، فإنه سيرى أن من الحكمة الانتظار؛ لكن إن كان بيته فوضويا، وكان القائمون على رعايته لا يفون بوعودهم دائما، سيكون من الجيد الحصول على السكاكر طالما أن الأمر في متناوله. إن انتزاع ما تريده عندما يكون أمامك في هذا السياق ليس بالأمر "المندفع" أو "قصير النظر"، كما توسم هذه السلوكيات عادة -باستخفاف-. إنه سلوك استراتيجي.
غير أن القول بأن السلوك أعلاه تكيُّفي هو أمر؛ والقول بأن بيئة قاسية وإمكانية التنبؤ فيها أقل قد تعود علينا بمنافع مستقبلية أمر آخر.
لمتابعة مسألة الجوانب المشرقة المحتملة للطفولة الفوضوية، ركز جريتزكي فيزيتش وفريق يقوده شيراج ميتال على جانبين من الوظائف التنفيذية وهما، السيطرة الكبحية: وهي القدرة على كبح مشاعرنا، وتبديل المهام: وهو القدرة على الانعتاق من مهمة للانخراط في أخرى. وقد افترضوا بأن الأشخاص الذين يكبرون في خضم عدم القدرة على التنبؤ سيؤدون بشكل أسوأ في قياسات الكبح إنما أفضل في تبديل المهام، بالأخص في أوضاع تستدعي جوانب من طفولتهم.
لقد دفعوا نصف المشاركين في البحث للتفكير في عدم الاستقرار من خلال إعطائهم مقالا للقراءة بعنوان "في انتظارنا أوقات صعبة.. الاقتصادات الجديدة في القرن الحادي والعشرين"، بينما قرأ النصف الآخر نصا عن شخص يبحث عن مفاتيحه الضائعة. في تحديات محوسبة تستخدم عادة لقياس الكبح، لم يُظهر الأفراد الذين نشأوا في بيئات متقلبة أي اختلاف يذكر عن زملائهم الآتين من بيئات مستقرة، في حالة الاستقرار التي كانت عند قراءة مقال المفاتيح الضائعة. لكن أولئك، الذين قرأوا مقال التشكيك الاقتصادي منهم، سجلوا أداء أسوأ بكثير.
غير أن النتائج كانت مختلفة عندما تعلق الأمر بتبديل المهام، في حالة الاستقرار، سجل أولئك الآتون من بيئات متقلبة ومستقرة بشكل متكافئ؛ لكن عندما كانوا في حالات تشكك، أدى أولئك الذين حظوا بطفولة متقلبة بطريقة أعلى وأفضل عن زملائهم ذوي الطفولة المستقرة؛ لقد كانوا أسرع في نقل تركيزهم إلى أمر آخر دون انخفاض مستوى الدقة.
يصف عالِم النفس التطوري بروس إيليس من جامعة يوتاه هذه الميزة على أنها القدرة على "فصل الذات"، وهو نوع من المرونة الإدراكية التي ترتبط إيجابيا بمزايا كالإِبداع. قد يكون الأمر أن الأفراد الذين كبروا في بيئات متوترة لديهم ميل أعلى لترك شيء في منتصفه -إنه نقص في الكمالية يساعدهم على تحديد الضروري دون التفكير في التفاصيل- مقارنة بأولئك الذين كبروا في بيوت يتوقّع فيها ترف المثالية باستمرار.
يؤكد ميتال و جريتزكي فيتش على أننا لا نقترح أو نلمح إلى أن الطفولات المتوترة "إيجابية أو جيدة للناس". إلا أن، نظرة عن كثب إلى المزايا الممكنة لدى كل فرد -بغض النظر عن خلفيته أو خلفيتها- قد تساعد في قلب الأفكار النمطية الرائجة، تلك التي في الثقافة بشكل عام، أو التي في عقول من كبروا في بيئات غير مستقرة؛ بحيث يعتريهم على الدوام التشكيك بالذات.

إن الأطفال الذين يكبرون وهم يشعرون أنهم فاقدون للسيطرة قد يصبحون بالغين لا يقدّرون إحساس السيطرة؛ لكنه أمر يمكن أن يساعد أولئك الذين يشقون طريقهم في ظل اقتصاد غادر. خذ على سبيل المثال ستيف، وهو مطور برامج يعيش في نيويورك كانت أوضح ذكرياته عن عيد الميلاد (الكريسماس) تتضمن الاختباء تحت الأريكة في القبو؛ لكي يتجنب تبادل إطلاق النار اللفظي بين والديه. يقول "كانا يمضيان الكثير من الوقت في الشجار بحيث لا يعود عندهما طاقة للالتفات إلينا". يتذكر ستيف أنه كان يريد تقديم يد العون في البيت؛ لكنه لا يذكر أبدًا تحديدهم مهام معينة ليقوم بها، أو سماع الثناء عند قيامه بالعمل المنزلي. عندما بلغ سن العاشرة، بدأ ستيف يجرح ذراعه بالشفرة، آملا أن يتلقى اهتمام عائلته؛ لكن دون طائل.
ويضيف "حتى في أثناء الأوقات السعيدة كان يخامرني إحساس بأننا نعيش وقتا مستقطعا وأن ثمة كارثة في الطريق إلينا، ولطالما كان الأمر كذلك".
في حياته كشخص بالغ، برهن ستيف على مرونة هائلة، بأخذ مجازفات قصوى في العمل يشوبها القليل من التردد، إنه واثق من أن ظروف نشأته قد ساعدته في اجتياز منعرجات مهنتهِ الصعبة. كان يبدي تسامحا مع الغموض عند مواجهة الأسئلة الكبرى -كسؤال مكان العمل أو مقدار ما ينبغي استثماره في علاقة ما-؛ لأنه عاش مرحلة من حياته لم يعرف فيها إن كان ما ينتظره هو النجاح أم الفشل.
الأدلة على وجود أفضليات إدراكية أخرى يظهر شيئا فشيئا. ينظر تشيراج ميتال، الذي يعمل حاليا في كلية تكساس للزراعة والميكانيكا، إلى تأثيرات الظروف التي أحاطت طفولته على الذاكرة. وتشير استنتاجاته الأولى إلى أن الأفراد الذين ينشؤون في بيئات متقلبة المزاج، هُم أفضل فيما يعرف بتحديث الذاكرة؛ إن لديهم قدرة على نسيان معلومات لم تعد ذات صلة بالوضع الذي يعيشون فيه مقابل تخزين معلومات جديدة هي ذات صلة.
تعتقد بيانشي بأن النشوء مع التوتر قد يعزز أنماطا معينة من التعلم الرَّبطي؛ وهي القدرة على تحديد أن جوانب من البيئة التي تحيط شخصا معينا قد ترتبط ببعضها بطريقة ما أو بأن سلوكيات معينة ستنال مكافأة أو عقوبة. إن النشوء في بيئة تتغير باستمرار، كما تقول، يجعل الأفراد "أشد إدراكا بها وأشد استجابة للتغيرات في البيئة من حولهم". في المختبر يعني هذا بأن الأفراد المشاركين في الدراسة النفسية قد يكونون أسرع في ملاحظة أنهم قد مُنحوا تعليمات خاطئة في التحدي المحوسب؛ ما يعني أنهم سيغيّرون سلوكهم بناء على هذا الإدراك. وتضيف بيانشي "سيكون لهذا نتائج أعمق". إنه يعني بأن الأشخاص الذين اعتادوا الاعتماد على القواعد والثقة في التعليمات -كأولئك الذين ينشؤون في بيئات أشد استقرارا- قد يلتزمون بالقواعد حتى وإن واجهوا نتائج سلبية. بينما، قد يكون القادمون من بيئات متوترة أسرع في رصد الإمكانيات الأخرى واجتراح حلول أفضل.
التوتر ليس أحادي البعد، بالأخص وإن أخذنا في الحسبان أن خلفيته الاجتماعية الاقتصادية هي عامل حاسم في فحص تأثيراته. منغصات الطفولة المعروفة من طلاق الوالدين، أو العنف الداخلي، والإساءة الجسدية أو الجنسية أو العاطفية؛ أو المرض العقلي، أو إدمان الكحول، أو تعاطي المخدرات من قبل أحد القاطنين في نفس البيت لا تقتصر على العامل الديموغرافي؛ فالنّشوء في عائلة فقيرة غير أنها مستقرة يطرح تحديات أخرى عن النشوء في زخرف الامتياز مع والدين غير مبالين يترتب على عاطفتِهما أداؤُك في الحياة. يقترح عدد من النقاد الثقافيين، الذين يجرون أبحاثهم على جيل الألفية -وهم مواليد عام 1984 فما فوق- بأن من نشأوا في ظل الثناء الأبوي المرتفع مع الافتقار للمنافسة يملكون هم أيضا خبرة أقلّ في الخسارة ما يجعلهم عرضة الافتقار إلى الثقة بالنفس، واللدونة والتيقّن.
كمية الضغط التي يختبرها المرء في سن الطفولة يبدو وأنها عامل أيضا في التنبؤ بمزايا معرفية مستقبلية؛ فقد وجدت دراستان طوليتان أجراهمَا مارك سيري، من جامعة بافالو، بأن أولئك الذين عايشوا ضغطا معتدلا خلال حياتهم سجّلوا نقاطا أعلى في معايير اللدونة -وكانوا أقل عرضة لآلام الظهر المزمنة- عن أولئك الذين قالوا بأنهم عانوا ضغطًا أقل أو أشد في حياتهم.
شخص مثل سارة، كبر في بيت غارق في التوتر والضغط النفسي قد ينشأ بمزايا إدراكية أقوى وأشدّ اختلافا عن أولئك الذين ينشؤون في بيئة حيث ثمة مؤثرات "قوة حادة" كإساءةٍ جسدية لم يكن متجهزّا لها أو للهرب منها على أية حال. |
إن إعادة تقييم الطفولات المتوترة هو جزء من إعادة نظر كبرى في التأثير النفسي والجسدي للضغط النفسي. وأبرز جوانبها تأثير النورإيبينفرين، وهو ناقل كيميائي يُطلَق لمساعدتنا على الانتباه عندما نلحظ شيئا جديدا، وغير متوقع، أو مخيف. عندما يُطلق في جرعات معتدلة، يمكن له أن يكون "نوعا من المخدر للدماغ" كما يقول عالم النفس وعلم الأعصاب الإدراكي إيان روبرتسون، مؤلف امتحان الضغط النفسي (The Stress Test)، مشيرا إلى أن النورإيبينفرين يساعد الدماغ على خلق وصلات جديدة، ذات تأثيرات إيجابية على كل من التعلم والذاكرة. ثمة أيضا حلقة تعزيز متبادل بين النورإيبينفرين ومعدل الذكاء؛ كلما ارتفع معدل ذكائك كلما أُطلق المزيد من النورإيبينفرين عند مواجهتك معضلة مستعصية.
هذا التأثير الهرموني قد يساعد في تفسير السبب الذي يجعل أولئك الناشئين في بيئات مضطربة يؤدون بطريقة أفضل وأسرع في تقييم التهديدات؛ على سبيل المثال، في إعادة قراءة المشاعر أو النوايا في وجوه الآخرين. إلا أنه من الممكن أن يكون للأمر جوانب أخرى، مع ذلك. فالكثير من الضغط النفسي، كما يقول روبرتسون، قد يؤدي إلى إنتاج مفرط في النورإيبينفرين الذي يترتب عليه عدد من الأمور، كإطلاق الكورتيزول المدمر للخلايا، الذي قد يؤدي في حال كثافته إلى مشاكل في الأوعية الدموية؛ فضلا عن ارتباطه بالوفيات في منتصف العمر.
يقول فرانكنيونز -الذي يعمل اليوم مديرا لشبكة البحوث في التكيّف مع توترات مرحلة الطفولة بجامعة يوتاه- بأن "تأثير المنغصات يعتمد على العديد من العوامل"؛ فالاختلافاتُ البيولوجية المتأصلة فيما يتعلق بالمزاج، والمدفوعة بمزيج من الجينات، قد تعزز اختلاف الاستجابات لبيئات نشوء مماثلة، وقد تؤدي إلى نتائج مختلفة تماما في سن الرشد حتى عند أفراد من ضمن العائلة نفسها. لكن ثمة جوانب إيجابية للطفولة ذات التوتر المرتفع يمكن لها أن تخفف من قوة التأثير الجيني، كالتّغذية الجيدة أو وجود أفراد داعمين في العائلة الممتدة. والأنواع المختلفة من التوتر في الأسر المضطربة -على سبيل المثال، في سلوكيات الاهتمام مقابل سلوكيات الإهمال- التي قد تؤثر على الأطفال بطرق مختلفة، كما يشير فرانكنيونز؛ فالصفعةُ على الوجه لا تساوي فشل مراضاة طفل يبكي، على الرغم من أن لكليهما عواقب معينة.
شخص مثل سارة، كبر في بيت غارق في التوتر والضغط النفسي -وهي حالات يمكن أن يخفف من وطأتها الذكاء العاطفي والفطنة- قد ينشأ بمزايا إدراكية أقوى وأشدّ اختلافا عن أولئك الذين ينشؤون في بيئة حيث ثمة مؤثرات "قوة حادة" كإساءةٍ جسدية لم يكن متجهزّا لها أو للهرب منها على أية حال.

تعترف ليليان -85 عاما- التي تُركت وحيدة مع والدة مسيئة، عصابية وشيزوفرينيّة أنها تشكك بشكل عام في نوايا الناس من حولها؛ لكنها تنوي وتستطيع تغيير الأمر؛ حيث تشير سيرُتها الذاتية إلى عملها كممثلة، ورسامة وجوه، وأستاذة مسرح وعميدة كلية ومنظمة تجمعات وريادية. فقد تطلب عمل زوجها عددا من الإجراءات، بما فيها إقامة مطولة في اليابان، ما أرغم ليليان على تكييف أهدافها المهنية باستمرار. وتقول "لم أواجه أي صعوبة تذكر عند قيامي بالأمر، لقد اعتمدت على أن لا شيء يدوم في حياتي عدا قدرتي على ملاقاة تحدي التغيير".
إن المعرفة الأوسع التي توفرها التكيّفات الإدراكية التي أرقت أولادا مثل ليليان قد تؤدي إلى بيئات مدرسية ودراسيّة توجّههم إلى نقاط قوّتهم ومزاياهم أكثر. اليوم، كما يقول إيليس، معظم التدخلات التي يصنفها المعلمون والعاملون الاجتماعيون على أنها ذات خطورة قصوى تستلهم استعارة مخالب القط ويضيف بالقول "تعال إلى أي مدرسة مبرزا مخالبك، وسترى كيف سيحاول الجميع أن يعيدها إلى الداخل؛ بمعنى أن يصبح الطفل ميالا أكبر للثقةِ، والارتياح في المدرسة، وأن يكون أشد ارتباطا بالمعلمة". بكلمات أخرى، هؤلاء الأطفال مدفوعون للتصرف أكثر كما لو أنهم أبناء بيئات منخفضة الخطورة؛ لكن برمجة الناس أمر شاق، كما يشير، ويجد المعلمون أن من الأسهل العمل مع هؤلاء الأطفال عوض الصراع معهم.
بينما يكتسب فهم تام لتأثيرات البدايات الفوضوية جذبا مجتمعيا، يستطيع الأفراد الذين يتمكنون من التعامل مع الضغط النفسي لماضيهم وتخطي الرؤى الكئيبة لمستقبلهم أن يولدوا أملا جديدا |
الطفولات المضطربة، كما عرف الروائيون والمعالِجون النفسيون دوما، تستطيع أن تفيد أكثر الشخصيات المعقدة والمتميزة. يقول المعالج النفسي إيان مورغان كرون "إن أولئك الذين لم يعانوا مثيرون للاهتمام بقدر ما تثير اهتمامنا الشجيرات" ويضيف مازحا "مع الأشخاص السعداء، تقول لنفسك، يا رجل لا أستطيع أن أنال من حديثي معه أي شيء؛ لأنه بلا تصدعات".
لكن كرون قد رأى في عمله كيف يؤدي النشوء في ثقافة منقوعة بالافتراضات السلبية حول ذكاء الأفراد، وأمزجتهم وحالتهم العقلية لأن يعتنق المرء تكهنات تحقيق الذات ويضيف "إنني لن أتعافى أبدا مما مررت به؛ لم أمتلِك يوما الأساسيات التي تحتاجها لكي تعيش حياة ممتلئة". بسبب شكوكهم إزاء فرصهم، قد يغض هؤلاء الأشخاص النظر عن فرص أو يضيعون في ألم وقسوة ما عانوه.
بينما يكتسب فهم تام لتأثيرات البدايات الفوضوية جذبا مجتمعيا، يستطيع الأفراد الذين يتمكنون من التعامل مع الضغط النفسي لماضيهم وتخطي الرؤى الكئيبة لمستقبلهم أن يولدوا أملا جديدا. يقول كرون "إننا الحكايا التي نقصّها على أنفسنا.. عندما أكون في جلسة علاج جماعي، أطلب من كل شخص الالتفات إلى الشخص الذي على يمينه، ليسأله ‘هلا أخبرتني قصة حياتك في خمس دقائق، تلك التي تبدو فيها ضحية؟’ عندما ينتهي الأمر، أقول ‘الآن التفتوا إلى ذات الشخص وقولوا له الحكاية ذاتها؛ لكن بشرط أن تظهرُوا فيها أبطالًا’، فَيسألونني ‘حقا؟ أهذا مسموح؟ وأجيب، بالطبع.
ويضيف "إن لديك القدرة على القيام بالأمر، حتى دون التثبت من التاريخ. لقد حدث ما حدث، ولن ننكر الحقائق. لكن الطريقة التي نقص فيها التاريخ هامة جدا، ويمكن أن يكون لها قوة شفاء هائلة".
إن أولئك الذين اعتنقوا سلفا كل جانب من ماضيهم ليسوا في حاجة للإقناع. تقول ليليان التي نشرت مؤخرا روايتها الأولى "أنا لا أنكر، لكنني واقعية أيضا؛ لقد تعلمت أن أبتكر حلولا لما يمكن تغييره وأن أعيش ما لم يمكن تغييره. ودائما ما ألتجِئ إلى حقيقة أنني ما زلت هنا، أنشط هنا وهناك. إنني أؤمن بشدة بأن فينا أكثر بكثير مما نسمح له بأن يتطور. إن الإمكانيات بلا نهاية؛ ولا تستدعي التوتر".
==================================================
المقال مترجم عن: هذا الرابط