رحلة "الإرهاب" من "الحشاشين" إلى جماعات العنف الحديثة
يثير وصف الإرهاب حكماً قيمياً؛ ينطوي على الرفض والإنكار؛ فهو أقرب إلى تهمة، تتبادلها أطراف متنازعة، ولا يطلقها أيّ من تلك الأطراف على نفسه، ويحدد مدلولها كل طرف وفقاً لمصلحته. وهو ما أبقاه إشكالاً ملتبساً، غير مجمَعٍ على تعريفه. فمتى ظهر هذا المصطلح؟ وما هي الدلالات التي ارتبطت به عبر تاريخه؟ وما هي أبرز تحولاتها؟
ولكن، هذه الأمثلة وغيرها، لم يسبق أن أُطلق عليها "الإرهاب" كمصطلح، ولم تعرّف كـ"حركات إرهابية"، إلا في بعض القراءات الحديثة، التي قرأتها بأثر رجعي. وظلت كلمة "الإرهاب" منحصرة في دلالتها اللغوية المباشرة، ولم تظهر كمصطلح إلا مع الأحداث التالية للثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر؛ مع إطلاق مسمى "حكم الإرهاب" على السنوات (1793 – 1794م)، والتي سيطر فيها "روبسبير" وأنصاره من اليعاقبة على الحكم؛ حيث سُجلت 16.594 عملية إعدام[1]، بحق من وصفوا بأنهم أعداء للثورة.
وهكذا تبلور المصطلح، مع هاتين السنتين، باعتباره استخداماً منظماً للعنف يرمي فاعله بمقتضاه وبواسطة الرهبة الناجمة عنه إلى تغليب رأيه السياسي، من أجل المحافظة على الأوضاع السياسية القائمة، أو من أجل تغييرها وتدميرها. وأهم ما يلفت الانتباه هنا هو إطلاق الوصف على طرف في موقع السلطة الحاكمة، وهو ما سيتغير لاحقاً. كما تجدر الإشارة إلى أن زمن الظهور يؤكد الطابع الحديث للمصطلح، وذلك لارتباطه بنشأة الدولة الحديثة (منذ معاهدة وستفاليا – 1648م) ذات السيادة على الإقليم الجغرافي المحدد، وما يرتبط بذلك من إقرار، أو عدم إقرار، لشرعية ممارسة العنف، من قبل الدولة، أو غيرها من الفاعلين، داخل إقليمها.
وقد بلغ العنف الأناركي ذروته مع اغتيال القيصر الروسي ألكساندر الثاني (1881)، على يد مجموعة "نارودنايا فوليا"
[أ] الأناركية، واغتيال الرئيس الأمريكي ماكنلي (1901)، على يد ليون كولغوش الأناركي، بالإضافة إلى محاولة فاشلة لاغتيال القيصر الألماني فيلهلم الثاني (1901). وقد قدمت إيمّا غولدمان، المنظرة الأناركية الشهيرة، منظوراً إيجابياً للإرهاب؛ حيث رأت فيه ضرورة لإحداث عملية التحول الاجتماعي[3].
كما مارست الإرهاب في هذه الفترة الحركات القومية والانفصالية. ففي أوروبا تميز الإيرلنديون بالنزوع نحو استخدام العنف في صراعهم مع الإنجليز، وكان من أشهر الحركات الإيرلندية التي اعتمدت العنف: أَخَوية فنيان (تأسست عام 1858)، والتي اشتهرت بأعمال تفجير السجون لتحرير الرهائن، وكانت أول من استخدم الديناميت في العمليات الإرهابية. أما في الشرق، فقد واجهت الدولة العثمانية العديد من الحركات العنيفة، ومن أشهرها: الاتحاد الأرمني الثوري (تأسس عام 1890)، والمنظمة المقدونية الثورية (تأسست عام 1893)؛ حيث اعتمدت مثل هذه الحركات العنف للمطالبة باستقلال أراضيها. وقد بلغ الإرهاب القومي ذروته مع اغتيال الأرشيدوق النمساوي في سراييفو (1914)، على يد شاب ينتمي إلى جمعية صربيا الفتاة القومية.
تراجعَ الإرهاب القومي في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى، وإن كانت بعض البلاد قد عرفت استمراراً له، فقد شهدت فلسطين خلال الثلاثينيات والأربعينيات، موجة من الإرهاب الصهيوني[ب]؛ حيث كانت المنظمات الصهيونية أول من ألقى القنابل الصغيرة على المدنيين (القدس – 1937)[ج]، وأول من وضع ألغاماً موقوتة في الأسواق الشعبية المكتظة بالسكان (حيفا – 1938)، وأول من نسف سفينة بركابها (1940)، وأول من اغتال وسيطاً دولياً (1948)[د]. كما امتد ظهور الحركات القومية العنيفة في المنطقة إلى فترات لاحقة من القرن العشرين، ومنها: الحزب القومي السوري، وحركة القوميين العرب، وكتائب الفداء العربي.
وكنتيجة لانتشار الأعمال الإرهابية في بداية القرن العشرين، جاء أول اهتمام للمجتمع الدولي بظاهرة الإرهاب؛ حين تقدمت فرنسا في العام 1934 بطلب إلى سكرتير عصبة الأمم، دعت فيه إلى اتفاق دولي لمعاقبة الجرائم التي ترتكب لغرض الإرهاب السياسي[هـ]. وقد انتهت المداولات إلى تعريف (عام 1937) الإرهاب بأنه: "جميع الأفعال الإجرامية الموجهة ضد الدولة، والتي تهدف لخلق حالة من الرعب لدى مجموعة أو عند عموم الناس"[4]. وهو التعريف الذي أكد على ربط وصف الإرهاب بالفاعلين من غير الدول.
والملاحظة التي تستحق التسجيل هنا، هو أن الفقه الغربي، وباستثناء إطلاق صفة الإرهاب على الدول الدكتاتورية، وخصوصاً المناوئة للغرب -سواء في فترة ما بين الحربين، أو خلال الحرب الباردة- قد ركز جل اهتمامه، وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية، على إرهاب المنظمات والأفراد، بما في ذلك العنف الثوري الذي تقوم به حركات التحرر الوطني، وتغاضى عن إرهاب الدول، والإمبريالية منها خاصة.
وترى وجهة النظر القانونية السائدة (المحافظة) أن العنف الممارس من قبل الدولة لا يسمى إرهاباً، وإن كان بالإمكان تسميته بتوصيفات أخرى، كالقمع (إن وُجِه للداخل)، والحرب والعدوان (إن كان موجهاً إلى دول أخرى). وذلك انطلاقاً من مبدأ كون الدولة هي الممارس الشرعي الوحيد للعنف، داخل حدود إقليمها وسيادتها؛ حيث يكون العنف مشروعاً طالما استند إلى نص قانوني يبرره ويحدده، فالدولة تمارس العنف من أجل بسط الأمن والنظام. فليس مناط وصف الفعل بالإرهاب -بحسب هذا المنظور- هو استخدام العنف بحد ذاته، وإنما "شرعية" الاستخدام. في حين اعتبرت رؤى نقدية مخالفة أن أخطر أنواع الإرهاب هو العنف الممارس من قبل الدولة؛ لأنها قادرة على قوننته وإسباغ الشرعية عليه، وعلى خلق "حالة استثناء"، متى شاءت.
ولكن التباين والافتراق بين تلك الحركات والإرهاب بقيَ أوضح من إخفائه بخطابات إعلامية؛ فمع أنهما يشتركان في اعتماد العنف المنظم لتحقيق أهداف سياسية، إلا أنهما يختلفان في أن حركات التحرر تتلقى دعماً مادياً ومعنوياً وتأييداً شعبياً، من الحاضنة الشعبية المحيطة بها، بينما الإرهاب يكون مذموماً من مجمل الشعب. كما أن حركات التحرر -كما يدل على ذلك اسمها- تسعى إلى تحقيق أهداف معينة تتمثل في استنزاف العدو وإلحاق أكبر الخسائر المعنوية والمادية في صفوفه، وتقليص المساحة التي يحتلها، والعمل على التحرر والاستقلال والتخلص النهائي من الوجود العسكري للعدو.
وهذا ما قد مارسته الشعوب الغربية نفسها في أزمان سابقة؛ فبعد اجتياح النازية للعديد من الدول الأوروبية، بدأت بقيادة الجنرال "ديغول" حركة مقاومة لتحرير فرنسا وأوروبا بأكملها، اعتمدت أساليب حرب العصابات. وقد أعلن كل من "ونستون تشرشل" و"إيزنهاور" تأييد بريطانيا والولايات المتحدة لهذه المقاومة، ووفروا لها شتى أنواع الدعم، مؤكدين على "حقها المشروع" في مواجهة الاحتلال الألماني. وقبل ذلك، وفي نهاية القرن الثامن عشر، كانت الثورة الأمريكية (1765-1783)، قد رفعت السلاح، واعتمدت العنف في صراعها مع الحكم الاستعماري البريطاني.
ونتيجة لهذا التباين الظاهر، ومع وجود كتلة كبيرة من الدول القريبة من المعسكر الاشتراكي، ومن دول عدم الانحياز، مالت الأمم المتحدة إلى "الحق الثابت في تقرير المصير"، فأقرّت مشروعية حركات التحرر الوطني. وفي 29/11/1974، اعترفت بحق الشعوب الخاضعة للأنظمة الاستعمارية والعنصرية، في حق الكفاح من أجل نيل الاستقلال[5]. وبعد ذلك بثلاثة أعوام، جرى تعديل اتفاقية جنيف، في مؤتمر تطوير القانون الإنساني، الذي أقرّ بروتوكولين ينصّان على أن حروب التحرير هي حروب دولية؛ حيث تم اعتبار حركات التحرر الوطني بمثابة كيانات محاربة ذات صفة دولية، واعتبارها دولا لا تزال في طور التكوين.
أما منظور الفاعلين في حركات التحرر أنفسهم، فقد كان مغايراً تماماً، فقد وصفوا أنفسهم بـ"الفدائيين" و"المناضلين"، وغيرها من الأوصاف، التي ضجت بها أدبياتهم؛ بغية إسباغ البطولة على سلوكهم. ومن ذلك وصف غيفارا للثائر بأنه: "الملاك الهادي، الذي هبط على منطقة لمساعدة الفقير والمضطهد"، وهو: "هدية علوية هابطة من السماء"[ط]. وقد رفضوا مراراً صفة "الإرهاب"، وأكدوا على أن ما يقومون به هو "العنف الثوري"، ذلك العنف الذي كان فانون وكتابه "معذبو الأرض" أباً روحياً له؛ حيث جعله أساساً وشرطاً لتحرر الإنسان والشعوب.
أما الإرهاب النازي الجديد، فكثيراً ما تم التعامل معه على أنه استثناء، وأن الأفراد المتورطين به يُعانون مرضا نفسيا؛ إضافة إلى أن دوافعهم فردية، في حين كان للإرهاب الجهادي الإسلامي شأنٌ آخر. فمع ضياع بوصلة السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال التسعينيات، وحاجتها لـ"صنع عدو" جديد، وإيجاد بديل لعقيدة الأمن القومي المبنية على العداء للشيوعية، وفي ظل تصاعد الأعمال الإرهابية للتنظيمات الجهادية، وفي مطلع الألفية الجديدة، وبعد أحداث 11 سبتمبر تحديداً، وجد المحافظون الجدد، مع وصولهم لسدة الحكم، في هذا الإرهاب أفضل تجسيد للعدو المفقود. وصارت "الحرب على الإرهاب"، هي العقيدة والمحدد للسياسة الخارجية للقوة الأعظم.
ولم تقتصر صفة الإرهاب على توصيف حركات وتنظيمات معينة هنا وهناك، وإنما ظهرت محاولات لربط "الإرهاب" بجوهر الثقافة الإسلامية، والاتجاه نحو أسلمة وتعريب الإرهاب[ي]، من خلال ربطه بالنص القرآني والنصوص الدينية الموروثة؛ حيث اعتبر أن المبادئ الإرهابية متجذرة في الثقافة العربية الإسلامية، وأن الحركات السلفية المتشددة هي الوارث لمبدأ "الجهاد"، والمستأنف لتراث "السياسة الشرعية". ووظفت لتأييد ذلك، أطروحة هنتنغتون (صدام الحضارات)، وما تضفيه من طابع ثقافي على الصراعات.
واليوم، صار الإرهاب المصطلح الأكثر حضوراً في الإعلام، وغدا مرتكزاً أساسياً في الخطابات السياسية. فتقمع دكتاتوريات شعوباً باسم الحرب عليه، وتصعد أحزاب من خلال رفع شعار التخويف به. وهكذا، تعددت التعريفات للمصطلح، لكن الثابت الوحيد هو التوظيف المستمر له واستثماره. وإن كان الإرهاب يعني: "توظيف العنف لتحقيق أهداف سياسية"؛ فإن المصطلح قد وُظّف أيضاً لخدمة الأهداف السياسية!
______________________________________________________
[أ] وتعني: إرادة الشعب.
[ب] والذي كان موجهاً بالأساس ضد سلطات الانتداب البريطانية، التي كانت تذهب إلى إقامة دولة ثنائية القومية، تجمع العرب مع اليهود.
[ج] لتكون بذلك أول من يوجه الأعمال الإرهابية إلى المدنيين، بعد أن كانت توجه حصراً إلى أطراف سياسية.
[د] اغتيال الكونت برنادوت على يد عصابة شتيرن.
[ه] وذلك على إثر مقتل الملك (الكسندر الأول) ملك يوغوسلافيا ومعه وزير خارجية فرنسا (لويس بارتو)، الذي كان يصحبه في مرسيليا، وقد فر الجناة إلى إيطاليا، والتي رفضت حكومتها تسليمهم بحجة أنهما ارتكبا جريمة سياسية.
[و] مثل: موبوتو (زائير)، سوهارتو (اندونيسيا)، فرانكو (إسبانيا)، تشاوشيسكو (رومانيا)، بينوشيه (التشيلي).
[ز] كما في حالة: ليبيا (دعم مجموعة أبو نضال)، إيران (حزب الله، وحركة أمل)، باكستان (دعم جماعة لشكر طيبة الناشطة في كشمير).
[ح] وإن كان هناك تنظيمات فلسطينية نالت شبه إجماع على إرهابيتها، كمنظمة أيلول الأسود، ومجموعة أبو نضال.
[ط] غيفارا، 1959، مقال: "من هو المقاتل الثائر؟".
[ي] حتى إن ذلك وظف صهيونياً لتمييع النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، باعتباره إرهاباً.